مؤمن الجندي يكتب: مهما صفق الواقفون
تاريخ النشر: 24th, June 2025 GMT
حين تتكرّر الهزيمة، تُصبح كرة القدم عجوزًا ساخرة، تجلس على حافة المدرّج، تضحك على أحلامنا المتكررة، وتصفّق بحرارةٍ لخيبتنا كلما لبسناها ثوب المجد الزائف.. هي لا تكرهنا كما نزعم، ولا تحبّ غيرنا كما نتوهّم، لكنها ترفض أن تُصافح من لا يحترم قواعدها، ولا يمنحها ما تستحق من عقلٍ، لا عاطفة.
مؤمن الجندي يكتب: أثر اللامستحيل مؤمن الجندي يكتب: ما الذي لا يستطيع المال شراؤه؟نخسر، فنبكي.
هي عادتنا.. لا نشتريها، بل نرثها.. عادتنا في تدوير الخيبة، وتلميع الفشل، وارتداء وسام "الشرف" على صدر الهزيمة.. خرج الأهلي من الدور الأول لكأس العالم للأندية بلا انتصارات، كما خرجت غيره من قبل منتخبات مصرية في بطولات عالمية، كما سيخرج القادمون من بعده.. خروج "مشرف" كما يقولون، لكنه في الحقيقة لا يشرف أحدًا، ولا يليق بمن يمتلك ذرة طموح أو احترام لذاته.
خرج لأن الكرة لم "تخونه"، بل لأنه خان فرصه وإمكانياته.. ضيّع أهدافًا، وتراخى في لحظات الحسم، وراهن على حظ عاقر لا ينجب إلا الندم.. خرج لأن هناك من يفضّل تبرير السقوط، لا تحليله، لأننا نحترف صناعة الأعذار أكثر من صناعة الإنجاز.
كل مرة، نفس الملامح، نفس النبرة، نفس الكلمات: "كنتم رجالة"، "ولا يهمك يا بطل"، وكأننا نغني لخيبة نحبها!
نحن الشعب الذي يحب تزيين الانكسارات، ويجيد تأليف الأهازيج في جنازات الفُرص الضائعة.. بل نختزل الفشل في "عدم التوفيق"، وكأن الحظ هو اللاعب رقم 12، وليس التنظيم الفني، ولا الاستعداد، ولا الإدارة ولا حتى تركيز اللاعبين على أرضية الميدان.
نكرّر السيناريو ذاته منذ عقود، في الكرة، وفي اليد، وفي الطائرة، وفي كل لعبة دخلناها بـ "حلم"، وخرجنا منها بـ "عذر".
المشهد محفوظ:
هزيمة دموع تصفيق جماهيري… منشورات على السوشيال ميديا… ومقولة شهيرة: "شرفتونا".. لكن الحقيقة؟
لا، لم يُشرّفنا أحد بمجرد الحضور، فالعالم لا يتذكّر من حضر، بل من حصد.. والقفز من الطائرة دون مظلة لا يجعلك شجاعًا، بل ساذجًا مهما صفّق لك الواقفون في الأسفل.
"الخروج المشرف" أكذوبة نُغنّيها لأنفسنا كي لا نسمع صوت خيبتنا، و"الحظ" ليس خصمك، بل عادتك في الهروب من الحقيقة.
في النهاية، كلماتي ليست للأهلي فقط بل للجميع.. لا تطلب من العالم أن يحترمك، وأنت لا تحاسب من خذلك، ولا تنتظر المجد، وأنت تفرح ببطاقات المشاركة، لا بالكؤوس.. إن لم نخجل من كثرة النسخ التي نكرر فيها هذا السيناريو، فليكن عندنا من الشجاعة ما يكفي لنمزق هذه النسخة، ولنكتب حكاية أخرى.. حكاية إنجاز، لا "عذر".. حكاية بطولة، لا دموع.
حكاية نرويها للعالم، لا لأنفسنا فقط.
للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا
المصدر: بوابة الفجر
كلمات دلالية: الأهلي كاس العالم للاندية ميسي الأهلي وبورتو أمريكا مؤمن الجندي مؤمن الجندی
إقرأ أيضاً:
"جنازتان في يوم واحد تهزّ الترامسة.. حكاية يوسف ونوال أبكت النيل شرقا و غربا
في صباح الجمعة، لم تكن الشمس قد أشرقت بعد، حين بدأ الحزن يُلقي بظلاله الثقيلة على قرية الترامسة، غرب نيل قنا. استيقظت القرية على نبأ وفاة أحد أعمدتها، الرجل الطيب يوسف دياب (44 عامًا)، الذي قضى نحبه بعد صراع دام أسابيع مع إصابة خطيرة في الرأس، إثر حادث سير لم يشفَ منه تمامًا.
رحل يوسف فجرًا، تاركًا خلفه زوجة محبة وثلاثة أطفال في عمر الزهور، لم يعرفوا بعد ما تعنيه كلمة "يُتم"، لكنهم سيتعلمونها مبكرًا، وبأقسى الطرق.
كان يوسف أبًا هادئًا، يملأ بيته دفئًا وطمأنينة، ويملأ قلوب جيرانه محبة واحترامًا. حين أُعلن خبر وفاته، خرجت الترامسة عن بكرة أبيها، الكل حضر، من يعرفه ومن لا يعرفه، فالوجع لا يحتاج إلى دعوة.
في جنازة مهيبة، حمل الرجال جسده على الأعناق، والدموع تُبلل وجوه الرفاق، أما زوجته نوال علي (35 عامًا)، فكانت جالسة هناك، في صمتٍ موجع، تنظر إلى النعش وكأن روحها تسير معه.
لم يكن يعلم أحد في القرية الحزينة أن الجنازة ستُعاد في المساء.. بنفس المشيعين، بنفس الوجع، ولكن بجثمان هذه المرة الركن الثاني للأسرة الصغير ة
فبعد دفن يوسف، وبينما النساء يواسِين نوال في ركن العزاء، سقطت فجأة دون صوت. لا صراخ، لا عويل، فقط سكون تام، كما لو أن القلب اختار أن يودّع الحياة دون مقاومة.
تم نقلها على الفور إلى مستشفى قنا العام، وهناك لفظت أنفاسها الأخيرة. الأطباء قالوا: "أزمة قلبية مفاجئة". لكن القرية كلها كانت تعرف السبب الحقيقي: "القلب انكسر، فمات."
لم تمضِ سوى ساعات من جنازة الزوج، حتى اجتمع الناس مرة أخرى، يشيعون نوال إلى نفس القبر، إلى جوار من أحبّت وعاشت معه حلو الحياة ومرّها. خرجت الترامسة في جنازة ثانية لا تقل وجعًا عن الأولى، نساء يحملن الألم، ورجال يجرّون أقدامهم بالحزن.
في كل بيت من بيوت الترامسة، عُلّقت حكاية يوسف ونوال على الجدران، لا بالصور، بل بالدموع. "كانا مثالًا للستر والسكينة، كانا عاشقين بصمت، لا يستعرضان مشاعرهما، لكن الحياة بينهما كانت مليئة بالتفاهم والمودة. وحين اختار أحدهما الرحيل، لم يحتمل الآخر الغياب، فاجتمعا من جديد.. تحت التراب.
الزوجان رحلا في نفس اليوم، وتركوا خلفهم ثلاثة أطفال، كتب عليهم القدر أن يعرفوا قسوة الحياة مبكرًا. لكنهم في المقابل، سيحملون إرثًا لا يملكه كثيرون:
في يومٍ واحد، تغيّر شكل الحياة بالكامل في ذلك المنزل الصغير، الذي كان يومًا يعجّ بالضحك والصوت والحنان. الآن، صمت ثقيل يسكنه.. وثلاثة أيتام ينامون وحولهم دعوات الناس، وعين الله.
لم تتشح الترامسة غرب النيل بقنا وحدها بالسواد، بل امتد الحزن شرقًا وغربًا. على ضفتي النيل، بكت النساء والرجال، الشيوخ والشباب، وكأن الجميع فقد جزءًا من روحه. وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعي سرادق عزاء لا ينتهي، كلماتهم واحدة: "اللهم اجمع بينهما في الجنة كما جمعتهما الحياة على الوفاء."
وعبر أحد أصحاب الصفحات بقوله بأنه لم أرَ مشهدًا كهذا في حياتي.. كأن السماء بكت معنا، وكأن الأرض ضاقت بهذا الرحيل المفاجئ."
وستظل الجمعة التي مات فيها يوسف، ثم لحقت به نوال، محفورة في ذاكرة القرية إلى الأبد.ليس لأنها مأساة فقط، بل لأنها شهادة على أن الحب الحقيقي لا ينتهي بالفقد، بل قد يبدأ به.
"عاشا معًا.. وماتا معًا" هكذا لخص أهل القرية قصتهما.
لكن القصة لم تنتهِ هنا، بل بدأت في قلوب الجميع، كأجمل ما كُتب عن الوفاء، وأصدق ما قيل عن الموت حين يصبح بابًا إلى اللقاء لا إلى الفراق.