عُمان.. والنظرية الكونية للسلام
تاريخ النشر: 23rd, June 2025 GMT
لقد كانت سلطنة عمان تسعى جاهدة لمنع وقوع الحرب بين إيران؛ وأمريكا وإسرائيل، فهي تدرك الخطر المحدق بالمنطقة الذي لن يقتصر شره على الأطراف المتقاتلة، وإنما قد يتعداها إلى جبهات دولية أوسع، وربما تشترك في الحرب أطراف أخرى؛ يتمحور بعضها مع إيران والآخر مع إسرائيل، في حالة استقطاب حصل مثلها من قبل في القرن العشرين الميلادي، أدت إلى اشتعال الحربين الكبريين اللتين فتكتا بملايين البشر، وعلى إثرهما ألقت أمريكا قنبلتيها الذريتين على اليابان.
ومنذ التسعينيات الميلادية استفردت أمريكا بالنظام العالمي، ولم يحل السلام في الأرض.. بل إن أمريكا ذاتها واصلت الحروب، وعملت على تأجيج أوارها: (كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً) «المائدة:64».
بينما كانت سلطنة عمان تسعى إلى منع تدهور الأوضاع، وجمعت أمريكا وإيران على طاولة المفاوضات، وكان قلب المنطقة معلقاً أمله على نجاحها، بالوصول إلى اتفاق بين الطرفين حول الملف النووي، إذا بإسرائيل تعاجل للإطاحة بنظام الجمهورية الإسلامية في إيران؛ باغتيالات واسعة لقياداتها العسكرية وخبرائها النوويين، لكي تعيد تشكيل الشرق الأوسط تحت سيادتها. إن ما قامت به إسرائيل لن يؤدي إلى وضع أفضل، مهما كانت طبيعته الجديدة التي ستولد تحت ركام الدمار، وإنما سيؤدي إلى مزيد من الصراعات الدموية، التي لن يقف أثرها على المنطقة، وإنما سيحدث خللاً عميقاً في المصالح العالمية، وانبعاثَ موجة من الإرهاب الدولي. هذه المرة.. لن يكون مقتصراً على الأساليب التقليدية، وإنما سيستعمل أسلحة نووية، ويستند إلى خوارزميات رقمية، ربما ببرمجة بسيطة تفجر مفاعلات نووية، أو تقطع الكهرباء عن بلدان؛ تصبح فجأة مدناً للموت بعد أن كانت تضج بالحياة.
(السلام مذهب آمنا به).. مقولة خالدة قالها السلطان الراحل قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه (ت:2020م)، تعد المبدأ الأخلاقي الذي يدفع بعمان إلى السعي لوقف انفجار الوضع الذي تعيش المنطقة ويلاته الآن. هذه المقولة.. لم تكن بالنسبة لعمان موقفاً استراتيجياً فحسب، وإنما مبدأُها السياسي الأول، وهي قبل ذلك؛ تكثيف لما يطمح إليه الضمير العماني بأن يسود في العالم. إن السلام لدينا نحن العمانيين أرسخ من كونه حاجة ماسة لتجنب ويلات الحرب، فهو قيمة أخلاقية لكي تعيش به الشعوب، وتؤسس الدول عليه علاقاتها. وهو كذلك؛ أمر وجودي، فإنْ كان كثير من الدول أقامت فلسفة وجودها على التوسع والحرب؛ فإنَّ عمان فلسفة وجودها السلام. إننا لا نريد أن نعيش على هذه البسيطة في حالة صراع، لأن العيش تحت رحمة الحرب ليس بحياة.. بل دمار وفناء وظلم وانحدار أخلاقي، يقول الشاعر العربي المخضرم زهير بن أبي سلمى (ت:609م):
وَمَا الحَرْبُ إِلَّا مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ
وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيثِ المُرَجَّمِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا تَبْعَثُوهَا ذَمِيْمَةً
وَتَضْرَ إِذَا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ
فَتَعْرُكُكُمْ عَرْكَ الرَّحَى بِثِفَالِهَا
وَتَلْقَحْ كِشَافاً ثُمَّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
فَتُنْتِجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ كُلُّهُمْ
كَأَحْمَرِ عَادٍ ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ
فَتُغْلِلْ لَكُمْ مَا لاَ تُغِلُّ لأَهْلِهَا
قُرَىً بِالْعِرَاقِ مِنْ قَفِيْزٍ وَدِرْهَمِ
وبعد؛ فلا أطيل الحديث عن فلسفة السلام التي اتخذته عمان مذهباً، ويكفي أن أقول بأنه واجب ديني وأخلاقي؛ قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) «البقرة:208»، فالسلم..
قرين الإيمان، والحرب.. اتباعٌ لخطوات الشيطان. وإنما المقال يتحدث عن السلام بكونه مذهباً للبشر كافة، يلتزمون به في كل أحوالهم، وينشرونه بين بعضهم البعض، فيكون نظرية من النظريات الكبرى التي تعتنقها الإنسانية، تسري بين الناس كسريان العولمة والعصر الرقمي. وإذا كان العدل يقتضي أن من يُعتدى عليه؛ فله الحق أن يرد عن نفسه العدوان، فاجتثاث العدوان من أصله هو ذروة العدل، ولذا؛ ينبغي أن تتوافر إرادة بشرية جامعة لاعتناق السلام مذهباً.
فإن قلتَ: أتقول هذا والعالم على شفا جرف هارٍ من حرب عالمية؟ أتقول هذا وأنت تحت مسار الصواريخ والطائرات والمسيّرات التي تتبادل توزيع الموت بين إيران وإسرائيل، بعدما اكتسحت إسرائيل غزة وأبادت أهلها، ودمرت الجنوب اللبناني؟!
قلتُ: إن هذا الوقت هو الأنسب، فكم من نظرية فلسفية انبثقت بعدما بلغت القلوب الحناجر من أهوال المعارك. فالحروب بين أفراق المسلمين أنتجت الفلسفة الإسلامية «علم الكلام»، والحروب بين الكاثوليك والبروتستانت بين المسيحيين الغربيين أنجبت فلسفة التنوير، والحرب العالمية الثانية ولدت الفلسفة الوجودية والنزعة الإنسانية الجديدة. فهذا هو الوقت الذي يلح علينا أن نسعى إلى إلغاء الحرب من قاموس حياتنا.
نصف قرن.. سعت عمان بمبدأ السلام العظيم بين الدول، لم تنزع فتيل الحرب من المنطقة لكنها خففت من ويلاتها، كما أنها كانت باباً مفتوحاً للرجوع إلى حالة السلم بين الأطراف المتنازعة. إن الحرب ليست حالة عابرة.. بل هي ظاهر أزلية، فقد وجد الإنسان على الأرض ووجد معه الصراع، ومن المثالية المتعالية على الواقع أن نتصور بأن السلام سيحل على الأرض لكون بضع دول تعمل على حل المشكلات بين المتحاربين. ولذا؛ ما تحتاجه البشرية في مستقبلها هو السلام الذي يعم العالم. لأن الحروب المستقبلية لن تكون عادية، ربما أن ضرباتها الاستباقية ستكون شبيهةً بما فعلته قنبلتا هيروشيما وناجازاكي، فما أدراكما يعقبها من محق وسحق؟! إن المسار الطويل من الحروب وتعقيدات الشبكة البشرية الضخمة؛ جعلنا نستبعد أن يكون السلام هو الحالة الطبيعية للبشر، وأن الحرب هي الاستثناء. بيد أن هذا لا يمنع أن يكون السلام هو الجهاد الأخلاقي الأسمى الذي ينبغي للبشرية أن تسعى إليه.
إن سلطنة عمان مؤهلة لأن تنتج نظرية كبرى للسلام تعم العالم، إن لدينا من النفوس الصادقة ما يؤهلها أن تحول «مبدأ السلام» من ممارسات محدودة بمعالجة الملفات الملتهبة، إلى «مبدأ إنساني شامل». إلا أن التنظير وحده لا يكفي، فلا بد أن يستتبعه عمل دؤوب يبشر بالسلام على المستوى العالمي، ولتحقيق ذلك أقترح الخطوات الآتية:
1. تخصيص لجنة من المفكرين العمانيين لوضع «نظرية السلام»، من حيث رؤيتها الكلية ورسالتها الشاملة وأهدافها العالمية، وتجارب السلام، وتطبيقاته في العالم، والتحديات التي تقف أمامها. وبلورة كل ذلك في دراسات موسعة، عبر ندوات ومؤتمرات؛ يُقدِم فيها بحوثاً فلاسفة ومفكرون وناشطو السلام، ثم الخروج بنظرية واعية وناضجة وعملية؛ غير مسهبة ولا معقدة بالتنظيرات المفاهيمية.
2. بعد مراجعات من أنظمة الدولة القانونية والدستورية بسلطنة عمان؛ بما في ذلك مجلسا الدولة والشورى، ثم اعتمادها من قِبَل جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -حفظه الله- تُضمن «النظام الأساسي للدولة».
3. على المستوى العماني؛ إنشاء هيئة خاصة بـ«نظرية السلام»، لتضمينها في مناهج التعليم المختلفة، واشتغال الكراسي الأكاديمية في الجامعات العالمية على تمكينها للطلبة، وإقامة البرامج التثقيفية لها.
4. اعتماد مؤتمر سنوي؛ مقره مسقط، لتعميم نظرية السلام على أرجاء العالم، ويجعل من عمان قِبلة العالم للسلام.
5. رفعها إلى هيئة الأمم المتحدة لتضمينها في مبادئ ومواثيق وقوانين المنظمة العالمية، ثم تعمل الهيئة على فتح مكاتب للعمل بالنظرية في الدول الأعضاء بها.
6. تشكيل تيار عالمي من دعاة السلام؛ خاصةً الشباب، ودعم جهودهم وأنشطتهم، وترشيد أعمالهم وبرامجهم في العالم، حتى لا تخرج عن سياقها العام وهدفها المنشود. بهذا تكون سلطنة عمان صاحبة نظرية كونية، هي أنبل النظريات التي ينبغي أن يتمثلها البشر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: سلطنة عمان
إقرأ أيضاً:
WP: ترامب ضلل العالم بشأن إيران ويقود حربا دون تصور واضح للسلام
أكدت صحيفة "واشنطن بوست" أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضلّل العالم، بما في ذلك الرأي العام الأمريكي، عندما أعلن الخميس أنه سيستغرق ما يصل إلى أسبوعين لاتخاذ قرار بشأن قصف إيران، مضيفة أن ما حدث لاحقًا من تطورات أظهر أن القرار كان متخذًا سلفًا.
وأوضحت الصحيفة في مقال لهيئتها التحريرية، أن ترامب وفي خطاب ألقاه السبت، أعلن أن الولايات المتحدة "دمرت بالكامل" المنشآت النووية الإيرانية في نطنز وفوردو، إلى جانب موقع في أصفهان يحتوي على منشأة لتحويل اليورانيوم.
ودعا ترامب طهران إلى "صنع السلام"، محذرًا من أنها قد تواجه "مأساةً أكبر بكثير مما شهدناه خلال الأيام الثمانية الماضية"، ومشيرًا إلى أن هناك العديد من الأهداف الأخرى التي يمكن للولايات المتحدة ضربها.
ورأت الصحيفة أن ترامب "زجّ بالولايات المتحدة في حرب ضروس مع إيران، يبدو أن الجيش الأمريكي كان مستعدًا لها تمامًا، في حين لم تكن بقية مؤسسات الدولة كذلك"، لكنها أشارت إلى أن الرئيس لم يحدد بعد شكل "السلام" الذي ينشده.
وتساءلت الصحيفة: "هل المقصود التزام طهران بعدم السعي مطلقًا إلى امتلاك أسلحة نووية؟ أم إنهاء العنف الذي ترعاه إيران في الشرق الأوسط؟ أم أن الغاية هي تغيير النظام؟".
وذكّرت بأن ترامب كان قد طالب، قبل الضربات، بـ"استسلام غير مشروط"، متسائلة ما إذا كان سيقبل بأقل من ذلك، وكم من الموارد الأمريكية سيخصص لتحقيق هدفه.
واعتبرت الصحيفة أن الغموض الاستراتيجي قد يكون مفيدًا في تضليل الخصم، لكنه غير مقبول في الداخل، خاصة بالنسبة للأمريكيين ولممثليهم في الكونغرس، الذين يخولهم الدستور سلطة إعلان الحرب. وأضافت أن هؤلاء يحتاجون إلى وضوح تام بشأن ما يسعى إليه ترامب، وكيف يعتزم تحقيقه.
وأشارت الصحيفة إلى أن ترامب، وقد اختار خوض الصراع، بناءً على أن الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تمتلك القنابل الخارقة للتحصينات القادرة على تدمير المنشآت النووية الإيرانية، صار ملزمًا بتحقيق ما ادّعى مساء السبت، أي تدمير البرنامج النووي الإيراني بالكامل.
ولفتت إلى أن ذلك لا يعني فقط قصف المواقع المستهدفة، بل أيضًا القضاء على أي قدرة متبقية لإنتاج أسلحة، ثم التوصل إلى اتفاق مع طهران يُنهي برنامجها النووي نهائيًا.
ورأت أن هذا المسار سيكون محفوفًا بالتعقيدات، إذ من المرجح، بعد الضربات، أن تسعى الحكومة الإيرانية إلى تأمين نظامها عبر السعي سرًا لامتلاك السلاح النووي بوتيرة أعلى من السابق، الأمر الذي قد يؤدي بدوره إلى تجدد الدعوات لإسقاط النظام.
وحذرت الصحيفة من أن على ترامب أن يُنكر أي نية لتغيير النظام، مشيرة إلى أن إسقاط النظام الإيراني سيكون أكثر تعقيدًا من التجربتين الأمريكيتين في العراق وأفغانستان. كما اعتبرت أنه يجب على الرئيس أن يكبح جماح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي قد يسعى لتوسيع نطاق الحرب. وأضافت أن نتنياهو قد جرّ الولايات المتحدة إلى هذه المواجهة، وعلى ترامب ألّا يسمح له بفرض شروط إنهائها.
وربطت الصحيفة مصير التصعيد بتفاعل إيران مع التطورات الميدانية، لافتة إلى أن الغارات الجوية الإسرائيلية، خلال أكثر من أسبوع، أضعفت القدرات الصاروخية الإيرانية، وأسفرت عن مقتل عدد من كبار القادة العسكريين الإيرانيين، ما تسبب في اضطراب كبير في القيادة والسيطرة. ومع ذلك، قالت الصحيفة إن إيران لا تزال تمتلك القدرة على استهداف المصالح الأمريكية، بما يشمل القوات الأمريكية البالغ عددها نحو 40 ألف جندي في الشرق الأوسط، إلى جانب احتمالات تعطيل الملاحة في مضيق هرمز، أو استهداف حلفاء واشنطن في المنطقة، في محاولة لإشعال نزاع إقليمي أوسع.
ورجّحت احتمالين: الأول أن تُقلّص إيران ردها بعد استسلامها، وأن تُبدي استعدادًا للتفاوض على اتفاق يفرض قيودًا دائمة على أنشطتها النووية. والثاني أن تتجه المنطقة نحو تصعيد متبادل من الضربات والردود، مشيرة إلى أن تدمير مواقع نووية منفصلة قد يكون أسهل من شلّ قدرة إيران على شنّ هجمات غير تقليدية أو التأثير على حركة التجارة في الخليج. وضربت مثالًا بالحوثيين المدعومين من طهران، الذين تمكنوا من تهديد الملاحة في البحر الأحمر رغم جهود دولية مكثفة لردعهم.
وختمت بالقول إن المجهول الآن هو إلى أي مدى سيشعر ترامب بأنه مُجبر على إنهاء هذه التهديدات بالقوة، أو على الأقل محاولة ذلك، وإلى أي مدى سيرضى بفرض قيود على البرنامج النووي فقط، دون السعي إلى الحد من قدرة إيران على إنتاج أو استخدام أسلحة تقليدية.
كما تساءلت عن المدة التي قد يطيل فيها أمد الحرب لتحقيق أهداف تتجاوز احتواء البرنامج النووي، مشددة على أنه لا يوجد شيء "استراتيجي" في بقاء الموقف الأمريكي غامضًا حيال كل هذه القضايا، خصوصًا في وقت يسعى فيه البيت الأبيض إلى حشد تأييد داخلي لصراع لم يكن أحد يتوقعه قبل أسابيع فقط.