الحريات.. بين الإطلاق والضوابط
تاريخ النشر: 24th, May 2025 GMT
د. إسماعيل بن صالح الأغبري
ينشد الحريات ويسعى إليها ليس فقط بنو الإنسان من أي ملة ومدرسة وفكر؛ بل كل من يدب على هذه البسيطة ساع إليها، رافضا لكل قيد أو عائق يمنع حريته في القول والعمل؛ ذلك أنها فطرة مجبول عليها أهل البسيطة، ولذلك نرى الطائر مكسورًا وهو في قفصه وإن كان من ذهب وألماس؛ بل الوحوش ذاتها تنطلق في البرية لا تُريد حجابًا حاجزًا ولا سدًا مانعًا، والحيوانات الأليفة بالرغم من تدليلها والعناية بها والاهتمام بنظافتها إلّا أنها تتوق إلى الحرية، وتأبى وضعها في الأقفاص أو إحاطتها بالأغلال.
خُلق الإنسان حرًا، ولم تزل مقولة عمر بن الخطاب تدوي: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا"؟! فلا امتهان لكرامته، ولا مصادرة لحريته، الدينية (العقدية) والسياسية، لا في قول ولا في عمل إلّا أن الحريات المطلقة دون قيد ولا شرط تحول الإنسان من إنسان إلى نقيضه من الكائنات غير العاقلة، وتخرجه من مراعاة نفسه وغيره إلى أنانية، لا يرى إلا نفسه وما عداه السراب المحض أو له البقاء وغيره فليأخذه الطوفان.
إنَّ الليبرالية ذاتها ومع سعتها في الحريات في الأقوال والأفعال إلا أن من اختارها وضع قيودا في ممارستها فمنع ازدراء الأديان لما تورثه من عداوة وبغضاء كما منع المساس بأمن الأوطان عن طريق إثارة النعرات القومية أو العرقية وجَرَّم العدوان على الأوطان بالتجسس أو تزويد العدو بمعلومات حساسة، وما ذلك إلا تقييد للحريات؛ ترجيحاً لمصلحة الدولة والشعب على مصلحة الفرد الأناني.
وفي الولايات المتحدة الأمريكية- عقر دار الرأسمالية ومركز الليبرالية ومهوى أفئدة طلاب الحرية- يقف تمثال الحرية شامخًا إلّا أنها حرية بقيود وشروط؛ فأمريكا أولًا والإخلاص لها وتجنب كل عمل ضدها من كل مواطن أو وافد أو مقيم إقامة مؤقتة، وإلّا جاز ترحيله وحق للسلطات محاسبته؛ بل ما كان مُعابًا في الشرق الإسلامي صار مُمارسًا في أمريكا من حيث حظر المظاهرات الطلابية أو التجمعات التي قد تُثير ما يسمونه شغبًا.
فرنسا والتي يحلو للبعض تسميتها بـ"أم الحريات"؛ فالحريات فيها ليس على إطلاقها بالرغم من انفتاح ذلك المجتمع، فمن يجرؤ على التشكيك في أعداد محرقة "الهولوكوست" ولو من باب الدراسات الأكاديمية والعلمية فضلاً عن إنكارها ولو كان ذلك عن تقصي لوثائق وتتبع لمصادر، فتلك نتيجة ممنوعة؛ بل مُجَرَّمَة؟!
يصل الأمر في عدد من تلك البلاد الغربية إلى اعتبار انتقاد إسرائيل هو انتقاد للسامية! وتحريض على اليهود! وفي ذلك الوسط المُنفتح يُحرم اصطحاب بعض الحيوانات الأليفة إلى بعض الأماكن، وفي هذا تقييد للحريات وحتى في الملبس. ومع ذلك الانفتاح إلّا أنه لا يتصور إجازة خروج أحد في الشارع أو الأماكن العامة من رجال أو نساء دون وضع أية قطعة قماش على الجسم تستر على أقل تقدير السوأتين، وفي ذلك تقييد للحريات.
ومع اعتبار ممارسة الحرية من الحقوق المكفولة بالتشريعات والنُّظُم والقوانين في دول منظمة التعاون الإسلامي إلّا أن هناك ضوابط في ممارستها، وهذه الضوابط مرجعيتها ليست كمرجعية ضوابط الدول الغربية؛ فالدول الغربية وضعت ضوابطها بما يتناسب وما هي عليه، ولا يمكن استنساخ ما هم عليه ليكون في دول العالم الإسلامي.
مرجعية ضوابط الحرية في منطقتنا، هي الشريعة الإسلامية، وفي ذلك تعزيز لمبدأ الحرية الذي يَدَّعيه الغرب؛ ذلك أن دين الشعوب هو الإسلام، وفي هذا الضابط مراعاة لعامة الشعوب ولما يريده السواد الأعظم منها؛ حيث إن أي إنكار لما هو قطعي من الإسلام بالضرورة سيؤدي إلى استفزاز الشارع؛ بل قد يثور الشارع ضد هذا المُتجاوِز ما يسفر عنه أخذ الحق من هذا المُستفِز للمجتمع خارج إرادة هذه الدول الإسلامية، كما إن التشكيك في رموز الإسلام وشخوصه يعني انتهاك حرمة المقدس، وزعزعة الثقة به؛ كالطعن في الأنبياء أو الكتاب العظيم. وإذا كان الغرب يرفض التشكيك في أعداد "محرقة الهولوكوست" ولو من باب البحث العلمي والأكاديمي، فكيف يمكن إعطاء الحرية في التشكيك في ثابت قطعي من ثوابت الشريعة الإسلامية؟!
ومن مرجعية ضوابط الحرية الأعراف والعادات والتقاليد؛ فإن انتهاك أفراد من المجتمع لها يعتبر مساسًا بحرية الجمع في مقابل الفرد، ومعروف أن صياغة القوانين والتشريعات لخدمة عموم الناس لا الأفراد منهم.
ومن مرجعية ضوابط الحرية الهُوية لأي بلد من البلدان، فكل ما يمس بالهوية أو الشخصية سيؤدي إلى تعكير صفو الحياة في هذه الدولة أو تلك، ما يُنذر بخلخلة اجتماعية وأمنية وبذلك تصبح الحرية مجلبة للنقمة، وليست موردا للنعمة.
الحريات في سلطنة عُمان ذات سقف عالٍ؛ فالحريات السياسية بارزة للعيان من حيث حرية النقد والتعبير؛ بل قد يصل النقد إلى مستوى شخصيات ذات مناصب على وسائل التواصل الاجتماعي أو خلال الأحاديث البينية أو المجالس الواسعة، وقلَّما يتعرض أحد لصدور حكم قضائي عليه، إلّا في أضيق حد، كما إن التعبير عن التعاطف مع قضايا الأمة الإسلامية والإنسانية كقضية فلسطين عالي المستوى، ويتجلى ذلك من خلال غض الطرف عن تجاوز عدد من الخطباء خطب الجمعة أو ما يرفعه البعض عند التجمعات أو من خلال التغريدات. ولعل هذه الحرية السياسية في عُمان ليس لها مثيل في أقطار العالم العربي؛ بل لعل الموقف العُماني الرسمي والشعبي في نصرة فلسطين هو من أرقى المواقف وأعلاها في العالم الإسلامي؛ فالتصريحات الرسمية والبيانات في المؤتمرات والقِمَم لعلها أسبق من تعبير الجمهور وأرقى.
وإذا كان سقف الحرية السياسية والتعبير الحُر للمواطن في ميادين القضايا السياسية الساخنة فيما يجري في بعض مناطق العالم الإسلامي مترجمة عمليًا من خلال ما تمت الإشارة إليه، وكذلك انتقاد أداء المسؤولين بالوزارات الخدمية، فإن الحرية الاجتماعية مُمارَسة عمليًا إلّا أنها لها ضوابط كحال الحريات في الغرب، لها ضوابط وأُسس، منها عدم المساس بالأمن الاجتماعي، وذلك من خلال عدم إثارة ما يُنغِّص السِلم الأهلي والحياة الهانئة الهادئة في البلاد. وكذلك عند ممارسة الحرية الاجتماعية لا بُد من مراعاة ضابط عدم المساس بهُوية الدولة والشعب؛ فالأعراف والعادات والتقاليد يجب صيانتها كصيانة حقوق دين الدولة ومعتقدات الأمة ومقدساتها، ولا غرابة في ذلك؛ فالغرب نفسه لا يقبل المساس بمُفردات الأنظمة والقوانين التي سَنَّها عبر عقود؛ بل إن الدول الغربية عمدت إلى ترحيل كل لاجئ يُخالف ما عليه من أنظمة وقوانين؛ بل إن عددًا من هذه الدول تفرض قيودًا صارمة على الإعلام إن أراد تناول قضية من قضايا العالم كقضية فلسطين، إذا كان عرضها يُنافي ما عليه الغرب من توجهات داعمة لإسرائيل، وقد تتعرض الوسيلة الإعلامية للإغلاق إن تناولت قضية فلسطين بحيادية وموضوعية، وقد يتعرض الصحفي والإعلامي للطرد من المؤسسة الإعلامية.
إن الدروس الغربية في مجال الحريات لم تعد تُسمن أو تُغني من جوع، فقد كشفت الأزمة الروسية الأكرانية وما يتعرض له الفلسطينيون في غزة تناقضات الغرب وزيف ادعائه حماية الحقوق والحريات؛ فالغرب ما هو إلا مُتاجِر فيها وبها، وما هي إلّا وسيلته في التدخل في شؤون الدول من أجل فرض سيادته وهيمنته على شعوب العالم كما إنه راغب في فرض العولمة حسب ما يراه وهذا منهج مناقض للحرية.
وقد قَمَعَ الغرب لمظاهرات الشبيبة في الجامعات لا لشيء إلّا لتأييدها الحق الفلسطيني مع أنها مظاهرات سلمية، ومنع بذلك حرية الكلمة والتعبير؟! وأسكتت بعض دوله وسائل الإعلام التي حاولت تغطية أحداث فلسطين بموضوعية، وأقصت بعض دوله كل إعلامي غربي حاول كشف جرائم إسرائيل ضد الإنسانية بالوثائق والأدلة، والتهمة جاهزة وهي "معاداة السامية"!
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
بصريح العبارة
#بصريح_العبارة
د. #هاشم_غرايبه
لقد عاش أبناء جيلي زمنا طويلا مغيبين عن الوعي، تلك فترة ما كانوا يدعونها تضليلا مرحلة المد القومي.
فقد غلب على تلك المرحلة التخدير بالوعود المعسولة التي تداعب المشاعر، مثل الوحدة العربية والحرية وتحقيق العدالة الاجتماعية عن طريق الاشتراكية، والتي لم تكن سوى شعارات لم يتم ترجمة أي منها عمليا.
من الشعارات التي رفعت تلك الفترة كانت الاستقلال وعدم الانحياز الى المعسكرين الغربي أوالشرقي، وتم تشكيل تحالف من الدول النامية على رأسها مصر ويوغوسلافيا والهند واندونيسيا، لكنه لم يحقق تحالفا مستقلا عن المعسكرين، فظل لكل دولة علاقاتها بأحدهما.
بالنسبة لنا كعرب، كان ذلك التحالف أحد الوسائل التي أرضت الغرب، كونه عمليا عزز ما سعى اليه من فصل العرب عن عمقه الإسلامي، فالتحالف مع الهند استوجب القطيعة مع الباكستان، أما اندونيسيا فقد قطع امتدادها سواء الاسلامي أو مع تحالف عدم الانحياز بعد انقلاب سوهارتو الذي دبره الغرب، كما شهدت العلاقة مع تركيا برودا رغم أنها علمانية، فيما كانت العلاقة ودودة مع عدوتها تاريخيا (اليونان).
خلال تلك الفترة جرى عربيا ترويج فكرة أن الباكستان عميلة للغرب، فيما الهند متمردة عليه رافضة لهيمنته، كما جرى التعتيم على معلومة هامة وهي أن الباكستان لم تعترف بالكيان اللقيط وليس لها تبادل دبلوماسي معه، فيما تقيم الهند علاقات معه منذ الخمسينيات، فرأينا النظام العربي يغلب عليه التضامن مع الهند على حساب الباكستان رغم أن الأواصر الإسلامية تفترض العكس.
هكذا رأينا كيف أن تلك المرحلة كانت تغريرا بالأمة لقطع عرى الروابط الاسلامية، في وقت كانت فيه أمتنا أحوج ما تكون لتضامن أقطارها، لكن يبدو أن تعليمات (سايكس وبيكو) لها أولوية عند الأنظمة العربية على ماعداها.
من تلك االقضايا التي ضُللنا بها، كان الإيهام بأن المشروع النووي الباكستاني كان دعما من الغرب للباكستان في صراعها العسكري مع الهند.
لكني قرأت مؤخرا أسرار امتلاك الباكستان للسلاح النووي، والتي بينت أن مشروعها نجح لأنه جرى بسرية تامة عن أعين الغرب، فلم يكتشفوا مفاعلها النووي إلا بعد أن جرى التفجير التجريبي الأول، وعندها كانت الطيور طارت بأرزاقها، فلم يعد بيدهم شيء لإيقافه، فتركز اهتمامهم على السيطرة على العسكر، كما فعلوا مع باقي الأنظمة الإسلامية الكبيرة، التي يخشون تهديدها للكيان اللقيط، مثل تركيا ومصر والعراق والجزائر.
ذكر الباحث والمفكر الكويتي “ناصر الدويلة” قصة نجاح الباكستان بالحصول على المفاعل النووي والتي رواها له العالم الباكستاني د. عبد القدير خان.
فقد اشترت باكستان المفاعل النووي في عهد ذو الفقار علي بوتو من ألمانيا الغربية قبل توحيد ألمانيا بمبلغ ٣٠ مليون دولار.
ولتجاوز الرقابة الغربية فلم ينقل الجزء الهام وهوقلب المفاعل الى موانئ الباكستان مباشرة، بل جرت عملية نقله للكويت دون علم الأجهزة الرسمية، فقد قام باستيراده تاجر باكستاني مقيم في الكويت كان في حقيقته ضابط مخابرات باكستاني، على أنه مصنع خرسانة، والذي تولى استلام المفاعل في ميناء الكويت مدير شركة نقل باكستاني هو أيضا من المخابرات الباكستانية .
ويقول د. عبد القدير خان بأنه حضر بنفسه للكويت وكان ساعة إنزاله من الباخرة يقف على رصيف الميناء وقلبه معلق في الهواء وهو يشاهد انزاله من الباخرة على الشاحنة.
وأنه رافق الشاحنة من رصيف الميناء إلى حوطة مستأجرة في منطقة “أمغرة”، وبقي المفاعل في الكويت مدة أسبوع تحت حراسة المخابرات الباكستانية، وتمت إعادة التصدير إلى “ميناء جبل علي” بعد إضافة معدات مصنع خرسانة مستعملة للتمويه .
وتحركت القافلة برًا من الكويت إلى ميناء جبل علي، وكان جميع السائقين والمرافقين من المخابرات الباكستانية، وتم تخزين المفاعل في مستودع مستأجر من تاجر باكستاني من المخابرات الباكستانية .
وتمت إعادة تصدير المفاعل كمصنع خرسانة لباكستان بباخرة تابعة للمخابرات الباكستانية وتم تركيب المفاعل في منطقة محمية بصورة طبيعية بالتضاريس الجبلية.
هذه القصة تبين لنا أثر الإيمان في رفعة الأوطان، فهذا العالم الباكستاني الذي درس وعمل في معاهد الغرب، عاد الى وطنه وهمه الأول نفعه بما تعلم، فنجح جهاده بنقل بلده الى النادي النووي عسكريا، فيما كثير من علمائنا العلمانيين، ما عادوا لنا إلا بثقافة الانهزامية والتبعية.