حاتم الصكر  

 

«أنا بلا كرسي 

إذ ربما أعني: 

أنا لا أجد ما أستقر عليه. 

وبذلك يمكن أن يكون الكرسي امرأةً، أو وطناً، أو رأياً». 

– عبدالأمير جرص 

  

هل يمكننا الحديث عن تأويل حسنٍ وشامل للنصوص يتبناه القارئ؟ 

تكون الإجابات النظرية عادة بأن ذلك غير واقعي؛ لأن التأويل فردي ولا نهائي ومفتوح، ومتعدد بحسب القراءات والمنهجيات التي تستخدمه وسيلة للتحليل النصي.

 

ولا بد لنا أولاً أن نقرر حقيقة الغرض من هذا التذكير بتنشيط أو إنعاش التأويل الأدبي تحديداً، من بين أنواع التأويل الكثيرة والممكنة، وهي أن تلك المهمة تقدم خدمة للنقد الأدبي ذاته من ناحيتين: 

– إيجاد طرق جديدة وسبل معرفية تعضد الكتابة النقدية وتنقذها من التجريد والانطباع والأحكام القِيمية العامة، وتحرير الخطاب النقدي الأدبي من الجمود في الأساليب وزوايا النظر وكيفياتها. 

– واتخاذ المناهج المحددة قوالب جاهزة لتعبئة الدراسات والمقالات بالتنظير المفرَغ من جدواه، دون تطبيق إجراءاته على النصوص التي يكتسب من خلالها حيويته ومبررات وجوده، وسط الهجمات الصريحة على جدواه ووجوده، والإعلان المباشر مثلاً عن موت النقد الأدبي أو موت الناقد، والتقليل من أهمية العملية النقدية بجانب تقليل – أو نفي – جماليات النص الأدبي. 

إن التأويل يتصل في جوهره بالقراءة ونشاط القارئ في إسقاط معرفته وإدراكه على المتون، والحفر في طياتها للعثور على ما يسهم في تشخيص دلالاتها، وعمل شفراتها وصورها ومجازاتها وإيقاعها. وقد تبنّى النقاد العرب في تطبيقاتهم ضرباً من التأويل الدلالي الذي يستند إلى خطوات معرفية أولية؛ للوصول إلى تأويل ذي جدوى في العثور على دلالات النصوص الأدبية، وجوانب شعريتها وبنائها، وما تريد الوصول إليه أثناء قراءتها وفهمها وتفسيرها، واستنتاج دلالاتها، وربطها بما يمكن استحضاره من معان يسكت عنها النص لأسباب متعددة. منها الاختزال اللغوي والبنائي، والمساحة المتاحة للقول في النص الشعري خاصة، ومتطلبات إيقاعه وإنجاز مهمته الفنية التي تمهد لجماليات القراءة، ومنها التأويل الأدبي الذي يسمح ببناء معاني النص لاستيلاد دلالة تتصل بكلية النص، والمسكوت عنه، والفراغات التي تقتضيها بنية النص وإيقاعه، وتوترات الجملة الشعرية. وبهذا تضاف خطوة أخرى لتدرجات الوصول إلى التأويل، بدءاً بالقراءة فالفهم وبناء النص معنوياً والتفسير ثم التأويل. 

إن التأويل الأدبي بما أنه يستند إلى النص وينطلق من بنيته ليس قراءة فنجان تستند إلى انهيارات البن المتبقية في قعر الفنجان وجوانبه، فتكون قراءته عشوائية واعتباطية لا تستند إلى مكوّن عقلي مفهوم ومفسّر، بجانب ما يصحب ذلك من فراسة الاحتيال من ممارسي تلك القراءات، واستبطان حاجة الإنسان لاعتساف غيب مستقبله والبحث عن حلول لمشكلاته وأزماته، حتى بأغرب السبل، وأكثرها مجانية وعدمية، لضعفه وقلة ما بيده من قدرة على إنجاز ما يبغيه، أو يحلم بالحصول عليه في سياق حياته. 

إن الحاجة إلى التأويل كفاعلية نقدية وعملية تفاعلية مطلوبة في الغرب أيضاً. 

ولما كان التأويل الأدبي مرتبطاً بوجه خاص بنشاط القراءة والتقبل ومستويات التلقي، وبقدرات القارئ المؤوِّل، فإن نظرية التلقي، أو الاستقبال كما تنص ترجمتها الأصلية، تهبنا ما يعزز القول بضرورة اعتماد التأويل الأدبي على وثيقة أو عقد قراءة، وتوقعات لتلبية آفاق انتظار المتلقين، وذخيرتهم المعرفية، وخبرتهم الجمالية في النوع الذي يستخدمون إجراءاتهم في قراءته وتأويله، والعودة إلى فرضيات المنهج وكتابات أعلامه فولفانغ آيزر وهانز روبرت ياوس وسواهما، لتأكيد بعض ما يلزم في التأويل الأدبي من عُدّة، وما يمكن أن تواجه المؤوِّل من تحديات واحتمالات، لاسيما وأن التأويل مرتبط اصلاً بتفسير الغامض. 

يذهب ياوس في كتابه «جدلية التلقي – من أجل تأويل جديد للنص الأدبي» إلى أن جمالية التلقي هي دعوة إلى تأويل للعمل الأدبي (يروم استجلاء سمات التفرد والإبداع فيه، ونقيضيهما: الاتباع والابتذال… بتحديد وقعِه وشدة أثره في القراء والنقاد من خلال فحص ردود أفعالهم وخطاباتهم). وبذلك ينقل ياوس التأويل من نقد مجرد للنص إلى نقد نصي متعين، يتم من خلال تلقيه وبيان وقعه وأثره في تشكيل الخطابات، والبحث عن فنية النص المتمثلة عنده في التفرد والإبداع. وكلاهما يدعوان للخلق والابتكار، وعدم تكرار التأويلات والقراءات السابقة. وهنا يلتقي مع مقولة لآيزر تكمل رؤيته حول دلالة العمل التي لا يراها (في المعنى المغلق داخل النص، بل في أن هذا المعنى يُخرِج ما كان مغلقاً في داخلنا.. لذا فكل نص يشكل قارئه). 

ويرى أن مهمة المؤول ينبغي أن تكون إيضاح المعاني الكامنة في نص من النصوص (ألا يقصر نفسه على معنى واحد. ومن الواضح أن المعنى الكامن الكلي لا يستوفى في عملية القراءة). ويرفض قراءة المعنى الواحد لأن هدفها الوحيد هو (توصيل ما كان بمثابة المعنى الموضوعي القابل للتعريف بالنسبة للنص). 

ومن الطريف أن نظرية الاستقبال وجمالياته التي تأسست في مدرسة كونستانس بأيدي ياوس وآيزر، وطلبتهما من بعد، قد تعرضت هي ذاتها للتأويل الكلاسيكي الذي رفضاه في نظريتهما. وكانت حجج رافضي التسمية، وبعبارات ياوس الساخرة (إن الاستقبال أنسب بالإدارة الفندقية منها إلى الأدب). 

وفي تاريخ التأويل في تراثنا وقائع تتقاطع مع رأي المعنى الواحد الذي أشاعه الجيل الثاني من المفسرين الذين فهموا التحذير من فتنة التأويل التي وردت في الآية أنها أي الفتنة التأويلية، باب من أبواب التحريف المعنوي وصرف اللفظ عن معناه الصحيح. وهو نظير التحريف اللفظي الذي يعني تغيير الكلام الإلهي لفظاً ومعنى. وهو ما رفضه الفلاسفة والنقاد الأدبيون، لا سيما حين شاع التخويف من التأويل، وصدرت كتب في ذلك، ومنها رسالة لابن قدامة المقدسي بعنوان «ذمّ التأويل». ووضع فيها تصنيفين للناس: راسخين وزائفين. والمؤولون هم من الصنف الثاني برأيه. وامتد الخلاف من موضوع الآيات المتشابهات التي يتوخاها ذوو (التأويل المنحرف)، إلى قضية الصفات الإلهية كما اختلف حولها علماء الكلام. 

ومن المرفوضات أيضاً تأويل اليد بمعنى القدرة، والكرسي بمعنى الاستواء. وذلك في نونية ابن القيّم الجوزية يذكر فيها رفضه التأويل وتحريمه. حتى أسمى المجاز (الطاغوت)، لأنه يسمح بقراءات متعددة وتأويلات متنوعة، نظراً لطبيعة المجاز البلاغية، واعتماده التشبيه والاستعارة والخيال. 

لقد نوقشت تلك الآراء وردّ عليها المتكلمون والمشتغلون في الفلسفة. لكن مقولاتها شاعت ويتم الاستشهاد بها، حتى تمكنت القراءات النقدية والطروحات الفلسفية تعديل المنظور القرائي لها. 

وتذكرنا كتب ذم المجاز مثلاً عند العرب بما كتبته سوزان سونتاغ في القراءات الغربية، حيث بدأت برفض التأويل المفرط أو الفائق، ثم انتهت بالتشكيك بالتأويل كله وهو ما أشار إليه آيزر مستشهدا بقولها عن الرسم التجريدي (هو محاولة ألا يكون هناك مضمون بالمعنى الشائع. وبما أنه ليس هناك مضمون فلا يمكن أن يكون هناك تأويل). 

وكخلاصة لهذا التمهيد حول مرجعيات التأويل، وتقاطعات فهمه واستخدامه، نرى أن العمل الأدبي والنص يصبحان مجالي التأويل، اعتماداً على النظرية النصية التي لا ترى مستنداتٍ خارجه يُعتد بها في التأويل. 

وأن نتجاوز الإغراق الفلسفي كمرحلة ربما أصبحت تقليدية في التأويلية، كحركة وديناميكية متحولة، والتأويل كفعل تلق وقراءة. 

ولا غرابة أن المنهجيات والنظريات الأدبية أخذت من الفلسفة أسسها الجمالية دون إغراق فيها. كما نقترح باباً لتأويل التأويل ذاته. وقد قدمنا بفقرات للشاعر العراقي الراحل عبدالأمير جرص يجرب فيها أن يقدم لقارئه مقترحات حول بيته الأول تضمن احتمالات متروكة لفاعلية قراءة المتلقيين، وما يتوفر من احتمالات دلالية ممكنة. ولنا في الشعر العربي الموروث خاصة ما يتيح لنا ممارسة التأويل الأدبي واقتراح قراءات للمعنى والدلالة تظل مفتوحة للنظر والتعديل والنقاش. ذكرت منها في سياق سابق مفهومي الكرم والشرف كما يشيعان في قراءة بيتي المتنبي: 

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى/ حتى تراق على جوانبه الدمُ 

وقوله: إذا أنت اكرمت الكريم ملكته/ وإن أنت أكرمت الكريم تمردا 

فالتأويل الجمعي الشائع ظل يؤولهما بكونهما يتحدثان عن الشرف المرتبط بالعِرض والكرامة المهدورة، مع أنه يقرر صفة العلو في نسب الأرومة للممدوح. والكرم في البيت الآخر يؤول جمعياً بتقديم معونة أو إكرام مادي أو فضل، لآخر يفي مقابله أو يتمرد عليه بناء على صفاته وخُلقه. وليس المكرم هنا العطاء لأن لا معنى أن يُعطى المال لكريم، أي مغتن عن المال. 

ذلك ما ليس في قصد الشاعر بل يسوق حكمة فيها تقرير ومباشرة. وعلى عكس ذلك ممكن لقراءة تأويلية تحفر في طيات أو طبقات نصوص المتنبي الحربية أن ترى فيه نفِسا سلمياً، يُستدل به عند تشغيل طاقة التأويل وتقليب المعاني المحتملة، كوصفه لفتح سيف الدولة لقلعة الحدث حين قال: 

وكان بها مثل الجنون فأصبحت 

ومن جثث القتلى عليها تمائمُ 

سقتْها الغَمام الغرّ قبل نزوله 

فلما دنا منها سقتها الجماجمُ 

فالتأويل يرشّح في أحد المقترحات أن يكون القصد هنا تبشيع صورة الحرب، إذا ما وازَنّا بين صدر البيت: سقتْها الغمام الغرّ مطراً يغسلها قبل نزول سيف الدولة بها محارباً. ثم سقياها بالجماجم التي تناثرت فوقها بعد دخول سيف الدولة وجيشه إليها. 

ويمكننا أيضا استقصاء أنواعٍ من التأويل الجمعي أو الفردي، كالتأويل الثقافي النسقي، والتأويل الإخباري، والجندري، والحِجاجي، والسياقي أو الحدَثي، والإيديولوجي، وسواها مما وجدنا له أمثلة في النقد الأدبي والقراءات التأويلية. 

 

المصدر: القدس العربي  

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: الأدب الثقافة

إقرأ أيضاً:

صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان

في 25 فبراير/شباط 2024، وبعد أشهر قليلة على بدء العمليات الوحشية لجيش الاحتلال في قطاع غزة، الجندي القوات الجوية الأميركية آرون بوشنِل (25 عاما) أمام سفارة إسرائيل في واشنطن بالولايات المتحدة، وأشعل النار في نفسه، احتجاجا على تواطؤ بلاده وجيشه الصريح مع الإبادة الجارية في غزة، وصرخ "فلسطين حرة" حتى فارق الحياة.

لم يكن بوشنِل الوحيدَ الذي لم يحتمل وطأة الإبادة في غزة، رغم أنها تبعد عنه آلاف الأميال.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2الرئيس الذي دعا لتحرير فلسطين عبر جيش دوليlist 2 of 2لماذا يريد بلير "الأبيض" حكم غزة؟end of list

ففي أكتوبر/تشرين الأول 2023، وبعد قرار تسليح إسرائيل المفتوح من قبل إدارة بايدن، قال المسؤول الأميركي جوش بول، المدير السابق للشؤون العامة والتشريعية بهيئة الشأن العسكري-السياسي في وزارة الخارجية الأميركية، في خطاب على "لينكد إن": "لقد تنازلت عن معاييري الأخلاقية في هذا المنصب مرات لا حصر لها.. وعاهدت نفسي دوما أن أبقى طالما أن الضرر أقل من الفائدة التي أحققها.. لكنني أرحل اليوم لأنني أعتقد أن مسارنا الحالي.. جعلني أصل إلى نهاية تلك المعادلة".

في يوليو/تموز 2024، لحق به المسؤول بوزارة الخارجية الأميركية، مايكل كيسي.. "لقد سئمت الكتابة عن القتلى من الأطفال.. وأن أبذل جهدا باستمرار كي أثبت لواشنطن أن هؤلاء الأطفال ماتوا بالفعل.. كلما ازداد علمك بتلك القضية، واجهتك حقيقة لا مفر منها وهي أن الوضع سيئ للغاية".. هكذا صرّح كيسي في حوار مع صحيفة الغارديان البريطانية.

على حد وصفه، بدأ بعض زملائه يمزح حول عدم جدوى التقارير في التأثير على صناع القرار في واشنطن، الذين فضّلوا دوما الانحياز إلى السردية الإسرائيلية، قائلا إنه لا أحد في الإدارة يقرأ تقاريره ولو وضع فيها نقودا هدية.

منذ بدء طوفان الأقصى قبل عامين، تباينت ردود الأفعال في أنحاء العالم بين التضامن والصمت والتضييق، وظهر بون شاسع بين التعاطف مع الفلسطينيين في الشارع وبين الرغبة في التضييق على الحقائق وعلى أي محاولة للتضامن من جهة الحكومات الغربية، مما دفع بعض المسؤولين -مثل كيسي وبول- إلى تغليب بوصلتهم الأخلاقية على منصبهم الرسمي.

إعلان

وقد جرى الحديث لفترة في الأسابيع الأولى حول "تناسُب" رد الاحتلال على العملية الفلسطينية، لكن مع استمرار الحرب على غزة اتسعت دائرة المتابعين والمهتمين حول العالم، وتغيّرت القناعات واتجاهات الرأي العام لما شكّله الحدث من اختبار حقيقي للأخلاقيات والقيم والمواقف السياسية التي يعتنقها الكثيرون في المجتمعات الغربية، بالإضافة للاختبار الحقيقي الذي مثّلته هذه الحرب للقوانين الدولية التي تدّعي الحكومات التمسك بها.

بعد مرور شهور، وتأمُّل التأثير الواسع للطوفان، يمكن القول إن صدمة عميقة أصابت الشعوب حول العالم إزاء ما يحدث في غزة من إبادة يومية. فمنذ بداية الطوفان، بدأ كثيرون يكتشفون أن رد الفعل الإنساني الطبيعي تجاه ما يحدث للفلسطينيين -وهو التعاطف والتضامن معهم- غير مقبول أو مسموح به من قبل كثير من الحكومات حول العالم.

وتعزَّز ذلك الشعور حين توالت فصول الحرب على غزة، وازدادت بشاعتها بحيث لم يَعُد يمكن الدفاع عنها أو التبرير لها بوصفها "ردا" على عملية 7 أكتوبر. وفي خضم هذا الواقع، أدركت الكثير من الشعوب أننا في نظام دولي يسمح بارتكاب إبادة جماعية على الهواء، ولا يسمح حتى بالتضامن مع المظلومين.

آلاف الأشخاص يتظاهرون في مدينة شيكاغو بولاية إلينوي الأميركية دعما لغزة في 21 أغسطس/آب 2024 (الأناضول)الصدمة الأولى.. التضامن ليس مسموحا

قبل أن ينقضي شهر واحد على طوفان الأقصى، وأمام قتل الاحتلال آلاف الأشخاص في غزة، بدأت المظاهرات تَعُم العواصم الأوروبية والعالمية، في اليابان والنرويج وهولندا وبريطانيا وألمانيا ودول أخرى عديدة، حيث خرج مؤيدو القضية الفلسطينية مطالبين بوقف إطلاق النار في غزة، لكنها لم تمض بسلام. ففي دول كثيرة رفعت الشرطة استعدادها واعتقلت عددا من النشطاء، وتعرّض المتضامنون مع القضية الفلسطينية لمشكلات قانونية.

بدا إذن أن الحكومات الغربية اتحدت في الانحياز السياسي إلى الاحتلال، فقيّدت عدة دول الاحتجاج من أجل فلسطين، واستهدفت الأعلام الفلسطينية. وفي الولايات المتحدة تعرّض كثير من المتضامنين للطرد من وظائفهم وإلغاء عقودهم.

ومع اتساع دائرة الحرب، ودائرة المعرفة بها أيضا وبالقضية الفلسطينية في شتى أنحاء العالم، توالت صور الإبادة والتهجير القسري والمجاعة، وطاردت المشاهدين حول العالم بشكل لا يمكن تجنبه.

بعد عامين من طوفان الأقصى، وبعدما جرت المذابح بالبث الحي والمباشر ودُمِّرت البنية التحتية وانهار النظام الصحي وتلوثت المياه وقُصِفت المساعدات الإنسانية والساعون إليها، ومع مشاهد التهجير وإجبار العائلات على النزوح عدة مرات داخل الأرض المحاصرة بالجوع والجفاف، فإن أكثر ما اتضح للمتابعين حول العالم لم يكُن تجاوز الحد فيما يتعلق بارتكاب الجرائم الإنسانية، وإنما تجاوز الحد في الإفلات من العقاب.

فلسطينيون يتواجدون في أحد مخيمات النزوح بمدينة غزة، 12 أغسطس/آب 2025 على إثر سياسة جيش الاحتلال الممنهجة في تدمير كافة مقومات الحياة في القطاع المحاصر (رويترز)

تشير المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إيتشاسو دومينغيث، إلى أنه بعد شهور من النقاش حول مدى تناسب القصف مع الطوفان، يبدو أن المجتمع الدولي اليوم أصبح مستعدا للاعتراف بالانهيار.

إعلان

ولكن دومينغيث تلتقط أيضا ذلك التحوّل الخطابي الذي جرى في هذه الحرب، والذي يميل إلى إدانة الكارثة الإنسانية في غزة دون النظر إلى الجانب السياسي والعسكري منها، فيُكرِّم الضحايا دون تسمية المسؤولين عن الجريمة، وقد أشارت إلى تداول عدد من وسائل الإعلام لصورة طفل جائع مثلا مع تجاهل صورة الجندي الذي يمنع قافلة المساعدات، أو صورة الساسة الذين اتخذوا قرارات الحرب، وهو استبعاد ليس بريئا على حد وصفها، وينطوي على منطق يُتيح للإبادة أن تتكرّر وللمجرم أن يُفلت من جرمه.

على الهواء مباشرة

هذا التدفق المستمر للأخبار والصور التي توثق المذابح، يواجه شعوبَ العالم بصور صادمة للإبادة الجماعية في غزة. ففي ورقة بحثية نشرتها مجلة "إنترناشيونال جورنال أوف مانجمنت" عام 2024، يستكشف الدكتور محمد بوحجي الأضرار والجروح النفسية والعاطفية للمتابعين لمسار الحرب والمعاناة الإنسانية في غزة، ويشير إلى أن متابعة مشاهد الحرب عمّقت الشعور بالعجز والخيانة والذنب والعار، وسبّبت جروحا نفسية في المجتمعات أمام إدراك المتابعين لحجم المعاناة وحجم التواطؤ الذي أدى إلى حدوثها.

وقد عاش البعض أعراض ما بعد الصدمة (PTSD) بسبب التعرض المتكرر والمستمر لهذه الأحداث، وتجلَّت أعراضها في تقلُّب المزاج والقلق والاكتئاب واضطرابات النوم. هذا بخلاف تراكم طبقات من مشاعر الغضب والأسى لدى من يشاهدون الإبادة، مما يجعل أي سلوك طبيعي يعتاد المرء على القيام به في يومه بمثابة "خيانة" لدماء الشهداء ولمعاناة أهل غزة.

في العصر الرقمي حيث تُنتج المواد البصرية بسهولة، وتتعدّد مصادر الصور من الصحفيين ووسائل الإعلام التقليدية ومن السكان المدنيين في قلب الصراع، ومع التعرّض المتكرر لكل ذلك؛ يمكن أن يحدث ما يُعرف بإرهاق التعاطف (Compassion Fatigue) الذي ينشأ عن مشاهدة مكثفة للألم، فيتحوّل إلى نوع من الخدر العاطفي، ومن ثمّ تنخفض الاستجابة العاطفية مع كل مأساة جديدة نتعرض لها.

ومع ذلك، فإن ما يبدو تبلُّدا عاطفيا ليس شعورا نهائيا، بل محطة قد نمُر بها في الصراعات الطويلة. فما يحدث هو أن صورا أخرى سرعان ما تخترق هذا الحاجز العاطفي، فيتجدد التأثير ويتحرّك الشعور بالغضب، لذا فالحرب لا تتوقف عن إيلامنا ولا تُفقدنا إنسانيتنا كما يبدو لأول وهلة.

لذلك، يمكننا اليوم أن نضيف إلى تعداد ضحايا الحرب على غزة؛ آخرين لم يكونوا في القطاع من شعوب العالم التي تابعت العدوان والإبادة، وتعرّضت لما يُعرف باسم "الجرح الأخلاقي". ويشير هذا المصطلح إلى الصدمة النفسية التي يتعرض لها الجنود بسبب عدم قدرتهم على التوفيق بين قيمهم الأخلاقية وما يرتكبونه من أفعال غير أخلاقية مثل التعذيب أو القتل، والذي يظهر في معدلات مرتفعة من الاكتئاب والانتحار لدى المحاربين القدامى.

لكن الجرح الأخلاقي اليوم يُمكن أن يكون أثرا مُحتملا لمشاهدة الفظائع التي يرتكبها آخرون دون الانخراط في القتال، فهو استجابة إنسانية عميقة للأحداث التي تنتهك الأخلاقيات الراسخة، وتُسبّب جُرحا في الروح والضمير، سواء لدى من ارتكب تلك الأفعال أو حتى لدى من شهدها ولم يمتلك القدرة على وقفها.

وبخلاف اضطراب ما بعد الصدمة الذي يقوم على الشعور بالخوف، فإن الجرح الأخلاقي ينشأ من مشاعر الذنب والعار والغضب، ومن أزمة عميقة في المعنى. إنها أزمة يواجهها اليوم متابعو الحرب، وتتسع دائرة المصابين بهذا الشعور حول العالم بسبب قناعاتهم بأنهم لم يفعلوا ما يكفي لوقف الإبادة في غزة. كما ينطوي هذا الجرح الأخلاقي على شعور بالخيانة من سلطات كان يُفترَض أن تكون جديرة بالثقة أو على الأقل أن تفعل شيئا لوقف هذه الحرب، ويمكن لهذا الجرح أن يصيب الأطباء والممرضين والصحفيين وغيرهم حين يشعرون بالعجز عن احتمال معاناة البشر.

إعلان

تُرسّخ مشاهد وصور الإبادة، وحقيقة استمرار الحرب، الاعتقاد بأن العالم مكان بشع ومخيف وغير إنساني، وأن الشر يُمكن أن يتغلّب في النهاية، مما يرسخ شعور الشعوب بأنها "مشلولة" وغير قادرة على الفعل الجماعي لمواجهة ما هو إجرامي وغير إنساني.

كما يزداد هذا الجرج الأخلاقي لدى مواطني بعض الدول التي تقدم مساعدات عسكرية للاحتلال بسبب شعورهم بأنهم متواطئون كدافعي ضرائب، وكذلك بسبب فشل المؤسسات الدولية في وقف شلال الدماء، ما يتسبب في الشعور بانهيار الثقة بالنظام الأخلاقي العالمي.

إن الشعور بأن ظلما جسيما يقع بلا عواقب يولّد إحباطا عميقا، فهو خرق لما تعهّدت الإنسانية بعدم تكراره عقب الحرب العالمية الثانية، وتعود خصوصية التأثير العالمي في حرب غزة بسبب كونها أول إبادة جماعية تُبَث فصولها على الهواء مباشرة، بحيث لا يمكن لمشاهدي الأخبار ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي تجنبها أو تجاهل وجودها.

"القيد في أيدينا"

يمكن القول إن الادعاءات الأخلاقية الأوروبية فقدت مصداقيتها مبكرا بعد حروب العراق وأفغانستان و"الحرب على الإرهاب".

واليوم بينما يمارس الاحتلال الإسرائيلي معدلات غير مسبوقة من العنف، تتابع شعوب العالم الحر وخاصة شعوب دول الجنوب العالمي وفي ذاكرتها العبارة الشهيرة التي قالها نيلسون مانديلا: "إن حريتنا لا تكتمل دون حرية الفلسطينيين"، والتي لا تعتبر تضامنا فقط، بل عبارة تحليلية تشير إلى أن الإمبريالية ستستمر في تقييد شعوب دول الجنوب طالما أن بإمكانها حرمان الفلسطينيين من حقوقهم على هذا النحو.

ولكن الأمر يمتد إلى الشمال ذاته أيضا، كما أشار السياسي البريطاني جيمس شنايدر في مقال له، فالسعي كي يتحقّق التحرر الوطني للشعب الفلسطيني بقدر ما يُحارب الإمبريالية في الخارج، فإنه يُرسِّخ أيضا الاستقلال والديمقراطية في الداخل بالنسبة للدول المتقدمة التي انتفضت شعوبها للدفاع عن غزة، ولهذا السبب يؤكد شنايدر "لسنا أحرارا حقا حتى تصبح فلسطين حرة".

في ورقة نشرتها مجلة "بابليك أنثروبولوجيست" في مايو/أيار الماضي بعنوان "فلسطين منهجا"، أوضحت الكاتبة آنا إيفاسيوك كيف تابع العالم بذهول العنف الإبادي الذي شنَّه الكيان الإسرائيلي ضد الفلسطينيين، وسجَّلت بداية ملاحظاتها بالقول إنه لا يمكن لأحد أن يدَّعي أنه لا يعلم عن الإبادة الجارية، في وقت يُدرِك فيه المتابعون أن ما يحدث على الأرض يفوق ما تنقله الصور والأخبار. وأضافت إيفاسيوك أن هذا الصمت واللامبالاة ما كانا ليحدثا لو تعرض له آخرون، لا سيما من ذوي البشرة البيضاء.

وأشارت آنا إيفاسيوك إلى التناقض الذي كشفته نقاشات داخل المجتمع الأنثروبولوجي الأوروبي بعد نشر بيان الجمعية الأوروبية للأنثروبولوجيين الاجتماعيين (EASA) لإدانة العنف ضد غزة، وكيف رأى كثير من الأنثروبولوجيين أن هناك سردية واحدة في التعامل مع قضية أوكرانيا، في حين تعدّدت السرديات في حالة فلسطين، وأمكن للبعض الوقوف "على الحياد".

وتتساءل آنا في مقالها: "ما هو الحياد في مواجهة الإبادة الجماعية إن لم يكن تواطؤًا؟ وما هو تعريف إسكات من يتحدثون ضد الإبادة إن لم يكن دعم الإمبريالية؟". وختمت آنا مقالها قائلة إن ما يشهده العالم في غزة اليوم يدفعنا إلى نقطة اللاعودة، ونحو فهم ما تتعرض له شعوب العالم يوميا، والعنصرية والاعتراف الانتقائي في التضامن مع ضحايا الصراعات.

ويقول الكاتب الإسباني خافيير خورادو إن مشاهد عشرات الآلاف من الشهداء وبينهم أطفال، وما حدث من تدمير للبنى التحتية، تثير أعمق التساؤلات غير المحسومة في الخيال السياسي الغربي: كيف يمكن الاستمرار في دعم الكيان المحتل وتبني كونه ضحية تاريخية؟ لقد كانت الشهور الماضية للحرب على غزة كاشفة للحقائق بشأن عنف الاحتلال، وكسرت أمام المتابع الأوروبي رواية ظلت لعقود تُبرّر صمت الغرب إزاء الانتهاكات وتؤسس للاستثناء الإسرائيلي.

تشرح رابيا يافوز المتخصصة في علم النفس الاجتماعي في مقال لها، كيف أن هذا الشعور بالحزن يعني أننا ما زلنا بشرا، وكيف أن القضية لا تتعلق بغزة وحدها، وإنما بكيفية استجابة العالم لكل هذا الألم. فحين تتفوّق المصلحة السياسية على مبادئ العدالة، ويتعرّض المؤيدون والمتضامنون للقمع، فهذا يشير إلى فوضى عالمية أعمق، بما تُسبّبه من جرح في الوعي المجتمعي العالمي.

إعلان

أما حين يصبح الصمت الخيار الأكثر أمانا فإننا أمام عنف نفسي يُهدّد مجتمعاتنا، ويكشف عن وجه مخيف لعالم اليوم، فهذه "الفظائع" تخلف فراغا أخلاقيا لا يُحتمل، يهدد إحساسنا بتحقق العدالة وبإنسانيتنا نفسها، وتتساءل في النهاية: ما ثمن كبح المشاعر أمام المجازر؟

الناشطة السويدية غريتا ثونبرغ (يمين) تظهر على متن سفينة تحمل ناشطين ومساعدات إنسانية بتهدف كسر حصار جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة في 1 سبتمبر/أيلول 2025 (الفرنسية)ما بعد الصدمة

في مقال له حول أنجع العلاجات للجرح الأخلاقي، أوضح أستاذ علم الاجتماع بجامعة ولاية كارولينا الشمالية، مايكل شوالبي، أن أفضل استجابة لما يجري من حولنا هي التكاتف مع الآخرين كي نحافظ على إيماننا بأنفسنا وبإمكانية أن يكون العالم أفضل وأن يُعرض المجرمون يوما ما للعدالة.

ووفقا لشوالبي، فإن موجات الاحتجاج والمسيرات والبيانات المُندّدة التي تؤيد الحقوق الفلسطينية وتسعى لوقف الحرب ضرورية أيضا، لا لوقف الحرب فحسب، وإنما لإنقاذ هؤلاء الذين يشعرون بالجرح الأخلاقي من الإصابة بالعجز الدائم.

لقد تحوّلت غزة -وهي على أعتاب السنة الثالثة للحرب- إلى مرآة تكشف حقائق مخيفة عن نفاق المجتمع الدولي، والرقابة على ما يمكن قوله حول فلسطين، والضغط الذي يُمارس لإسكات الفلسطينيين أو المتخصصين في إنتاج المعرفة بهذا الشأن، وهو ما يزيد أهميتها كمنهج لكشف زيف العالم "كما يُروى لنا".

اليوم لا يزال العديد من النشطاء والمتضامنين مع غزة حول العالم يواجهون عُنفا يطالبهم بالصمت حتى لا يطالهم العقاب، بينما تُهدِّد الحرب إنسانيتنا ويختار البعض التضامن مع دفع أثمانه، في حين يبقى البعض الآخر رهن الشعور بالعجز ومواجهة الصدمات النفسية التي يُسبّبها إدراكنا أن ثمن هذا التجاهل هو ألا يبقى أحد في أمان.

مقالات مشابهة

  • غزة التي تمرّدت على الذبح في الحظيرة
  • إنعاش الاقتصاد وتحقيق التعافي.. أولويات رئيسية في مشاورات عمّان
  • ورشة عن «مبادئ التعليق الصوتي» في «كتاب الرياض»
  • صدمة الإبادة التي تغيّر العالم.. إذا صَمَت الناس فلن يبقى أحد في أمان
  • الملك يؤكد لترامب ضرورة وقف إطلاق النار في غزة
  • 7 نصائح للقراءة السريعة.. حافظ على الفهم واكسب الوقت
  • في المعنى الحقيقي لزيارة جلالة السلطان لبيلاروس
  • "طوفان الأقصى" الذي عرّى الاحتلال
  • تعرف على فضل قراءة خواتيم سورة البقرة
  • ما حكم تكرار قراءة الفاتحة في الركعة الواحدة؟.. دار الإفتاء تجيب