نساء غزة.. فقد وألم وحياة مأساوية لا تنتهي
تاريخ النشر: 15th, June 2025 GMT
بكاء الأطفال الذين يرغبون في الحصول على الطعام أجبر جدتهم أم محمد (54) عامًا للعودة إلى منزلها شمال قطاع غزة الذي نزحت منه قبل شهر بسبب القصف الإسرائيلي المتواصل على تلك المنطقة، مشيًا على الأقدام سارت أم محمد مسافة تقدر بـ7 كيلومترات حتى وصلت منزلها الذي تحول إلى ركام، دقائق حتى حاصرتها طائرات الكوادكابتر ومنذ ذلك الحين لم تعلم عنها العائلة شيئًا.
تقول ابنتها ولاء: «اضطرت أمي للخروج من بيت لاهيا دون جلب أي شيء، خرجت بسرعة برفقة أختي التي وضعت طفلًا إلى غزة، عشنا داخل مخيم في منطقة الميناء، ما إن سمعت أمي بعودة البعض إلى الشمال حتى ذهبت معهم من أجل الحصول على ما تبقى من طعام لإطعام أحفادها الذين يعانون كغيرهم من سوء التغذية بسبب المجاعة».
على مقربة منا يجلس زوجها أبو محمد ممسكًا بهاتفه الذي كان يرن، كان هناك شخصًا يبلغه أن الشاب الذي رافق زوجته أثناء عودتها للشمال قد استشهد بسبب قنبلة أصابته بشكل مباشر فيما بقيت الأخبار مجهولة عن زوجته التي لا يُعرف مصيرها حتى اللحظة، مجموعة من النسوة من أخوات وبنات وأقارب زوجته يترقبن الأخبار بالدموع والأسى على مصيرها المجهول.
كان أبو محمد يداري دموعه عندما أخبرني قائلًا: «ناشدت كل المؤسسات والصليب الأحمر الدولي، والدفاع المدني الفلسطيني، والهلال الأحمر الفلسطيني، ومنظمة الصحة العالمية وكل المؤسسات من أجل معرفة مصير زوجتي لكن دون جدوى، لم يتمكن أحد من الوصول إلى منزلنا وأصبحت زوجتي التي عشت معها أكثر من خمسة وثلاثين عامًا في عداد المفقودين.
أصبحت الحياة في قطاع غزة مستحيلة بسبب تداعيات الحرب التي دخلت شهرها العشرين دون توقف، هذه الحرب دمرت البنية التحتية والمستشفيات والمباني والمدارس والجامعات والمرافق العامة، لم يكتف الاحتلال الإسرائيلي بذلك بل تعمد الاستمرار في إبادته الجماعية للبشر والمرافق الزراعية والحيوانية والبيئية فيما تفشت الأمراض بأنواعها المختلفة وغطت مياه الصرف الصحي معظم الأماكن التي بدورها تسببت في انتشار الأمراض المعدية بين النازحين الذين يعيشون حياة مأساوية بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
بدأت سميرة علي (34) عامًا، النازحة من مدينة بيت حانون بغزة إلى أحد مراكز الإيواء غرب مدينة غزة: «يختلف عن أقرانه من اﻷطفال، في الجري واللعب، خاصةً في الصيف، هذا الفصل الذي يؤثر عليه «كان هذا الحديث عن معاناة ، عمر (8 أعوام)، استرسلت في الحديث عن فرص نجاة طفلها المصابَ بمرض وباء الكبد نوع B منذ صغره، ورحلة مرضه وعجز العائلة النازحة عن تأمين علاج الطفل في ظل استمرار الحرب على قطاع غزة.
تقول سميرة: «بدأت القصة منذ أن عانى عمر، من وهن شديد وارتفاع في درجات الحرارة وبكاء مستمر. حينها، لم يكن يتجاوز عمره الأربع سنوات، انطلقت به إلى قسم الأطفال بمشفى النصر للأطفال بغزة لطلب العلاج، وفور وصولنا طلب الطبيب بعد الكشف عليه بعض التحاليل، بعدها كانت الصدمة كبيرة عندما أخبرنا الطبيب بأن أحمد مصاب بالتهاب الكبد الوبائي نوع B نشط، وهو مرض لم أسمع به من قبل- ويلزمه مغذٍّ وطعام خاص وعلاج مستمر واستخدام أدوات خاصة وعدم المخالطة مع الأطفال خصوصًا فيما يتعلق بالأكل، بالإضافة إلى طرق عديدة للتعامل مع هذا الفايروس النشط الذي ممكن أن ينتقل من شخص لآخر، كنت أتبع التعليمات بشكل كبير حيث يتوفر العلاج المجاني داخل المستشفى».
وأردفت قائلة: «أثناء فترة العلاج عندما شاهدت الإبر تُغرز في أوردة ابني، لم أستطع التحمل أبدا، وكدت أن أنهار تماما أمام بعض المواقف، خاصةً عندما تعثّر المُمَرضون في العثور على وريد في يديه، واضطروا إلى وضع الأدوية عن طريق وريد في الساق حسبتها مرةً واحدةً وسينتهي العذاب، لكن فاجأني الطبيب بقوله: إنه يجب أن يتلقى هذا العلاج شهريا».
وتضيف سميرة: «أول سؤال وجهه إليّ الطبيب: هل أنت متزوجة من قريب لك؟ وكم عدد أولادك؟ لأجيبه بأن زوجي يكون ابن عمي، وأن لدي ثلاثة أطفال، فطلب مني إجراء تحاليل لأبنائي».
دموعها انهمرت عندما أخبرتني بالتفاصيل: «عندما أجريت التحاليل، كان ابني أحمد حاملا للمرض، أما ابنتي سلمى فقد كانت سليمة، أوضحت التحاليل بأنني مصابة والناقلة الأساسية للمرض، لكن لا يبدو أي تأثير على صحتي إلى اليوم، يطلق على نوع الكبد الوبائي الذي يصيبني بالخامل».
وبينما كانت سميرة تتحدث، كان أحمد وعمر يجلسان على كرسي يتناولان بعض الأطعمة، يتسع مقعدها لشخص واحد فقط، ولكن نظرا إلى صغر جسديهما بالنسبة إلى عمرهما، فإن الأمر سهل ليجلسا معا بسبب نقص الطعام والمجاعة المنتشرة.
تقول سميرة: «لا توجد أدوية متوفرة اليوم، أحتاج إلى أدوات نظافة وماء جار، الخيمة التي نعيش فيها صغيرة وسيئة التهوية، أصبحت مناعة أطفالي ضعيفة جدا بسبب قلة الطعام الصحي وعدم تناول الفواكه واللحوم والبيض والخضروات، أخشى أن أفقد أبنائي بسبب استمرار الحرب والتجويع، عندما أسمع عن موت الأطفال من سوء التغذية أصاب بنوبات بكاء مستمر وخوف شديد، من حق أطفالي الصغار العيش بكرامة وتناول ما يشتهونه من طعام، يارب تنتهى الحرب يارب».
ووفقًا لوزارة الصحة الفلسطينية فإن عدد الشهداء قد وصل إلى 54,880 شهيدًا و126,227 إصابة منذ السابع من أكتوبر لعام 2023م.
أما وزارة الشؤون الاجتماعية في غزة فقد أصدرت بيان تحذر فيه من خطورة وقف دخول المساعدات الإنسانية واستمرار إغلاق المعابر على قطاعي المرأة والطفل والقدرة على حمايتهم وتوفير سبل الرعاية لهم في قطاع غزة، الأمر الذي سيفاقم من معاناة الأطفال والنساء ويعرض حياتهم للخطر الشديد نتيجة نقص الاحتياجات الأساسية وأدنى متطلبات الحياة، لاسيما أن قطاعي النساء والأطفال يشكلان 70% من ضحايا العدوان وحرب الإبادة الجماعية، حيث بلغ عدد الشهيدات 12,316 من إجمالي 48,346 شهيدا حتى تاريخه.
كما أوضح البيان أن نسبة الجرحى من النساء والأطفال تشكل 69% من إجمالي الجرحى البالغ عددهم 111,759 جريحا، بالإضافة إلى أن 70% من المفقودين في قطاع غزة
نتيجة العدوان الإسرائيلي هم من النساء والأطفال، حيث بلغ عددهم 14,222 مفقودا.
أما التقارير الصادرة عن صندوق الأمم المتحدة للسكان فقد أشارت إلى أن ما يقارب مليونَيْ شخص اضطروا للنزوح من منازلهم خلال الحرب على القطاع، نصفهم من النساء والأطفال ومن المتوقع وفقا للتقارير أن تلد ما يقدر بنحو (50) ألف امرأة حامل في غزة في ظروف مزرية على نحو متزايد في حين أنه تم استهداف الأطفال والنساء، فكان من بين الشهداء 17881 طفلا، منهم 214 رضيعا ولدوا وماتوا خلال العدوان، وتيتم أكثر من 38 ألف طفل منهم 17 ألف طفل فقدوا كلا الوالدين، فيما قتل الاحتلال 12316 امرأة في حين أشارت التقارير إلى أن هناك أكثر من 690 ألف امرأة وفتاة في فترة الحيض لا يحصلن إلا بشكل محدود على منتجات النظافة الخاصة بالدورة الشهرية.
إن ما يشهده قطاع غزة من استمرار للكارثة الإنسانية وحرب الإبادة يستدعي من كافة المؤسسات والهيئات والمنظمات الدولية إلى ضرورة توفير دخول الدواء والغذاء وكافة الاحتياجات الإنسانية الضرورية لأهالي قطاع غزة وأهمها احتياجات النساء والأطفال، كما أصبح هناك ضرورة وقوف المجتمع الدولي أمام مسؤولياته والخروج من دائرة الصمت والإدانة إلى دائرة القرار والالتزام بتنفيذ ما أصدره من مرجعيات دولية للقانون الدولي الإنساني في إطار الالتزام بالقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، لوقف الحصار المفروض على الشعب الفلسطيني وتوفير الحماية الدولية والضغط على الاحتلال بفتح المعابر وإدخال الاحتياجات الإنسانية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: النساء والأطفال قطاع غزة
إقرأ أيضاً:
أجهزة التنفس التي جعلت إسرائيل حيّة إلى اليوم
منذ اندلاع حرب غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، حاولت إسرائيل ترميم صورتها التي كسرها الطوفان، فسعت إلى تقديم نفسها في صورة "الرجل الأقوى" في قلب الشرق الأوسط، متحديةً الجميع بلا خوف.
بدا المشهد محسوبًا: جيش يمتلك أحدث الأسلحة، واقتصاد يواصل الإنفاق على القتال، وقيادة سياسية ترفع شعار الردع والتحدي.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2ما قصة الملياردير الغامض الذي يبتلع تيك توك من أجل إسرائيل؟list 2 of 2إسرائيل تبدأ محاصرة تركيا عبر هذه الخطةend of listغير أن هذه الصورة تُخفي مفارقة جوهرية، فإسرائيل وجدت نفسها بالفعل منبوذة دوليًّا، ولم تكن "الأقوى" كما أرادت أن تبدو.
فإسرائيل، ذات القدرات المحدودة جغرافيا وديموغرافيا، لم تصمد بفضل قدراتها الذاتية، بل لأنها استندت إلى دعم خارجي كثيف منحها القدرة على الاستمرار، من السلاح الأميركي إلى المظلة السياسية والاقتصادية الغربية، التي أبقت الحرب ممكنة لعامين كاملين.
ففي الشهور الأولى وحدها، تدفقت أطنان الأسلحة الأميركية عبر الموانئ والمطارات، ووافق الكونغرس على حزم بمليارات الدولارات لدعم ترسانة تل أبيب. الأهم من ذلك ربما أن إسرائيل حصلت على تمويل ضخم من مؤسسات مالية كبرى اشترت سندات إسرائيلية بقيمة 19.4 مليار دولار خلال عامين من الحرب.
فقد أظهر تحقيق أجرته مجموعة البحوث المالية الهولندية "بروفوندو" (Profundo) أن بنوكًا أوروبية وأميركية كبرى أدّت دورًا مباشرًا في تمويل الحرب من خلال الاكتتاب في السندات الحكومية الإسرائيلية.
ووفقا للتقرير، شاركت مؤسسات مالية أوروبية بارزة،، بجانب بنوك ومجموعات مالية أميركية مرموقة في شراء هذه السندات وتوفير السيولة اللازمة، وهو ما يجعلها مساهما أساسيًّا في تمكين تل أبيب من الاستمرار في حربها.
يعزز هذه المعلومات ما سبق أن أوردته فرانشيسكا ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة في يوليو/ تموز الماضي (2025) حول تدخل بعض أكبر البنوك في العالم، بما في ذلك بي إن بي باريبا وباركليز، لتعزيز ثقة السوق من خلال الاكتتاب في سندات الخزانة الإسرائيلية، مما سمح لتل أبيب بتدبير التمويل اللازم للحرب على الرغم من خفض تصنيفها الائتماني، بحسب ما نقلته الغارديان.
إعلانساهمت هذه التدفقات المالية في رفع نفقات الحرب بشكل ملحوظ. فعلى سبيل المثال، قفزت موازنة وزارة الدفاع الإسرائيلية من نحو 60 مليار شيكل (18.3 مليار دولار) عام 2023 إلى حوالي 99 مليار شيكل (30.2 مليار دولار) بحلول 2024.
ومن اللافت أن العامل الاقتصادي لم يشكّل عائقًا أمام استمرار الحرب، إذ أكّد باحثون أن الاعتبارات المالية لم تمنع إسرائيل من مواصلة القتال، بل على العكس، عزّزت إنفاقها الدفاعي بصورة غير مسبوقة، مما جعل الحرب قابلة للاستمرار دون أن تتحول تكلفتها إلى عبء خانق على الداخل الإسرائيلي.
في الوقت ذاته، أدّت جماعات الضغط والأحزاب السياسية دورًا محوريًّا في استمرار "آلة القتل" الإسرائيلية، بعدما ضخّت اللوبيات المؤيدة لإسرائيل مبالغ طائلة في الحملات الانتخابية خلال عام 2024، مستهدفة إسقاط نواب الكونغرس الذين دعوا إلى وقف إطلاق النار أو انتقدوا الحرب الإسرائيلية.
وتشير البيانات أن "أيباك" وحدها أنفقت أكثر من 95 مليون دولار على السباقات الانتخابية في عام 2024 حيث رأت في الحفاظ على الخط السياسي الرافض لممارسة أي ضغط على إسرائيل، استثمارًا يستحق إنفاق كل هذه الأموال.
هذا التمويل السياسي كان كفيلًا بضمان استمرار الدعم الحكومي الأميركي غير المشروط لتل أبيب، رغم التراجع الملحوظ في تأييد الرأي العام الأميركي لنهجها العسكري. ورغم التوترات الداخلية الناجمة عن الحرب، كانت الإدارة الأميركية في كل مرة توافق على طلبات السلاح الإسرائيلية، في انعكاس واضح لاستمرار الدور السياسي الذي يوفّر لإسرائيل حماية دبلوماسية وعسكرية راسخة.
ولعل الأخطر أن هذا الغطاء هو ما أتاح لإسرائيل أن تتحدى المجتمع الدولي بصفاقة، ففي مجلس الأمن وفّر الفيتو الأميركي الحماية لقصفها، بينما تولى الإعلام الغربي إعادة صياغة المجازر بلغة "الدفاع المشروع".
هكذا، لم تكن القوة التي تدّعي إسرائيل امتلاكها حقيقةً ذاتيةً قائمة بذاتها، بل انعكاسا لشبكةٍ من أرجلٍ صناعية تمدّها بالوقوف. هي أقوى فقط لأنها تستند على أكتاف الآخرين، ونتيجة ذلك، فإن مظهر وحدتها ليس استقلالًا، بل عزلة مشوبة بالاعتماد على آخرين: نبذ دولي من جهة، واعتماد مطلق على الغرب من جهةٍ أخرى.
من هنا، لا يكفي توثيق الفظاعات في غزة وحدها، بل يجب أيضًا أن تُدرس آليات الاستدامة، التي حوّلت حربًا كان من الممكن أن تنتهي سريعًا إلى نزاعٍ ممتدّ لعامين. ففهم نقاط التفوّق التي استمدّتها إسرائيل من الدعم الخارجي، وكيف استثمرت هذا الدعم سياسيًّا واقتصاديًّا وإعلاميًّا يمثل شرطًا أساسيًّا لأي قراءةٍ إستراتيجيةٍ تبتغي تحديد المصادر الحقيقية للقوة الإسرائيلية.
شبكات الإسناد الدفاعي والتقنيتُقدّم تقارير "لجنة الأصدقاء الأميركيين للخدمة" (AFSC) -وهي منظمة غير ربحية مهتمة بقضايا العدالة والسلام- خريطة دقيقة لشبكات الإسناد التي مكّنت إسرائيل من إطالة أمد القتال وتوسيع نطاقه.
إعلانفمنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تحركت منظومة متكاملة: عسكرية، وتكنولوجية، ولوجستية ومالية، لتزويد الجيش الإسرائيلي بمواد القتل وأدوات الإدارة والسيطرة.
في قلب هذه المنظومة تقف شركات صناعة السلاح الأميركية، مثل لوكهيد مارتن، وآر تي إكس "رايثيون سابقا"، وبوينغ، وجنرال دايناميكس، إلى جانب المجمّعات الإسرائيلية (رافائيل، إلبيت، الصناعات الجوية)، مع شركائها الأوروبيين، مثل ليوناردو الإيطالية، وشركات ألمانية مثل راينميتال، ورينك، وتيسن كروب، فضلا عن شركات أخرى من خارج أوروبا، مثل فانوك اليابانية المتخصصة في الروبوتات الصناعية.
لوكهيد مارتن كانت مسؤولة عن خدمات التزويد والصيانة لطائرات إف-16، علاوة على دعم أسطول إسرائيل المتنامي من طائرات إف-35 المقاتلة، التي تعدّ العمود الفقري للقوات الجوية الإسرائيلية. أما بوينغ، فقامت بتوريد مجموعات تحويل القنابل إلى قنابل موجهة (JDAM)، إلى جانب قنابل صغيرة القطر من طراز "GBU-39" تزن الواحدة منها 250 رطلا، بحسب ما وثّقت منظمة العفو الدولية.
في الميدان الأرضي، وفّرت الشركات الصناعية الثقيلة، مثل كاتربيلر (الأميركية) وهيونداي (الكورية)، الجرافات والحفّارات التي استُخدمت في هدم البُنى التحتية وإنشاء محاور لوجستية، مما أسهم في فرض وقائع ميدانية دائمة تُسهّل عمليات السيطرة والانتشار.
في الوقت نفسه، قدّمت شركات تصنيع المركبات المدرعة منصّات لنقل القوات، فشركات مثل "أوشكوش" و"إيه إم جنرال" (الأميركيتين) زوّدت إسرائيل بناقلات جنود مدرعة وعربات قتال خفيفة ودروع واقية. هذه المركبات مع المعدات الهندسية الثقيلة شكّلت معًا العمود الفقري للقدرة على المناورة والتحكّم في المناطق المحيطة، وتحويل الأحياء إلى مساحات عملياتية يمكن إدارتها عسكريًّا.
الشركات التكنولوجية كان لها أيضًا نصيب، حيث ساهمت بأدوات جمع البيانات والتحليل التي دعمت عمليات المراقبة والاستهداف.
وقد اعترف جيش الاحتلال الإسرائيلي علنًا باستخدام خدمات أمازون للحوسبة السحابية في تعزيز قدراته خلال حربه على غزة، إلى جانب خدمات غوغل ومايكروسوفت السحابية. غير أن أمازون تعدّ "الأقرب" إلى المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، بحسب تقارير متواترة.
فمنذ عام 2021، وفرت أمازون خدمات سحابية للحكومة الإسرائيلية في إطار مشروع "نيمبوس"، وهو عقد قيمته نحو 1.2 مليار دولار تُشارك فيه غوغل وأمازون، ويمنح الوصول إلى بنى تحتية سحابية متقدمة تخدم جميع فروع الحكومة الإسرائيلية، بما فيها: الجيش، وجهاز الأمن العام (الشاباك)، والشرطة، ومصلحة السجون، ومصنعو الأسلحة المحليون مثل الصناعات الجوية الإسرائيلية (IAI) ورافائيل، فضلًا عن جهات حكومية مرتبطة بالمشاريع الاستيطانية في الضفة الغربية المحتلة، بحسب تقارير (AFSC).
ترافق ذلك مع استغلال مخزونات أميركية متواجدة مسبقًا داخل إسرائيل، ضمن ما يُعرف بـ"المخزون الاحتياطي الحربي للحلفاء داخل إسرائيل" (War Reserve Stockpile Allies – Israel) والمعروف اختصارا باسم "WRSA-I"، وهو مخزون استراتيجي ضخم تحتفظ به وزارة الحرب الأميركية (البنتاغون) داخل الأراضي الإسرائيلية بهدف دعم إسرائيل (أو أي حروب أميركية أخرى) في أوقات الطوارئ.
تأسس هذا المخزون في التسعينات وزاد حجمه باستمرار من 100 مليون دولار إلى ما يعادل 4.4 مليار دولار وفق آخر الإحصاءات.
إعلانوقد جرى توثيق قيام الولايات المتحدة بدعم إسرائيل من هذا المخزون في مناسبتين سابقتين على الأقل (قبل الحرب الحالية) إبان حرب لبنان عام 2006 وخلال حرب غزة عام 2014.
وإذا نظرنا إلى هذا المخزون الحيوي الغامض، إلى جانب إجراءات التسليم المسرَّعة وعقود الطوارئ، يمكننا فهم حجم الدور الأمريكي في تقليص زمن الاستجابة الاسرائيلي وحماية تل أبيب من الاستنزاف القتالي. بعبارة أخرى، لم تُدَر الجبهات الصهيونية بقدرات محلية محضة، بل باستنزاف سريع ودائم لمخزونات أميركية مسبقة وأوامر شراء عاجلة.
في غضون ذلك، شكلت اللوجستيات والوقود شريان الحياة للعمل العسكري. ناقلات الوقود وشركات الشحن الجوي نقلت آلاف الأطنان من الذخائر والعتاد إلى ساحات القتال، وشركات الطاقة الدولية (مثل فاليرو الأميركية) أمّنت إمدادًا مستمرًّا لوقود الطائرات والمركبات، مما أزال أي عائق لوجستي أمام الحملة.
هذا التنسيق بين العقود الحكومية الأجنبية ومحاولات الاستعانة بمقاولين تجاريين محليين أو دوليين مستقلين، كشف عن تداخل عميق بين القطاعين العام والخاص في ضمان استمرارية الإمداد وسرعة دوران الآلة القتالية.
مكّنت التدفقات المالية المستمرة هذا النظام من العمل بلا اهتزاز. فصناديق الاستثمار والمؤسسات المالية الضخمة، مثل بلاك روك وفانغارد، استثمرت في شركات السلاح والتكنولوجيا، بينما أدّت بنوك كبرى دورًا في تنظيم سوق السندات الحكومية الإسرائيلية لتمويل النفقات الطارئة. كما وظِّفت برامج المساعدات الأميركية المشروطة بشراء السلاح الأميركي كآلية لخلق طلب مضمون، بما أذاب أي ضغط اقتصادي محتمل على استمرار العمليات.
وفي المحصلة، نجحت إسرائيل في توظيف طيف واسع من الشركات عبر مسارات متوازية ومتكاملة. فمن جهة، تم رفع القدرة النارية وتسهيل الاختراق الأرضي عبر تدفق الأسلحة والذخائر والمعدات الهندسية. ومن جهة أخرى، رُقمنت ساحة المعركة من خلال الاعتماد على البنى السحابية وأدوات الذكاء الاصطناعي لتحليل البيانات ورسم خرائط الاستهداف.
وفي الميدان، تم تثبيت السيطرة عبر المعدات الثقيلة والمركبات المدرعة التي فتحت الممرات وحوّلت البيئات المدنية إلى فضاءات عملياتية. أما في الخلفية، فقد جرى تأمين دعم مالي ولوجستي دائم عبر أسواق المال والعقود الدولية، بما ضمن استمرار تدفق الموارد بلا انقطاع. وبذلك يتبين أن الحرب استمرت نتيجة منظومة تجارية وتقنية دولية محكمة، جعلت من عنف الاحتلال نشاطًا منظّمًا ومربحًا، في حين بقيت كلفة الدم والدمار محمولة كليًّا على المدنيين الفلسطينيين.
شراء صمت الكونغرساستفادت آلة الحرب الإسرائيلية أيضًا من الضغوط الكثيفة التي مارستها اللوبيات المؤيدة لتل أبيب وأجهزتها الأمنية. فبينما أظهرت استطلاعات متكررة أنّ غالبية الأميركيين -ولا سيما فئة الشباب والمستقلين- تؤيد وقف إطلاق النار أو تقليص الدعم العسكري لإسرائيل، نجحت جماعات الضغط في تحويل هذا الميل الشعبي إلى عبء على المشرّعين، بدلًا من أن يكون دافعًا لتغيير السياسات.
الأداة الأبرز كانت المال الانتخابي. ففي انتخابات عام 2024، قدّم الذراع السياسي للجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) دعمًا يزيد على 53 مليون دولار لصالح 361 مرشحًا من الحزبين، في إشارة واضحة لأي سياسي، بأن البقاء في المشهد السياسي مرهون بالتماهي مع خطّ الدعم غير المشروط لتل أبيب.
يمكن لأيباك فعل ذلك باستغلال ما يُعرف في النظام الأميركي بـ"لجان العمل السياسي الفائقة" أو "السوبر باكس" (Super PACs)، وهي كيانات مستقلة قانونيًّا عن المرشحين، لكنها تستطيع جمع أموال غير محدودة من الأفراد والشركات وإنفاقها على الحملات الانتخابية لدعم أو تقويض أي مرشح.
ويُطلق على هذا النمط من التمويل اسم "الإنفاق الخارجي العدائي" (Aggressive political spending)، لأنه يُستخدم غالبًا لاستهداف وإضعاف خصوم سياسيين عبر حملات دعائية ضخمة. وعلى رأس هذه الكيانات يقف "مشروع الديمقراطية المتحدة"، وهو سوبر باك تابع لإيباك، أنفق وحده نحو 14.5 مليون دولار لإسقاط النائب (الديمقراطي) جمال بومان في دائرة "نيويورك–16″، وهو أحد أبرز الأصوات التي طالبت بوقف الحرب.
هذا النفوذ انعكس بشكل مباشر في البيت الأبيض أيضا. فحين بدا أن مسار الكونغرس قد يشكل عائقًا، لجأت إدارة جو بايدن إلى استخدام صلاحيات الطوارئ لتمرير صفقات ذخائر لإسرائيل.
إعلانعلى سبيل المثال، مررت إدارة بايدن خلال شهر واحد فقط هو ديسمبر/كانون الأول 2023 صفقتي ذخائر إلى إسرائيل بقيمة إجمالية تتجاوز 250 مليون دولار، متخطية مراجعة الكونغرس، بما يكشف أن الضغوط المالية والسياسية لم تكتفِ بتطويع السلطة التشريعية، بل هيّأت بيئة دفعت السلطة التنفيذية لتجاوز أي عراقيل باسم "حماية إسرائيل" باعتبارها أولوية إستراتيجية.
وعلى المستوى الدولي، وقفت الولايات المتحدة مرارًا كحاجز أمام أي تحرك دولي جاد، مستخدمةً حق النقض (الفيتو)، لإسقاط مشروعات قرارات تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزة. وهو ما اعتبرته منظمة العفو الدولية بمثابة "ضوء أخضر" لمواصلة الاعتداءات دون رادع فعّال.
أما في أوروبا، فقد تباينت المواقف داخل الاتحاد الأوروبي، لكن ضغوط الجماعات الموالية لإسرائيل هناك نجحت في تعطيل مبادرات لفرض عقوبات أو تعليق برامج تعاون مع دولة الاحتلال.
ففي حين طرحت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين مقترحات لتجميد بعض المساعدات، تحركت دول مثل ألمانيا وإيطاليا لإبطالها. هذا التباين سمح لإسرائيل بالحفاظ على علاقاتها الأوروبية دون خسائر ملموسة، رغم الانتقادات العلنية لسياساتها في غزة.
وفي ميدان العدالة الدولية، اتخذت الضغوط شكلًا أكثر خطورة. ففي مايو/أيار 2024، كشفت صحيفة الغارديان ووسائل أخرى، أن إسرائيل شنّت حملة تجسس واعتراض اتصالات ضد مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، في محاولة للتأثير في تحقيقاتها المتعلقة بجرائم الحرب في فلسطين.
كما أوضح التقرير أن الاستهداف شمل المدعية العامة السابقة فاتو بنسودا، ولاحقًا المدعي العام الحالي كريم خان، عبر المراقبة والتشويه والترهيب، لإضعاف أي مسعى لإصدار مذكرات توقيف بحق قيادات إسرائيلية.
وبلغ الأمر حدّ استدعاء هولندا سفير إسرائيل لديها، بعد تقارير عن تورط أجهزتها الاستخبارية في التجسس على المحكمة. رغم أن إدارة ترامب اتخذت مسارا معاكسا تماما لاحقا بفرض عقوبات على قضاة ومدعيين عامين بالمحكمة الجنائية الدولية بدلا من محاسبة إسرائيل على جرائمها.
هذه الممارسات، التي تمزج بين النفوذ المالي في الولايات المتحدة، والتأثير السياسي في أوروبا، وعمليات المراقبة الاستخبارية ضد مؤسسات العدالة الدولية، تكشف كيف عملت إسرائيل، ليس فقط على إدامة الحرب عسكريًّا، بل أيضًا على تحييد كل مسار سياسي أو قضائي قد يقود إلى إدانتها، في معركة لم تقتصر على الميدان وإنما امتدت إلى كواليس وأروقة المؤسسات الدولية، واستُخدم فيها المال والضغط والتجسس لتأمين استمرار آلة القتل دون رادع.
تقييد الحقيقةأضف إلى ذلك ترافق العدوان الإسرائيلي على غزة مع حملة إعلامية ممنهجة، حُشدت فيها منصات الأخبار والاتصال ضمن آلة الحرب، لتبرير القصف والحصار وتشويه صورة الفلسطينيين. واعتمدت الرواية الإسرائيلية الرسمية على أساليب دعائية تقليدية، أبرزها تصوير المدنيين في غزة كمقاتلين محتملين وهو ما انعكس في تصريحات كبار المسؤولين الذين أنكروا وجود مدنيين أبرياء في غزة من الأساس.
هذه اللغة التحريضية لم تقتصر على الداخل الإسرائيلي، بل انتقلت إلى وسائل الإعلام الغربية التي رددت روايات عن "القضاء على الإرهاب" و"حماية المدنيين الإسرائيليين"، في حين أُلصقت بالفلسطينيين تهم الإرهاب ومعاداة السامية.
ولم تقتصر الحملة على الإعلام التقليدي، بل امتدت إلى الفضاء الرقمي. فقد استخدمت إسرائيل وحلفاؤها شبكات التواصل الاجتماعي، لنشر رسائل تمجّد "الردع العسكري" وتصور العدوان كعمل مشروع، وضُخّمت هذه الرسائل عبر حسابات رسمية ولوبيات إلكترونية ومنصات تقنية غربية. في المقابل، فرضت سلطات الاحتلال قيودًا صارمة على التغطية المستقلة، فمنعت دخول الصحفيين الأجانب وقيّدت عمل المراسلين، بما يتيح لها التحكم في الرواية الإعلامية على الأرض.
وسط هذا المناخ العدائي، تعرّض عدد من الصحفيين المحليين والدوليين لاستهداف مباشر أثناء مزاولة عملهم، في محاولة واضحة لإسكات الحقيقة ومنع ظهورها.
فوفقًا لمشروع "تكاليف الحرب" التابع لجامعة براون، فإن عدد الصحفيين القتلى منذ بدء الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يفوق مجموع نظرائهم الذين قتلوا خلال الحرب الأهلية الأمريكية، والحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الكورية، وحرب فيتنام، والحروب في يوغوسلافيا السابقة، وحرب أفغانستان.
وقد وثق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة استشهاد ما يزيد عن 250 صحفيا منذ بدء الحرب، على سبيل المثال اغتيل أنس الشريف، مراسل قناة الجزيرة، باستهداف خيمة إعلامية قرب مستشفى الشفاء، وقبلها قتلت إسرائيل أيضا مراسل الجزيرة إسماعيل الغول صحبة المصور رامي الريفي كما قُتل المصوّر حسام المصري العامل مع وكالة رويترز خلال تغطيته الميدانية.
كما أردت إسرائيل المصورة الصحفية مريم أبو دقّة التي عملت مع وكالة أسوشيتد برس، إلى جانب الصحفيين محمد سلامة وأحمد أبو عزيز ومعاذ أبو طه ومحمد قريقع، الذين عملوا مراسلين ومصورين مستقلين في غزة. كما أُدرجت أسماء أخرى ضمن قائمة الضحايا، مثل إبراهيم زاهر ومحمد نوفل وأحمد اللوح وحسام شبات والعشرات غيرهم.
في الوقت ذاته، ساهم الإعلام الدولي الموالي لإسرائيل في تبييض الجرائم عبر تكرار تصريحاتها الرسمية من دون تدقيق، وتشويه صورة المقاومة الفلسطينية في إطار شعبوي يخدم السياسات الغربية. وذهبت بعض المؤسسات إلى إصدار تعليمات سرّية لمحرريها بعدم التركيز على أعداد الضحايا الفلسطينيين، وإعطاء الأولوية للمنظور الإسرائيلي.
ومع ذلك، ظل الإعلام هو الحلقة الأضعف في آلة إسرائيل الحربية. فبرغم الحصار وجدار الدعاية، نجح الفلسطينيون في تفكيك الرواية الرسمية عبر صحافة الميدان والموبايل، التي وثّقت القصف والدمار لحظة بلحظة، لتصل صور غزة إلى العالم مباشرة وتتحول المنصات الرقمية إلى منبر للرواية الفلسطينية.
هذا الانكشاف لم يوقف العدوان، لكنه كشف عجز إسرائيل عن احتكار الحقيقة، وأثبت أن آلة القتل مهما بلغت شدتها، لا تستطيع وحدها حماية الرواية الزائفة من الانهيار.
وهنا يُطرح السؤال: كيف استمرت الحرب لعامين كاملين رغم افتضاح جرائمها أمام أعين العالم؟ الجواب يكمن فيما تكشفه التجربة: أن القضية لا تتعلق فقط بحجم المأساة التي أوقعتها إسرائيل في غزة، بل بطبيعة النظام الدولي الذي أمدها بكل ما يلزم لإطالة أمد الحرب وتحويلها إلى مشروع مربح لشركاته.
فالتدفقات المالية والعسكرية القادمة من واشنطن، والغطاء السياسي والإعلامي الذي أعاد صياغة المذابح في قوالب "الدفاع المشروع"، كل ذلك جعل تل أبيب كطفل يقف على سيقان الآخرين، بينما يحاول أن يقنع العالم بأنه "الرجل الأقوى".
لكن هذا التناقض هو أيضًا نقطة ضعف إسرائيل. فكما أثبتت غزة أن المقاومة ممكنة في وجه التفوق العسكري، أثبتت التجربة أن كشف شبكات الدعم والتواطؤ، وفضح اللوبيات والمؤسسات والشركات التي جعلت استمرار الحرب ممكنًا، يمثل الخطوة الأولى في كسر "السيقان" التي يقف عليها العدوان الإسرائيلي.