مطار صنعاء والمطارات اليمنية.. حين يصبح ألحق في الحياة رحلة مؤجلة
تاريخ النشر: 12th, June 2025 GMT
اليمن.. شعب في عزلة جوية
منذ عام 2015، تعرض قطاع الطيران المدني في اليمن لدمار واسع، حيث تدمرت معظم المطارات، والطائرات المدنية وانخفضت حركة النقل الجوي بنسبة تصل إلى 85%. ووفقًا للتقديرات، تكبّد هذا القطاع خسائر فادحة تجاوزت 5.8 مليار دولار، فيما فقد آلاف العاملين مصدر رزقهم، وتوقفت سلاسل الإمداد الحيوية، خاصة الطبية منها.
في اليمن، حيث تثقل المعاناة بسبب الحرب كاهل الناس، لم يكن استهداف مطار صنعاء الدولي وحصاره مجرد قرار لوجستي، بل ضربة موجعة لقلب البلاد النابض. هذا المطار، الذي كان المتنفس الجوي لأكثر من 75% من سكان الجمهورية، خفت صوته بعد أن طالت أيدي الدمار معظم المطارات الأخرى، بما فيها مطارا تعز والحديدة. لقد أُغلق باب السماء في وجه شعب بأكمله،، تحوّل السفر من حق أساسي إلى أمنية صعبة، وأصبح المطار المغلق رمزًا لمعاناة لا تزال تبحث عن نافذة للفرج.
ورغم أن بعض المطارات لا تزال تعمل، كمطارات عدن وسيئون والمكلا، إلا أن قدرتها التشغيلية لا تفي بحجم الحركة المطلوبة، ويواجه المواطنون صعوبات كبيرة في الانتقال اليها لبعد المسافات ومخاطر الطريق و لمحدودية الرحلات وندرة الحجوزات. هذا الوضع لا يقل مأساوية عن الإغلاق الكامل، حيث تتحول الحاجة إلى السفر إلى معاناة إضافية، خاصة للمرضى والطلاب والمغتربين.
تقديرات الأمم المتحدة تشير إلى أن أكثر من 32 ألف مريض حُرموا من السفر للعلاج، ومثلهم آلاف الطلاب انقطعوا عن دراستهم في الخارج، وتشتتت عائلات تقطعت بها السبل. غير أن هذه الأرقام، رغم قسوتها، لا تروي القصة كاملة. فبحسب إحصائيات وزارة الصحة اليمنية، فإن أكثر من 480 ألف مريض لم تُتح لهم فرصة الوصول إلى العلاج المنقذ للحياة خارج البلاد، ليظلوا أسرى الألم والمعاناة في انتظار نافذة لا تُفتح.
هذه ليست أرقامًا فحسب، بل وجوه، وأسماء، وأحلام أُطفئت على بوابات مطارات مغلقة، في بلد تتضاعف فيه الحاجة ويقل فيه الأمل.
وفي مشهد يفوق حدود المأساة، فقد الآلاف حياتهم؛ إما لعجزهم عن السفر لتلقي العلاج، أو أثناء محاولاتهم المضنية للوصول برًّا إلى مطارات بعيدة مئات الكيلومترات. وتشير تقارير وزارة الصحة اليمنية إلى وفاة ما بين 25 إلى 30 مريضًا يوميًا، فيما يظل آلاف آخرون أسرى الألم، ينتظرون مصيرًا غامضًا في ظل استمرار الحصار المفروض على المطارات لاسيما مطار صنعاء الدولي الشريان الرئيسي لمواطني الجمهورية اليمنية .
ولم يقف هذا الحصار عند الأحياء فحسب، بل طالت آثاره الموتى أيضًا؛ حُرم كثير من اليمنيين من حقهم الأخير في أن يُدفنوا في مسقط رؤوسهم" وكأن الوطن أُغلق في وجوههم حتى عند الوداع الأخير. أمام هذا المشهد الإنساني المفجع، ارتفعت أصوات 12 منظمة دولية لتُدين استمرار إغلاق مطار صنعاء وتصفه بجريمة لا تُغتفر، في محاولة يائسة لفتح نافذة أمل، لكن تلك الصرخات اصطدمت بجدار من الصمت والتجاهل، لتبقى المعاناة معلّقة بلا أفق.
استئناف مطار صنعاء الدولي بارقة امل لم تكتمل
بعد سنوات طويلة من الإغلاق الكامل، حمل منتصف عام 2022 بارقة أمل خافتة؛ إذ فُتح مطار صنعاء الدولي جزئيًا، لتُستأنف منه رحلة وحيدة لشركة وحيدة وإلى وجهة واحدة فقط. كانت تلك الخطوة ثمرة مفاوضات شاقة، لكنها بدت كقطرة في بحر الاحتياج، وعاجزة عن مواكبة آمال ملايين اليمنيين الذين أنهكتهم الحاجة إلى السفر للعلاج، أو لمّ شمل عائلاتهم، أو حتى وداع أحبتهم الراحلين. لقد كان فتحًا رمزيًا بالكاد لامس جدار الأمل، دون أن يفتح نوافذه على مصراعيها، فبقيت القلوب معلّقة بين رجاء لا يكتمل وواقع لا يرحم.
لكنّ المشهد لم يلبث أن عاد إلى نقطة البداية؛ فقد تم استهداف المطار والطائرات من جديد، وتوقفت الحركة فيه كليًا، لتُغلق السماء مرة أخرى في وجه من لا يملكون سوى الأمل. وكأن سنوات الانتظار السابقة لم تكن كافية، عادت المعاناة لتطرق الأبواب ذاتها، وتجدد الألم ذاته. حُرم المرضى من حقهم في السفر لتلقي العلاج، وتعذّر على الطلاب والمغتربين العودة إلى أهلهم، وأصبح السفر – وهو أبسط حقوق الإنسان – حكاية من الخيال، تُروى ولا تُصدّق، لما فيها من قسوة لا تحتمل، ووجع لا يُنسى.
أن تُمنع من السفر للعلاج، أو من العودة إلى وطنك، هو أن تُسجن تحت سماء مفتوحة؛ ترى فيها الأمل بعينيك، دون أن تلمسه بيدك.
عندما يتحول الطيران إلى ورقة سياسية
إن أخطر ما يمكن أن يُصيب النقل الجوي هو تسييسه. حين يُمنع المواطن من السفر بسبب صراعات او نزاعات سياسية أو تجاذبات إقليمية، يتحوّل الإنسان إلى رهينة. ويُجمع الخبراء على أن استخدام خدمات النقل كوسيلة ضغط أو أداة عقاب جماعي، يُعد انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، ، لما يترتب عليه من آثار مدمرة على حياة الأفراد، خاصة المرضى والأطفال وكبار السن. إن حرمان الناس من حرية الحركة لا يوقف الرحلات فحسب، بل يوقف الحياة ذاتها في كثير من الحالات.
المطار ليس بوابة سفر.. بل شريان حياة
في عالم يزداد ترابطًا وتسارعًا، لم يعد السفر ترفًا، بل حاجة إنسانية أساسية. من لا يستطيع السفر، قد يُحرم من فرصة العلاج، من التعليم، من العمل، ومن احتضان أحبائه في لحظاتهم الأخيرة. المطار، في جوهره، ليس مبنى زجاجيًا في أطراف المدينة، بل هو نقطة وصل بين الأمل والواقع، بين الحياة والمصير.
هل آن أوان الاعتراف بحق الطيران كحق إنساني؟
العدالة ليست مجرد شعارات ولا تطير وحدها، لكنها تحتاج إلى مدرج للهبوط، وإلى رحلة تقلع من ضمير العالم نحو إنصاف الشعوب المنكوبة.
لقد آن الأوان لإعادة تعريف الطيران كمرفق عام إنساني، لا كامتياز سياسي أو أداة هيمنة، بل كحق أصيل يجب أن يُصان، تمامًا كحق الإنسان في الحياة، والتعليم، والكرامة.
فلنعمل معًا لضمان ألا تتحول المطارات إلى أدوات عقاب، بل تبقى بواباتٍ للأمل والإنصاف. فالمطار ليس مجرد مبنى؛ بل هو جسر إنساني يصل بين الألم والرجاء، وبين من ينتظر العلاج، ومن يودّع الحياة.
إن استمرار صمت العالم وتجاهل معاناة ملايين اليمنيين لا يمكن اعتباره مجرد غياب للاهتمام، بل هو تقصير مؤلم في أداء الواجب الإنساني. فحين تُغلق أبواب السفر في وجه المرضى والطلاب والمحتاجين، ويُحرم الناس من حقهم في التنقل والعلاج ولمّ الشمل، فإن الألم يتجاوز حدود الوطن ليصبح جرحًا في ضمير الإنسانية.
دعونا نوحد الجهود لرفع الحصار عن مطار صنعاء الدولي وبقية المطارات اليمنية ، وأن يُصان الحق في الطيران كحق إنساني لا يقبل التأجيل.
*مدير عام النقل الجوي- اليمن
المصدر: ٢٦ سبتمبر نت
كلمات دلالية: مطار صنعاء الدولی
إقرأ أيضاً:
فلسفة الحياة والموت.. رحلة في قطارٍ لا عودة منه
كلنا مسافرون... مهما طال بنا المقام أو اتسعت بنا الديار. يظن البعض أنه امتلك الأرض، وسجّلها باسمه، وعلّق على الجدران صكوك الملكية وعقود التمليك، لكنه في الحقيقة لم يملك سوى حق انتفاع مؤقت، مثل تذكرة القطار التي تخوّلك الجلوس في مقعدٍ ما إلى أن تصل المحطة الأخيرة، فينهض آخر ليجلس مكانك ويكمل الرحلة من بعدك.
الحياة ليست سوى رحلة عابرة، والقطار يمضي بنا جميعًا، لا فرق بين من يركب الدرجة الأولى ومن يجلس على مقعدٍ خشبيٍّ في آخر العربة. الكل في النهاية ينزل في المحطة ذاتها، ويترك كل شيء خلفه؛ المال، والأرض، والقصور، وحتى الثياب التي كانت له يومًا ستُبدَّل بثوبٍ بسيطٍ لا جيوب له.
يا من تلهثون خلف الميراث، وتتنازعون على فتات الدنيا كأنها ستدوم... يا من تتباهون بالمناصب والقصور والسيارات، تذكّروا أن الأرض التي تمشون عليها ستضمكم جميعًا، وستتعامل معكم بعدلٍ مطلق؛ لا غنيّ فيها ولا فقير، لا حاكم ولا محكوم، لا وصيّ على مالٍ ولا وارث لثروة.
قف يومًا على أعتاب المقابر، وتأمّل الوجوه التي كانت يومًا تملأ الدنيا ضجيجًا وصخبًا. كانوا يعتقدون أنهم الأذكى والأقوى، وأنهم أصحاب القرار والكلمة، لكن الصمت ابتلعهم جميعًا، وأصبحوا أسماءً منقوشة على حجرٍ باهتٍ لا يُقرأ إلا من قريب.
أين بيوتكم يا من شيدتم القصور؟
أين أراضيكم يا من تفاخرتم بالهكتارات؟
أين ليالي عزكم وسهراتكم ومآدبكم؟
حتى مجالس عزائكم أصبحت تُقام على عجل، بلا دموعٍ حقيقية، وكأن الرحيل صار عادة من عادات الحياة.
هل تعلم أن كل من تصارعوا على الحياة، ورفعوا رايات الكبرياء والأنانية، تركوا كل شيء خلفهم؟
بيوتهم التي كانت عامرة بالزينة والأنوار، أصبحت اليوم تعوي فيها الكلاب، لأنهم تركوا ذريةً ضعفاء، لم يجدوا إلا أطلال الماضي يفتشون فيها عن دفءٍ مفقود.
الحياة في جوهرها حلم عابر، واستيقاظنا منها هو الموت. الفطن من يدرك أن الرحلة قصيرة، فيزرع خيرًا، ويترك أثرًا، ويعطي دون انتظارٍ للمقابل. فليس الغنيّ من جمع، بل من قدّم، وليس الباقي من عاش طويلًا، بل من ترك بصمة في القلوب.
فلنخفّف من جشعنا، ولنصالح أنفسنا قبل أن نصالح الأرض التي تنتظرنا. فكل ما بين أيدينا — مهما بدا عظيمًا — ليس إلا حق انتفاع مؤقت، سينتهي حين تُعلن صافرة الرحيل الأخيرة.
وفي نهاية الرحلة...
حين يهدأ ضجيج العربة، وتغيب الوجوه في غبار الطريق، ندرك أن القطار لم يكن يسير نحو نهاية، بل نحو بداية جديدة. هناك — في الضفة الأخرى — لا تذاكر ولا مقاعد، بل عدل مطلق وسلام أبدي. هناك فقط يُكشف المعنى الحقيقي للسفر، وتُعرف قيمة الزاد الذي حملناه معنا من الدنيا، لا ما جمعناه فيها.
فيا أيها المسافر، خفف متاعك، وأحسن زادك، فالرحلة قصيرة، والمقام طويل... والقطار لا ينتظر أحدًا....!!
كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية ...!!