تتحقق المقاربة هنا في مسألة الهروب من الواقع من خلال إما الهروب من مشكلة آنية لا يريد الفرد أن يزج نفسه فيها، خاصة إن قيَّم الأمر على أنه «حشرية» زائدة «لا ناقة له فيها ولا جمل»، وإما من خلال ما سوف تجر عليه المشكلة من الكثير من المتاعب هو في غنى عنها. وهذه من المواقف التي يشاد فيها بمثل هؤلاء الأشخاص؛ ذلك أن واقع الناس لا يحتمل الكثير من الاحتقان، بقدر ما يستدعي الكثير من الهدوء، والاطمئنان، أو من خلال إشراك الآخرين في المشكلات الخاصة، وهي أخطرها من مفهوم الهروب.
ولذلك؛ عندما نستحضر المثل القائل: «الهروب نصف المرجلة» نتدارك الكثير من التداعيات التي قد تحدث، والتي قد لا تكون حاضرة في نفس اللحظة، أو التي لم تستدعها الذاكرة بعد في زحمة الحدث، وهي المخزنة من التجارب السابقة لذات الأحداث الناتجة غالبا من اختلاف وجهات النظر بين الأفراد، وتصادماتهم، وتقاطع مصالحهم، وآرائهم. ويأتي تعبير: «نصف المرجلة»؛ لتدارك الكثير من التداعيات التي للإنسان غنى عنها في ظل الكثير من المهام والمسؤوليات الملقاة على عاتقه.
تذهب المناقشة هنا أكثر ليس حول القضايا العمومية التي يعيشها الناس ويتعايشون معها، وإنما تختزل المشهد العام في القضايا الخاصة، والخاصة جدا، وذلك عندما يُصَدِّر الفرد مشكلاته إلى خارج حدوده، فهو بذلك يطلع الآخرين عليها من ناحية، ويعكس للآخرين عدم قدرته على مواجهته لها من ناحية ثانية، وكأنه لا يستنجد فقط بالآخرين من حوله ليعينوه على تجاوز المحنة، وإنما يضعهم في خضمها كنوع من التبرير أو الهروب عن واقعه، معرضا بذلك نفسه وعائلته لإزاحة الستار عن خصوصياته، ومتيحا الفرصة لمن يريد أن يتخذ ذلك متكأ للي الذراع في ظرف أو موقف ما.
وهنا المسألة تختلف اختلافا جذريا عن مفهوم الاستشارة التي يسعى الفرد من خلالها لأن يستشير ممن يثق بهم من حوله؛ لمساعدته على تجاوز ما حل به من معضلات -ربما لا تسعفه تجربة الحياة المتحصلة عنده-، والتفكير في حلول سريعة لها. فالاستشارة لا تقتضي أن يفتح الفرد ملفاته صغيرها وكبيرها أمام الآخر على اتساع الأفق، بقدر ما يلمح إلى الشيء اليسير مما هو واقع فيه، وفي دائرة ضيقة جدا.
الآخرون -مهما قربت المسافة بين الفرد وبينهم- لن يكونوا أكثر أمانا من أمانة الفرد لنفسه، ولن يكونوا أكثر حرصا من حرص الفرد على نفسه «إذا ضاق صدر المرء من سر نفسه؛ فصدر الذي يستودع السر أشرف» والشرف هنا وضع نفسه في المستوى الآمن من اختراق الآخرين لدائرته الخاصة. ولذلك فهناك كثيرون دفعوا أثمانا باهظة؛ لأنهم فقط وثقوا في آخرين «جهلا» بحقيقتهم.
ولذلك فالذي يفصح عن كثير من خصوصياته، ويرى الآخر أكثر أمانا لأسراره، أو ملجأ له في ذات الأمر، ومن لم يستطع حماية ممتلكاتك المادية والمعنوية على حد سواء؛ فهو في كل هذه الأحوال هارب من واقعه. ولذلك يأتي تقييم الذين هم وفق هذه الشاكلة على أنهم من ذوي الشخصيات المهزوزة والضعيفة، وقد لا يثق الآخرون فيهم؛ خوفا أن يصبح ما يفصحون به لهم على ألسنة الناس في اليوم التالي، مع تأكيد أن من يهرب عن واقعه ليس شرطا أن تحكم مسألته على مستوى العمر، أو تجربة الحياة، أو المستوى المعرفي الذي وصل إليه إطلاقا؛ فهناك من يتحقق عندهم كل ذلك، ومع ذلك يظلون كتابا مفتوحا يقلب صفحاته القريب والبعيد، العدو والصديق، ومثل هؤلاء يصعب علاجهم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الکثیر من
إقرأ أيضاً:
شروط الإمامة في الصلاة عند الفقهاء
الصلاة.. قالت دار الإفتاء المصرية إن الفقهاء اختلفوا في مواصفاتُ الأحق بالإمامة في الصلاة؛ لاختلاف ظواهر النصوص في ذلك، مشيرة إلى أن المختار في ذلك أنه يُسْتَحَبُّ في الإمام أشياء:
شروط الإمامة في الصلاة:الفقه، والقراءة، والورع -العفة وحسن السيرة-، والسنّ -أي في الإسلام-، والنسب -فيُقَدَّمُ الهاشميّ والمُطَّلِبِيّ على سائر قريش، وسائرها على سائر العرب، وسائرهم على العجم-، والعدل أولى بالإمامة من الفاسق، وإن اختصَّ الأخيرُ بزيادة في فقه وقراءة وباقي الخصال، فصحيح أنَّ الصلاة خلف البَرِّ والفاجرِ من المسلمين جائزة، إلا أنَّ الأفضلَ الصلاة خلف العدل المستقيم الورع.
والأصحّ أنَّ الأفقه مُقَدَّم على الأورع، وكذا يُقَدَّم الأقرأ على الأورع.
والصحيحُ أنَّ صاحب الفقه الكثير الذي ليس معه من القرآن الكريم إلا ما يكفي لقراءة الصلاة أولى من قليل الفقه الذي يُحسِن القرآن الكريم كله.
الإمامة في الصلاة:
ومَنْ جمع الفقه والقرآن الكريم مُقَدَّمٌ قطعًا على صاحب واحد منهما فقط.
وصاحبُ الفقه ومثله صاحبُ القراءة مُقَدَّمٌ على صاحب النسب أو صاحب السن.
وهناك مفضِّلات بعد ذلك في حالة تساوي الموجودين في الصفات المذكورة: منها نظافةُ الثوب والبدن عن الأوساخ، وطيب الصنعة، وحُسن الصوت، وما أشبهها من الفضائل.
كلُّ هذا إذا لم يكن الشخص واليًا في محلّ ولايته، فإن كان فهو أولى حينئذ من الجميع، حتى من إمام المسجد ومالك الدار وغيرهما إذا أَذِنَ المالكُ في إقامة الجماعة في ملكه، وصاحبُ الملك أحقّ من غيره، وساكن الموضع بحق وإن كان مستأجِرًا أولى من الأجنبي.
الصلاة:
وهناك أيضًا أخلاقًا وآدابًا يجب أن تراعى في إمامة الصلاة منها الابتعاد عن التَّشَوُّف للولايات؛ فهي مسؤولية وأمانة، فعلى المسلم إحسان الظن بأخيه المسلم وإغضاض حق نفسه، إلا لو علم يقينًا أن الآخر لا يصلحُ للإمامة -كمن لا يجيدُ الفاتحة أو لا يدركُ فقه الصلاة- على حين أنه يعلمُ من نفسه الصلاحية للإمامة فيجب عليه حينئذٍ أن يُقَدِّم نفسه، ولا يجوز له التخلّي عن ذلك؛ حيث إنّه لا تجوز إمامة الأُمِّي وهو من لا يقرأ الفاتحة للقارئ وهو من يقرؤها.
وأيضًا إذا شَعَرَ الإمامُ أن المأمومين لا يحبُّون صلاته أو يكرهونها فعليه أن يتنازل لمن يتفقون عليه، حتى وإن كان أقلّ منه في مقاصد الإمامة ما دام الآخر صالحًا لها؛ طلبًا لاجتماع الكلمة.