لجريدة عمان:
2025-06-12@01:02:15 GMT

الأخلاق الناعمة في المجتمع العمانيّ

تاريخ النشر: 10th, June 2025 GMT

كثيرا ما نسمع عن «الثّقافة النّاعمة»، أو «الدّبلوماسيّة النّاعمة» من حيث ربطها بالتّأثير والجاذبيّة دون إكراه، أو دعوة مباشرة، ولها تأثيرها البعيد، ويمكن تمثيلها بالنّقط المتباينة، ثمّ تتسع هذه النّقط أفقيّا بشكل دائري للتحوّل إلى ظاهرة مؤثرة، وهذا ينطبق تماما على الأخلاق. والأخلاق هنا بمعنى السّجايا الّتي عبّر عنها الأثر «الدّين المعاملة»، وليست بالمعنى المباشر للقيم الكبرى الّتي لها أبعاد إجرائيّة إلزاميّة مباشرة كالمساواة والعدالة.

وفي المقابل لها أيضا مصاديق أخلاقيّة أفقيّة تدخل في دائرة السّجايا وحسن التّعامل مع الآخر.

وهنا أضرب مثلا بعُمان؛ فمع تأريخ عُمان الموغل في القدم، وامتدادها قديما شمالا وجنوبا، وتأثير الجانب البحريّ شرقا وشمالا وجنوبا أيضا على الخصوص، وما تبع ذلك من هجرات قبليّة، وتأثيرات دينيّة وثقافيّة؛ لم تسوّق عُمان مع نهضتها الحديثة نفسها إعلاميّا بشكل كبير إلّا في الفترة الأخيرة. لهذا لمّا تسافر أحيانا حتّى إلى دول عربيّة، وتذكر لهم «عُمان» يسأل أين عُمان؟ فتجيبه إلى أقرب معلم قريب منها، أو رمزيّة سياسيّة شهيرة.

في المقابل هناك جانب عكسيّ تماما؛ فمع النّهضة الحديثة أيضا كانت هناك هجرات عمّاليّة للعمل في عُمان، خصوصا من الدّول الآسيويّة القريبة، ومن بعض الدّول العربيّة. وهؤلاء تعاملوا مع العمانيين في أسواقهم ومنازلهم ومدارسهم وأماكن عملهم عموما، ولم يكن هناك خطّة سياسيّة أو دينيّة أو ثقافيّة مرسومة للتّأثير عليهم ولو إيجابا. بيد هناك «أخلاق ناعمة» -إن صح التّعبير- تمثلت في حسن تعامل العمانيين معهم في الجملة، ولا يعني ذلك عدم وجود سلبيات اجتماعيّة وتعامليّة خصوصا من بعض المنتفعين كاستغلال الكفالة سابقا من بعض أفراد المجتمع استغلالا سلبيّا، لكنّها لا تشكّل ظاهرة أكثر من كونها حالة فرديّة كأيّ مجتمع بشريّ آخر، إلّا أنّ الصّفة الغالبة أفقيّا حسن التّعامل مع الجميع. شكّل هذا بُعدا أخلاقيّا نُقطيّا تحوّل في الخارج إلى صورة حسنة حول عُمان، لتمدّد هذه النّقط أفقيّا.

بدأ هذا التّفكير لديّ مبكرا قبل حوالي ستة وعشرين عاما لمّا كنت في أحد الأسواق الّتي يكثر فيها الوافدون؛ لشراء غرض إلكتروني لأحد المساجد في بُهلا عام 1999م تقريبا، فدخلت إلى أحد المحلّات، يبيع فيها رجل مسنّ، وكان ملتحيا، ولا أدري أكان هندوسيّا أم سيخيّا، وكنت حينها لا أفرّق بينهما، وكنت أمازحه وأنا بهيئتي الدّينيّة، حينها قال لي - ولا زلت أذكر كلامه -:«أتعجب من حسن تعاملكم معنا، وعدم التّفريق بيننا». ثمّ ذكر لي بعض معاناته في دول ما عمل فيها، خصوصا وهو في هيئته الدّينيّة.

بعدها كانت لدي صور ونماذج عديدة، قد يكون ذكر بعضها فيه شيء من الحساسيّة لا يناسب المقام، بيد أني وأنا قادم هذه الأيام من «نوراليا» في سيريلانكا لأشارك المسلمين هناك عيد الأضحى والكتابة عنه؛ أدركتُ مدى حضور هذه «الأخلاق النّاعمة» في المجتمع السّيريلانكيّ مثلا. وأنا مثلا في العاصمة «كولومبو» في المقهى أو الشّارع أو الشّاطئ أو السّوق أو المسجد أو النّزل أو القطار أو (التّك توك) - وعادتي أختلط بالنّاس، وأحاول أقترب منهم - إلّا أنّ السّيريلانكيّ هو من يقترب منّك. وفيهم سمة اللّطافة وحسن المعشر.

ولمّا يسألك من أين؟ وتجيبه: من عُمان؛ لم أجد أحدا منهم في الجملة سألني: أين عُمان؟ لكنّه يبادر مباشرة بالقول: أميّ أو أختي أو أبي أو أخي أو عمّي أو صديق لي عمل أو يعمل في عُمان، ويرجع بالثّناء عنها. هذا شاهدته إلى حدّ التّواتر، وليس حالة أو حالتين.

وفي النّزل «نوراليا» - وكان ملكا شخصيّا لعائلة بوذيّة أصلها من مدينة «كاندي» حوّل إلى نزل صغير - كان من يعمل فيه ابنهم ذو التّسعة عشر عاما، مع خادمه الّذي كان في الأربعين من عُمره. وكانوا في قمّة الكرم والسّماحة والبشاشة، فسألته أين باقي أسرته؟ قال لي: والدتي تعمل ممرضة في كاندي ومعها أخي الأصغر، وأبي يعمل مهندسا في مسقط في عُمان، وحاليا هو في مسقط.

وذكر لي الصّورة الحسنة الّتي ينقلها عن عُمان، وحسن تعامل النّاس معه، وكانوا يقدّمون لي مع كلّ وجبة تمر الخلاص العمانيّ. وجدت هذا الثّناء أيضا في المسجد القريب في قرية «Haweliya»، وينسب إليها. وجدت في المسجد شبابا من جماعة التّبليغ الشّهيرة، وكانوا خارجين للدّعوة في سيرلانكا أربعين يوما، وفي هذا المسجد سبعة أيام، فجاء يسلّم عليّ أمير الجماعة، وقالوا لي: هذا أميرهم في سيريلانكا عموما. وقد زار عُمان ويذكر مشاهد حسنة عنها، إلّا أنّ حسن تعامل النّاس معه هو الّذي زاد حسن انطباعه عنها، وجذبه إليها.

ذكّرني هذا بالرّجل السّيريلانكيّ المسن الذي وجدته في مسجد العاصمة هانوي عاصمة فيتنام في رمضان الماضي، وكتبتُ عنه في مقالي: «عيد الفطر في هانوي»، ويتمثل في أنني «وجدت رجلا من سيرلانكا عمل في عُمان ما بعد 1977م، وكان يسكن في روي، ويثني كثيرا على عُمان، وبعد 1979م نقلته الشّركة إلى هانوي، ولا زال فيها حتّى اليوم، بيد أنّ زوجته لا زالت تعمل في عُمان»، إلّا أنّه يملك حنينا وذكريات حسنة عن عُمان. والشّاهد بين صاحبينا أنّ عُمان -والحمد لله- حافظت على هذه الحسنة «الأخلاق النّاعمة»، فلم تتغيّر بسبب التّحديث، كما يجب أن نحافظ عليها لنورّثها للأجيال الأخرى، وهذا خير ما يورث.

كما أنّ السّياسة في عُمان في علاقتها الخارجيّة، وفي دبلوماسيّتها المتزنة حافظت على هذه الصّورة الحسنة. وما ذكرته سلفا لا يعني ملائكيّة المجتمع العمانيّ، فهناك هنات؛ لأسباب إجرائيّة أو فرديّة سبق أن ذكرتها في أكثر من مقالة، وبعضها طبيعيّ كأيّ مجتمع آخر، إلّا أنّ الظّواهر العامّة لا تقرأ من خلال هذه الجزئيّات الطّبيعيّة في المجتمعات البشريّة، ولا يبنى عليها ظواهر وصور كليّة.

وقد ذكرت نماذج من الأخلاق النّاعمة لدى العمانيين في مقالات أخرى في جريدة عُمان، وفي بعض كتبي كالتّعارف، وإيران التّعدّديّة والعرفان. وما أرمي له هنا ضرورة المحافظة على هذه الصّورة الحسنة في المجتمع العمانيّ، وقد لا نلقي لها اهتماما آنيا، لكن لها تأثير كبير على البعدين الجغرافيّ والوطنيّ والتّأريخيّ؛ فالّذي يشاركنا اليوم سوف يرجع غدا إلى بلده، وينقل ما شاهده لأصدقائه وأبنائه وأحفاده. لهذا يجب الحدّ من الصّور السّلبيّة إجرائيّا وفرديّا، والّتي تؤثر سلبا على هذه الصّورة الحسنة، حتّى لا تتحول إلى ظاهرة تنقض ما سبق.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الأخلاق الن فی المجتمع فی ع مان على هذه إل ا أن

إقرأ أيضاً:

العيد والامتحانات وجدول منفصل عن الواقع

 

 

 

سعيد بن سالم بن سعيد الكلباني **

 

تُعد المُناسبات الدينية في سلطنة عُمان، وعلى رأسها عيد الأضحى ليس فقط إجازات رسمية. فهي لحظات اجتماعية ذات عمق ثقافي وديني تعيد ترميم الروابط العائلية، وتمنح الناس فرصة لتجديد صلتهم بهويتهم الاجتماعية والروحية والثقافية. المُفاجأة هذا العام جاءت مع قرار وزارة التربية والتعليم تقسيم الامتحانات النهائية إلى مرحلتين: ما قبل وما بعد العيد؛ مما خلق حالة من الارتباك العائلي والتربوي والثقافي وأثار تساؤلات مشروعة حول مدى إدراك السياسات التعليمية للخصوصية الثقافية العُمانية المتجذرة في عُمق التاريخ المتراكم عبر العصور.

هذا القرار لم يكن تنظيميًا مرهقاً فقط، فقد مسّ جوهر تجربة العيد لدى الطالب وأسرته ومجتمعه؛ فعيد الأضحى ليس احتفالًا للمسلمين كطقوس عابرة، وإنما سلسلة من التقاليد المتجذّرة تشمل صلاة العيد، وصلة الرحم، والأضاحي، واللقاءات المجتمعية والعادات والتقاليد المتوارثة التي تمتد لأربعة أيام من الفرح والأهازيج والتجمعات العائلية في المجالس والحارات والتي لها دور عظيم في تعليم الأبناء روح المجتمع المتماسك والصلابة التي تجعل منه ذا مهارات سلوكية وقيادية في المستقبل.

لكن عندما يجد الطالب نفسه في وضع نفسي مزدوج (بين فرحة العيد وهمّ المذاكرة) تتفكك الحالة الذهنية وتضعف قدرة الطالب على الاستعداد والتركيز. وقد أظهرت دراسات حديثة، مثل تلك الصادرة عن Child Mind Institute (2023)، أن الضغط الدراسي خلال الأعياد يزيد من مستويات القلق، ويُؤثر على النوم، ويضعف العلاقات الأسرية وتختفي المهارات المكتسبة من المجتمع.

من الناحية الاجتماعية، فإنَّ المجتمع العُماني ما زال يحتفظ بوحدته العائلية الواسعة، خصوصًا في القرى والمناطق الداخلية. وغالبًا ما يُسافر الأبناء والأحفاد من المدن إلى القرى في هذه المناسبة. وعندما تُقسَّم الامتحانات حول العيد، تضطر العائلات إلى البقاء في المدن أو تقليص زياراتها وكم من العوائل عادت إلى المدن الرئيسية كمحافظة مسقط وتركت خلفها فرح العيد بين أهاليهم وعوائلهم، وهذا يُضعف تقاليد التلاقي العائلي ويؤثر على تماسك المجتمع في واحدة من أكثر لحظاته رمزية.

من الناحية المؤسسية، يُظهر هذا القرار أيضًا ضعف التنسيق بين الجهات الحكومية. فوزارة التربية لم تأخذ في الحسبان وزارات أخرى مثل الأوقاف والشؤون الدينية ووزارة التنمية الاجتماعية، التي تعلم أهمية العيد في النسق الثقافي والديني العُماني. كما لم تُراعِ تأثير ذلك على الأسر العاملة في القطاعات الحكومية والخاصة، والتي اضطرت إلى تعديل خططها العائلية والسفر ذهابا وإيابا بسبب هذا الجدول المجزأ.

اللافت أنَّ القرار لم يأتِ بناءً على دراسات أو مشاورات مجتمعية، رغم أن الدراسات الأكاديمية تؤكد أن السياسات العامة الناجحة هي تلك التي تُبنى بالتناغم مع القيم والعادات المجتمعية.  وهو ما طرحه Hofstede في نظريته الثقافية (2010)؛ حيث أشار إلى أن المجتمعات ذات التماسك العالي (مثل مجتمعنا العُماني) تتفاعل بقوة مع أي سياسات تتعارض مع بنيتها الثقافية فقد رأينا حراكا انتقاديا في عدد من قنوات التواصل المجتمعي والتي تعد اليوم منصات تقيس مدى رضا المجتمع من عدمه على مثل هذه القرارات التي تمس تماسكه وعرفه الديني والثقافي.

لهذا نقول ولسان حالنا يُردد: إن النجاح في التعليم لا يُقاس بعدد أيام الدراسة أو انتظام الامتحانات، وإنما بمدى احترام النظام التعليمي لمناسك المجتمع الدينية، ولنفسية الطالب، وسياق مجتمعه، وثقافته المتجذّرة. وعندما يُفصل الطالب عن محيطه العائلي في لحظة اجتماعية ودينية شديدة الخصوصية، فإنَّ أثر ذلك ينعكس مباشرة على أدائه وتفاعله الدراسي والأكاديمي.

لذلك، فإنَّ لحظات مثل الأعياد لا ينبغي أن تُعامل كفجوات زمنية في التقويم الرسمي، بل كمساحات حيوية تُعيد تشكيل الروح الجمعية للمجتمع. فالأعياد في ثقافة كالثقافة العُمانية تؤدي وظيفة اجتماعية تتجاوز الاحتفال، فهي ترمم العلاقات، وتُعيد بناء الثقة العائلية، وتمنح الأفراد شعورًا بالانتماء والاستمرارية.

إنَّ تجاهل هذه الوظيفة وتحجيمها من خلال قرارات إدارية صارمة، يُفضي إلى تجزئة الزمن الاجتماعي، وتحويل ما يفترض أن يكون لحظة تواصل إلى مساحة توتر وتشتت. ومن هنا، تأتي الدعوة إلى إعادة التفكير في السياسات العامة، ليس من منظور تنظيمي فقط، وإنما من منطلق اجتماعي وإنساني يحترم إيقاع الحياة الدينية والثقافية، ويعيد للمناسبات المجتمعية دورها في بناء التماسك الوطني.

** باحث دكتوراه في الفلسفة الإدارية والقيادية

مقالات مشابهة

  • أخبار قنا.. كلب مسعور يعقر 8 أشخاص بفرشوط.. استئصال ورم كيسي معقد
  • وزﯾﺮ اﻟﺨﺎرﺟﯿﺔ ﯾﻌﻘﺪ اﺟﺘﻤﺎﻋﺎ ﺛﻼﺛﯿﺎ مع نظيريه العماني والإﯾﺮاني
  • العيد والامتحانات وجدول منفصل عن الواقع
  • "جامعة 4.0".. جامعة المجتمع المعرفي
  • وداع العيد ومرافئ الأخلاق
  • المخرج الكبير داود عبد السيد يواصل رحلة العلاج.. ووزير الثقافة يتابع حالته عن كثب
  • سر الابتسامة
  • عصام كاظم جري… اللغة الناعمة بعطرها الممسوس بتقانات الاثراء وتجويف الاساطير التراثية الميسانية عمقا ودلالة ومعنى
  • إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ