فتاوى :يجيب عنها فضيلة الشيخ د. كهلان بن نبهان الخروصي مساعد المفتي العام لسلطنة عُمان
تاريخ النشر: 3rd, July 2025 GMT
في قوله تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ»، ما معنى «بغير حساب»؟
معنى هذه الآية الكريمة قريب جدًّا من قول الله تبارك وتعالى: «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»، وهذا المعنى تكرر كثيرًا في كتاب الله عز وجل، وهنا فئة خاصة بيّن الله عز وجل أن لها من عنده أجرًا ورزقًا بغير حساب، فقال: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ»، وخير من جمع الوجوه التي تحتملها هذه الآية الكريمة -فيما اطَّلعتُ عليه- الدكتور الشيخ محمد عبدالله دراز في النبأ العظيم، وأذكر أني حينما اطَّلعتُ على ما كتبه، وقد ذكر معنى قول الله تبارك وتعالى: «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ» في هامش الكتاب في النسخة التي اطَّلعتُ عليها، لا في صلب الكتاب، فشدني ما اطَّلعتُ عليه حين قرأت ما كتبه الشيخ دراز في النبأ العظيم، وما ذكره في آية البقرة «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ»، يصدق على هذه الآية الكريمة محل السؤال: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ».
ولنفهم معنى الآية الكريمة، لعلّي ألخص بتصرّف ما قاله الشيخ دراز، وقد ذكر ذلك في الهامش حينما تحدث عن وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وذكر أن القرآن قد بلغ نهاية الفضيلة البيانية لجمعه بين خصائص عدة، ذكر منها: القصد في اللفظ مع الوفاء بالمعنى، نعم، مع تباعد ما بين هذه الأوصاف، إلا أن القرآن يجمع هذه الخصائص، فقال في الأمر الأول: القصد في اللفظ مع الوفاء بالمعنى، ثم قال أيضًا من ضمن هذه الخصائص: إقناع العقل وإمتاع العاطفة، وذكر في الخاصية الثالثة: خطاب العامة وخطاب الخاصة، أي في سياق واحد، في تركيب بياني واحد، تجد أنه يصلح لخطاب العامة كما يصلح لخطاب الخاصة، تجد أن فيه إقناعًا للعقل كما أن فيه إمتاعًا للعاطفة، تجد أنه يسلك مسلك القصد في اللفظ مع عدم الإخلال بشيء مما يستدعيه المعنى، وذكر من جملة ذلك: الجمع بين البيان والإجمال، وفي الهامش ذكر هذا المثال، وهو قول الله تبارك وتعالى: «وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».
وقد قلت إن ما ذكره من وجوه يصلح على هذه الآية الكريمة: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ»، فيمكن أن يُنظر إلى معنى هذه الآية الكريمة من جهة الرازق سبحانه وتعالى، كما يمكن أن يُنظر إليها من جهة المرزوق، الذين يُوفَّون أجورهم بغير حساب في الآية محل السؤال.
أما من جهة الرازق سبحانه وتعالى، فإنه يرزق دون أن يُحاسبه أحد أو يسأله سائل، فيكون المعنى صحيحًا: بغير حساب أي على هذا الرازق، فلا يسأله سائل ولا يُحاسبه محاسب، والوجه الثاني: أن هذا الرازق سبحانه وتعالى يعطي من غير تقطير ولا حساب لنفاد، فعطاؤه لا نفاد له، وهو يعطي عطاءً لا حدّ له، لا يخشى معه تقطيرًا ولا نفادًا من قبل نفسه، فلئن كان الوجه الأول من محاسب يُحاسب أو سائل يسأل، فقد تكون المبخلة من جهة النفس، وهذا مُنتفٍ في حق الله تبارك وتعالى، فهو يُعطي بلا تقتير ولا خوف من محاسبة النفس على النفاد.
هذا من جهة الرازق، من جهة الذي يُوفي الصابرين أجورهم سبحانه وتعالى، أما من جهة المرزوق، فهناك وجوه ثلاثة يمكن أيضًا تلخيصها: بأن رزق هؤلاء الذين يرزقهم الله تبارك وتعالى بغير حساب وهم الصابرون في هذه الآية الكريمة يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا ينتظرون، فيكون معنى الآية صحيحًا: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ»، أي من حيث لا يحتسبون ولا ينتظرون.
والمعنى الثاني: أنهم يُوفَّون أجورهم دون أن يخشوا عواقب، أو أن يسألهم سائل، أو أن يُحاسبهم محاسب، فهذا العطاء، هذا الأجر الذي أعده الله تبارك وتعالى، لا يسألهم عنه سائل، ولا يُحاسبهم عليه محاسب، وهذا المعنى صحيح، صالح، يضيف وفاءً للمعنى، كما هو ظاهر.
المعنى الثالث: أن هذا العطاء، هذا الأجر والثواب، وهذا الرزق الذي ادَّخره الله تبارك وتعالى لهؤلاء، أنه لا أمد له ولا حدّ له، فيختلف عما قبله، وعما قبل الأول في حق المرزوقين هؤلاء: أن الأول أنه يأتيهم من حيث لا يحتسبون ولا ينتظرون، وأما الثاني: فهو عند عطائهم، فإنهم لا يخشون عاقبة، لا يخشون من يسألهم، ومن يُحاسبهم على ما أُعطوا إياه، وأما الثالث: فيتعلق بالعطاء نفسه، فالعطاء نفسه لا حدّ له ولا غاية، لأنه من عند الملك الرازق سبحانه وتعالى، ولذلك فهو خارج حساب البشر، خارج ما يتوقعونه، لا غاية له ولا أمد ولا حد.
جميل، هذه الوجوه الخمسة كلها تتسع لها هذه الآية الكريمة وأمثالها في كتاب الله عز وجل، وهي كلها مقصودة، ولذلك عدّها الشيخ دراز مثالًا على البيان والإجمال في السياق الواحد، ويترتب على هذه التوجيهات المعنوية، على هذه التفسيرات، أيضًا: أوصاف في حق الله تبارك وتعالى، تليق بجلاله وكماله وجماله سبحانه وتعالى، ويترتب عليها أيضًا أوصاف هي في حق العباد المرزوقين، من حيث افتقارهم إلى الله تبارك وتعالى، وإيمانهم به، ورضاهم بما يقسمه لهم، ويقينهم بعطائه سبحانه وتعالى، ويقينهم بالآخرة، كل هذه المعاني تنبني على الوجوه التفسيرية لهذه الآية الكريمة، والله تعالى أعلم.
بعض الجهات الرسمية لا تفتح رسائلها ببسم الله الرحمن الرحيم تنزيهًا عن أن تُلقى هذه الرسالة على الأرض، فهل يصح ذلك؟ وهل يُكتفى به نطقًا دون كتابة، أي بالبسملة؟
الجواب المباشر المختصر: نعم، لا غضاضة في مثل هذا الفعل مع مثل هذا القصد، فإن كان القصد تنزيه البسملة وتنزيه ذكر الله تبارك وتعالى عن الامتهان عند من يتلقى هذا الخطاب، فلا حرج أن يطرح المرسل كتابة البسملة في مثل هذه المخاطبات والمراسلات الرسمية، لا حرج، الكلام في نفي الحرج، وأما التفصيل في المسألة نفسها ففيه كلام يمكن أيضًا أن ألخصه بأن هذه المسألة مما اختلف فيه أهل العلم، ومدار خلافهم هو حول ثبوت رواية: «كل أمر ذي بال لا يُبدأ فيه بذكر الله».
وفي رواية: «ببسم الله الرحمن الرحيم»، وفي رواية: «بالحمد لله»، أو: «بالحمد لله فهو أبتر»، وفي رواية: «فهو أقطع»، وفي رواية: «فهو أجذم»، فهذه الروايات محل خلاف، فيها مقال طويل، بل إن الجمهور ذهب إلى أنها غير مقبولة، فهي بين ضعيف وموضوع، إلا طائفة من المتساهلين في تصحيح الأحاديث، كما فعل السيوطي على سبيل المثال، فإنه قبل بعض هذه الروايات.
الآن، البحث في هذه الروايات، فقلت إن قول الجمهور وهو الأقرب أن هذه الروايات غير صحيحة بمختلف هذه الألفاظ التي ذكرتها، وإن كانت تتفاوت، ففيها ما هو ضعيف، وفيها ما هو شديد الضعف، وفيها ما هو موضوع، نعم، والخلاصة أن مؤدى هذه الأحكام على هذه الروايات: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يقل هذا القول.
لكن هذا لا يعني نفي استحباب أن تبدأ المخاطبات والرسائل بـ«بسم الله الرحمن الرحيم»، نعم، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يصدر رسائله التي يبعث بها إلى الملوك والحكام بـ«بسم الله الرحمن الرحيم»، في الخطاب الذي وجّهه إلى أهل عُمان صدر الخطاب بـ«بسم الله الرحمن الرحيم»، بل في الخطاب إلى قيصر، وكان قيصر على النصرانية، أيضًا كان الخطاب: «بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد عبد الله ورسوله إلى قيصر عظيم الروم»، فصدرها بـ«بسم الله الرحمن الرحيم».
فلذلك يظهر استحباب تصدير هذه المخاطبات بذكر اسم الله تبارك وتعالى، بالبسملة، ويُستأنس لهذا أيضًا بما في كتاب الله عز وجل، فإن كل سور القرآن الكريم قد صدرت بالبسملة إلا سورة واحدة، فهذا مما يُستأنس به أيضًا.
ولا ريب أنه من حيث رسالة سليمان عليه السلام، ولذلك -وهذا كان أيضًا دأب الخلفاء الراشدين- هناك رسائل وُجدت مخطوطة، حتى ذكرتُ في مناسبة سابقة رسالة من سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إلى أحد ولاته، موجودة في الإسكوريال في إسبانيا، وهي مصدَّرة أيضًا بـ«بسم الله الرحمن الرحيم»، مع أن موضوعها أشبه بالمخاطبات الرسمية اليوم، هي تتعلق بالجباية والزكاة والحسابات، لكنها صُدرت بالبسملة.
فعلى هذا جرى أيضًا عمل أكثر المسلمين، لكن لا ينبغي التثريب على من لم يفعل ذلك نسيانًا، سهوًا، أو قصدًا، فلا تثريب عليه، ولا يُضيَّق على من فعل ذلك، من حيث أي: لا يُضيَّق عليه، لأن الروايات التي ذكرتُ بعضها فيها ضعف، فيها مقال، ومنها ما هو موضوع.
فيُظن بأنه لا يمكن أن يُؤخذ الاستحباب من مصادر أخرى للتشريع، وقد تبين بأن فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مخاطباته: التصدير باسم الله الرحمن الرحيم، حتى في مخاطبة غير المسلمين، وأن هذا أيضًا مما يُستشهد له بما في كتاب الله عز وجل، وبما كان عليه الخلفاء الراشدون وأصحابه رضوان الله تعالى عليهم.
فالجواز، أو بل الاستحباب ظاهر، ويُضاف إلى ذلك ما هو معلوم من بركة الاستفتاح بـ«بسم الله الرحمن الرحيم»، وبذكر الله تبارك وتعالى، وخطبة الحاجة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يستفتح بها خطبه، والنكاح، وغير ذلك، فيها: «إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه»، أو في رواية: «ونستغفره»، فتُصدر بذكر الله تبارك وتعالى، كل هذا يشهد لاستحباب تصدير المخاطبات والمكاتبات بـ«بسم الله الرحمن الرحيم» أو بذكر الله تبارك وتعالى بالاستحباب، والرجحان.
هذا هو الذي يمكن أن يُقال، لكن إذا رُوعي حال المخاطَب، لا لأنه يريد أن يُمتهن أو أن يتنقص من البسملة ومن ذكر الله تبارك وتعالى، وإنما لكثرة الرسائل، ولعدم وجود وسيلة مناسبة للتخلص من هذه المخاطبات التي لا يُحتاج إليها، فإذا رُوعي ذلك، واستعان كما قال السائل استعان الكاتب بأن يُبسمل شفاها، فلا حرج ولا غضاضة في ذلك إن شاء الله، والله تعالى أعلم.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم بـ بسم الله الرحمن الرحیم هذه الآیة الکریمة هذه الروایات الله تعالى بغیر حساب وفی روایة بذکر الله یمکن أن ی فی روایة على هذه اب ر ون من جهة من حیث
إقرأ أيضاً:
لماذا يكفّر صيام عرفة سنتين بينما يكفّر عاشوراء سنة واحدة؟.. أمين الفتوى يجيب
أوضح الشيخ محمد كمال، أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، الفرق في الثواب بين صيام يوم عرفة وصيام يوم عاشوراء، مشيرًا إلى أن هذا التفاوت في الأجر يعكس حكمة إلهية، وفضلًا عظيمًا من الله عز وجل على أمة سيدنا محمد ﷺ.
وأكد أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية، اليوم الخميس، أن صيام يوم عرفة يكفّر سنة ماضية وسنة قادمة، بينما صيام عاشوراء يكفّر سنة ماضية فقط، لعدة أسباب ذكرها العلماء، ومنها: أن يوم عرفة مخصوص بأمة النبي ﷺ، ولم يكن معروفًا عند الأمم السابقة، ولذلك جعل الله ثوابه مضاعفًا تكريمًا لهذه الأمة المباركة، كما أن النبي ﷺ هو خاتم الأنبياء وأفضلهم، وأمته أفضل الأمم.
وأوضح أن يوم عرفة يقع في شهر ذي الحجة، وهو من الأشهر الحرم، ويسبقه شهر ذو القعدة (من الأشهر الحرم)، ويليه شهر المحرم (أيضًا من الأشهر الحرم). فوقع عرفة وسط ثلاثة أشهر حرم، وهذا يزيد من فضله ومن بركة الزمان، بينما يوم عاشوراء يقع في شهر المحرم فقط، وهو وإن كان من الأشهر الحرم، إلا أن الثواب فيه أقل من عرفة من حيث التكفير، لأن فضل عرفة جاء خالصًا لأمة النبي ﷺ، بينما صيام عاشوراء كان معروفًا عند بني إسرائيل، وكانوا يصومونه شكرًا لله.
وأضاف الشيخ محمد كمال: "ربنا سبحانه وتعالى بيكرم الأمة دي بنفحات متكررة، وكل عبد عاقل لازم يغتنم الفرص دي، لأن النبي ﷺ قال: 'إن لله في أيام دهركم لنفحات، ألا فتعرضوا لها'، فكل يوم فيه نفحة من نفحات الله، زي يوم عرفه، عاشوراء، رمضان، واللي عايز يتوب أو يتقرب لربنا يلاقي الأبواب مفتوحة".
وتابع: "الفرق في الأجر مش معناه إن عاشوراء قليل، بل هو يوم عظيم فيه تكفير سنة من الذنوب، وفضل عظيم، ويكفي أنه من أيام الله التي نجّى الله فيها موسى عليه السلام، لكنه مختلف عن عرفة في التخصيص والمقام".