زكريا الحسني

في محطات الحياة، تمرُّ علينا وجوه كثيرة، نُصادفها في الزمان والمكان، فتترك فينا أثرا ثم ترحل. لكنّ بعض الوجوه لا تكتفي بالمرور أو ترك الأثر؛ بل تتجاوزهما إلى السكون في القلب، بحيث تُقيم فيه برصيدها العالي من الرزانة، ومن الطيبة، وبالنور الخاص الذي يشعُّ من النفوس النبيلة.. هكذا كانت السيدة خالصة بنت نصر بن يعرب البوسعيدي- رحمها الله- والدة السيدة الجليلة حرم جلالة السلطان المُعظم- أبقاها الله.

لم تكن فقط خالتي، ولا مجرد جارةٍ عشتُ بالقرب منها في طفولتي؛ بل كانت حضورًا هادئًا في حياتنا، كأنَّها ظلٌ أمّ ثانية أطول من الثانية المعتادة، تمشي بيننا ببصيرة، تتحدث بفمٍ من القلب. أتذكرها جيدًا، كما لو أنَّ الزمن عاد بي إلى ذلك الحيّ؛ حيث كانت البيوت مُتقاربة، والقلوب أكثر قربًا. كنت صغيرًا، أطرق بابها حاملًا ما أوصتني به أمي، وأجد عندها دائمًا الوجه المُشرق، والابتسامة الهادئة، وكأنَّ الدنيا مهما تعقدت، تتوقف عند عتبتها لتتنفس بعض الطمأنينة.

كانت امرأةً بسيطة في مظهرها، عظيمة في جوهرها.

لم تكن كثيرة الكلام، ولكن متى تكلّمت، سكنت القلوب؛ لأنَّها كانت تتحدث بحكمة من جرّب، وصبرُ من رأى، ورِضا من فهم سرّ الحياة. كانت تعرف كيف تواسي دون أن تفرض، وكيف تُرشد دون أن تُحرج، وكيف تفيض بالأمومة حتى على من لم تلدهم.

وما من لحظة مرّت بها إلّا وكانت راسخة، ثابتة، كجبلٍ وديعٍ يحتضن من حوله بالظل والسكينة. لم تكن تهتزّ في المِحن، ولا تتبدل في الأزمات؛ بل كانت مصدر اتزانٍ وهدوء، تستمده من إيمان عميق، ورضا داخلي لا يتزعزع.

جُمعتْ في شخصها صفات الأمّ الحنون، والمرأة القوية، والإنسانة التي تقابل الجميع بابتسامة، دون أن تنقص هيبةً، أو تتخلى عن وقار. لم تكن يومًا تبحث عن الأضواء، لكنها كانت الضوء الذي يهتدي به من حولها دون أن يشعر.

ولا نبالغ إن قلنا إنّ البيت الذي سكنته، لم يكن مجرد جدران وسقف؛ بل كان موئلًا للطمأنينة، ملتقى للمُحبين، ومرسى لكل من أرهقته الحياة. كانت قد صنعت فيه كهفاً للحنان، وللبركة، يمنح الأثر الذي لا يُمحى.

وإن كان يُعرف الإنسان من أثره، فإنَّ خالتي "خالصة" تركت فيمن عرفوها بصمةً لا تُنسى، وذاكرةً لا يشوبها النسيان. وكانت ثمرة حياتها، السيدة الجليلة "عهد"، الشاهدة على هذا المجد الصامت، وعلى تلك التربية العميقة التي لا تنبت إلا من قلبٍ صادق، ويدٍ خفيّة تصنع العظمة دون أن تتحدث عنها.

واليوم.. وقد عادت روحها إلى بارئها، لا أملكُ سوى أن أرفع يديّ بالدعاء: اللهم، يا من خلقت الطُهر وأودعته في بعض الناس، اغمر روحها بنور رحمتك، وارفع مقامها عندك، واجعل قبرها روضةً من رياض الجنة، فمن كانت بهذا النقاء، لا يليق بها إلا جوارك، يا واسع الرحمة، يا أرحم الراحمين.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

الفاضل الجبوري مُدعي الحكمة والمتسلق على أبوابها فر هارباً مُعرداً نحو نيالا

الفاضل الجبوري مُدعي الحكمة والمتسلق على أبوابها فر هارباً مُعرداً نحو نيالا بعد أن أثبت كامل انحيازه في الطريق الخاطئ
قلنا ليكم ما بتقدروا قلتوا لأ

لم تغنه حكمته ولم تسعفه خياراته الخاطئة ولم تغن عنه شيئاً
إن على عقلاء أهلنا المسيرية والرزيقات اتخاذ خط للرجعة وإنقاذ ما تبقى من أبناءهم وصون دمهم والجلوس ملياً لأخذ العبرة والعظة والحكمة من هذه المغامرة الخاسرة

لن يغن عنهم عبدالرحيم طاحونة أو حميدتي شيئاً فهم في نظر آل دقلوا ليسوا سوى إمبايات وفلنقايات.
Omer Elshami Alkinane .

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • شارع في السماء بمطار العاصمة الإدارية في مصر.. ما حقيقة الصورة؟
  • الفاضل الجبوري مُدعي الحكمة والمتسلق على أبوابها فر هارباً مُعرداً نحو نيالا
  • المرصد الأورومتوسطي: إسرائيل تصعد سياسة التهجير والتجويع تمهيدًا لطرد جماعي للفلسطينيين
  • ذهب اليمن بين صنعاء وعدن: فجوة أسعار تلامس السماء خلال تعاملات اليوم
  • أبواب السماء مفتوحة.. دعاء آخر ساعة في يوم الجمعة | ردده الآن
  • سعادتي كانت كبيرة.. تعليق مايان السيد على تكريمها من السيدة انتصار السيسي
  • وقوف في السماء.. شركات الطيران تراهن على مقاعد جديدة لخفض التكلفة
  • إسرائييل تصعد الاغتيالات عشيّة الجولة الانتخابية الجنوبية
  • مصادر إسرائيلية تتحدث عن تفاصيل "ضربة إيران"