د. منال إمام: مصر.. قوية بأبنائها
تاريخ النشر: 18th, June 2025 GMT
في زمنٍ تتلاطم فيه أمواج التحديات وتشتدّ فيه رياح الأزمات، تنهض مصر شامخة كالنيل، عصيّة على الانكسار، راسخة كأهراماتها الخالدة، متجذّرة في عمق التاريخ كأرضها الطيبة. لا تفتأ تثبت للعالم في كل مرة أن قوتها لا تستمدّها من عتادٍ أو مال، بل من سواعد أبنائها ووفاء شعبها وإخلاص قيادتها.
لقد اجتمعت على أرض الكنانة في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخها أزمات عاتية لم تعهدها من قبل، غير أن إرادة المصريين، وحنكة القيادة السياسية، ستحول هذه المحنة إلى منحة، وستجعل من التحدي برهانًا حيًّا على صلابة الدولة المصرية وتماسك نسيجها الوطني المتين.
الحدود تشتعل... ومصر يقظة كعين الصقر
فعلى حدودها الغربية، لا تزال نيران الحرب الأهلية في ليبيا تهدد الأمن والاستقرار، حاملةً في طياتها خطر الانفلات وانتشار السلاح. وفي الجنوب، تئنّ السودان تحت وطأة صراع دمويّ يُلقي بظلال إنسانية وأمنية ثقيلة على الجوار. أما في الشرق، فإن الجرح الفلسطيني في غزة لا يزال نازفًا، يستصرخ الضمير العربي، ويُلهب الشعور القومي، بينما يتأجج نار صراعٍ إقليمي ينذر بما هو أعظم (بين إسرائيل وإيران).
ورغم هذه التحديات المتشابكة، تبقى القوات المسلحة المصرية على عهدها، عيون لا تنام، تحرس الأرض والعرض، مستندةً إلى إرادة سياسية صلبة، وإجماع شعبي قلّ نظيره. إن أمن مصر القومي ليس شعارًا، بل عقيدة راسخة وموقف لا يُساوَم عليه.
الضغوط الاقتصادية... صمود رغم العاصفة
أما في الداخل، فلا يخفى على أحد أثر العاصفة الاقتصادية التي عصفت بالعالم، والتي لم تكن مصر بمنأى عنها. فقد أثقلت كاهل المواطن موجة غلاء مستعرة، وتراجعت القدرة الشرائية، وزادت الحرب على غزة من الأعباء، خاصة بعد تصعيد التوتر في البحر الأحمر، الذي عطّل حركة الملاحة في قناة السويس، هذا الشريان الاقتصادي الحيوي.
ورغم كل ما سبق، اختارت مصر أن تنتصر لقيمها، ولم تتخلّف عن نصرة القضية الفلسطينية، حتى وإن كان الثمن مزيدًا من الضغط الاقتصادي. ففي وقتٍ باتت فيه المصالح عند البعض تعلو على المبادئ، أبت مصر إلا أن تظل وفية لقضايا العدل والحق، في موقف يُجسّد النُبل السياسي في أسمى صوره.
شعبٌ أصيل... يتكئ على وعيه ويحتكم إلى صبره
وفي خضم هذا المشهد، يقف الشعب المصري كبطلٍ حقيقي، يُقابل الصعاب بوعيٍ وصبرٍ وإيمان. لقد أدرك المصريون أن ما يمرون به ليس محلي النشأة فحسب، بل نتيجة لتشابك أزمات إقليمية ودولية، وأن التحديات تحتاج إلى صبر وكفاح. ومن هذا الوعي تولدت حالة فريدة من التلاحم بين القيادة والشعب، فباتت مصر كالجسد الواحد، تشد أزرها في أوقات الشدة، وتتقاسم الهمّ والمصير.
مصر واللاجئون... حضنُ العروبة الدافئ
وفي الوقت الذي أغلقت فيه دولٌ كثيرة أبوابها أمام الفارين من أتون الحروب، فتحت مصر قلبها وحدودها، لتستقبل مئات الآلاف من الإخوة العرب، دون منٍّ أو أذى، بل من منطلق رسالتها الإنسانية والعروبية، ومن إيمانها بأن ما يجمع العرب أكبر من حدود السياسة، وأعمق من حسابات اللحظة.
مصر لا تنكسر... بل تزداد صلابة
إن ما واجهته مصر – ولا تزال – من تحديات، كان كفيلًا بأن يطيح بأركان دول عديدة، لكنّ مصر، بعون الله، بقيت واقفة، تمضي بثبات في دربها، لأن في أبنائها معدنًا لا يصدأ، وإرادة لا تلين، وقيادة تقودها بالحكمة لا بالهوى.
إن مصر دولة رشيدة قديمة قِدم التاريخ، تصنع مقدراتها بأيدي ابنائها البررة، وتصون كرامتها وحدودها وثرواتها،كما أنها تترفع عن الصغائر وتعلو فوق الفتن، ولا تنساق وراء مهاترات أو شعارات جوفاء
ستظل مصر – كما كانت – حصنًا منيعًا للأمة العربية، وركيزة للاستقرار الإقليمي، وصوتًا للكرامة والعزة.
مصر قوية بأبنائها... ولن تنكسر.
المصدر: صدى البلد
كلمات دلالية: مصر أرض الكنانة إرادة المصريين
إقرأ أيضاً:
منال الشرقاوي تكتب: التتر السينمائي.. حكاية ما قبل البداية وما بعد النهاية
دعني أسألك سؤالًا بسيطًا: متى كانت آخر مرة شاهدت فيها تتر فيلم دون أن تضغط زر "تخطٍ"؟ هل تتذكر شكل الخط؟ اسم المصور؟ أو حتى صوت الموسيقى التي تنساب مع ظهور الأسماء واحدًا تلو الآخر؟ الأغلب – وأقولها بلا لوم – لا يفعل.
التتر صار شيئًا يشبه التحية الواجبة التي نقفز فوقها، كما نقفز فوق مقدمة كتاب مليئة بالإهداءات أو تنويهات الناشر.
لكنني أصدقك القول: التتر ليس مجرد قائمة أسماء.
إنه لحظة تأمل، جسر زجاجي بين الواقع والفيلم، بداية صامتة – أو صاخبة – تقول لك: "اجلس. سنبدأ رحلة صغيرة. تفضل واهدأ." وربما، فقط ربما، يكون التتر هو أجمل ما في الفيلم كله.
في زمن صارت فيه المتعة تُختصر، والقصص تُقضم بسرعة الوجبات السريعة، يظل التتر وفياً لطبيعته المتأنية.
هنا، لن نكتفي بالنظر إلى التتر من الخارج كغلاف أنيق، لكننا سنتسلل إلى قلبه، نفك خيوطه، ونتأمل في تلك اللحظات التي لا يتوقف عندها أحد... إلا من يحب السينما حقًا.
التتر – أو كما يسميه أهل الصناعة "الكريدتس" – هو ذلك المشهد الهادئ نسبيًا، الذي يظهر عادة في البداية أو النهاية، تتوالى فيه أسماء الأشخاص الذين قضوا شهورًا، وربما سنوات، في صناعة الفيلم الذي شاهدته.
أسماء تمر أمامك بسرعة، المخرج، الكاتب، مدير التصوير، مهندس الصوت، مساعد المخرج الثاني، وحتى من أحضر القهوة في الكواليس... الجميع يمر من أمامك، كأنها طوابير الجنود العائدين من المعركة.
لكن الغريب حقًا؟ أنك لا تتذكر معظمهم. وفي الحقيقة، لا أحد يلومك.
التتر لم يُخلق لكي يُحفظ، وإنما وُجد ليكرم من ساهموا في العمل الفني. مثل لوحة تذكارية على جدار طويل، لا يتوقف عندها أحد إلا إذا كان يبحث عن اسمه.
هناك من التترات ما يظهر في البداية، ويهيئك نفسيًا للدخول إلى عالم الفيلم. يضبط الإيقاع، يلعب بالموسيقى والألوان، يخبرك أنك على وشك أن تُفلت الواقع. وهناك تترات تأتي في النهاية، تتدفق معها الأسماء كموجة شكر جماعية، تضع يدها على كتف كل من ساهم في بناء الحلم.
في بدايات السينما، لم يكن هناك ما يُعرف بالتتر على النحو الذي نعرفه اليوم. السينما الصامتة كانت مشغولة بما هو أعقد، كيف تحكي دون صوت؟ كيف تُفهم دون شرح؟ فكانت أسماء الطاقم مجرد معلومات عابرة، بلا فن، بلا اهتمام.
ثم جاء عصر هوليوود الذهبي، وبدأ كل شيء يتغير.
صارت الأسماء تُعرض بخط جميل، والموسيقى ترافقها، وصار هناك إدراك بأن اللحظات الأولى في الفيلم لا تقل أهمية عن أي مشهد درامي داخله.
ثم أتى سول باس (Saul Bass)، رجل لم يكن مخرجًا لكنه غير شكل التتر إلى الأبد. مصمم جرافيك أعاد تعريف البداية السينمائية. جعلها تتحرك، تنبض، وتقول شيئًا من دون كلام. أعماله لأفلام هيتشكوك وكوبريك مثال يُدرس في تحويل التتر إلى قصيدة بصرية قصيرة.
ومع التطور التكنولوجي، بدأ المخرجون يستخدمون التتر كمساحة للتجريب.
في السبعينيات والثمانينيات، صار التتر لوحة فنية مستقلة. وفي التسعينيات، ومع دخول المؤثرات الرقمية، بدأت الألوان تتراقص، والخطوط تنكسر وتعود، والرسائل الخفية تختبئ خلف الصور المتحركة.
اليوم، في زمن المنصات الرقمية، صار التتر يصرخ كي يُرى. لم يعد أمرًا مفروغًا منه، وإنما محاولة للفت الانتباه وسط زحام "تخطِ المقدمة".
بعض التترات تهمس لك بما سيحدث، دون أن تفسد عليك المفاجأة. تأتي كالنبوءة الصامتة، لا تفهمها إلا بعد أن ينتهي كل شيء.
أحيانًا تكتشف بعد مشاهدة الفيلم أن التتر كان يحكي القصة من البداية، لكن بلغة رمزية. مشاهد سريعة، رموز، صور، موسيقى تتغير فجأة... كلها إشارات بأن الفيلم بدأ قبل أن تعرف أنت ذلك.
في بعض الأفلام، التتر هو المشهد الأول بالفعل. لا تمهيد، لا مقدمات... فقط إيقاع بصري وسمعي يأخذك من يدك، ويرميك في قلب الفيلم. وأحيانًا يكون وسيلة المخرج لقول ما لا يستطيع قوله في السيناريو. همسة سرية للمشاهدين الذين يعرفون أن السينما تُقرأ كما تُشاهد.
التتر لن يغيّر العالم، لكنه يظل، في هدوئه، من أصدق لحظات الفيلم.
هو تحية لكل من آمن بالقصة، وعمل على إخراجها للنور.
أن تُشاهد التتر، يعني أنك تُكمل الحكاية حتى آخر كلمة... حتى آخر نبضة.
ولربما، في زمن السرعة والتخطي، أن تكون من الذين ينتبهون للتتر... هو فعل نادر.
في المرة القادمة، قبل أن تضغط زر "تخطٍ"، جرب أن تبقى... فقط دقيقة…
في البداية يُرحب بك التتر، وفي النهاية يودعك... وبين الترحيب والوداع، هناك فيلم، وهناك روح… لا يراها إلا من اختار أن يُشاهد كل شيء، حتى الأسماء.