إنعاش الاقتصاد وتحقيق التعافي.. أولويات رئيسية في مشاورات عمّان
تاريخ النشر: 7th, October 2025 GMT
في وقت يشهد فيه الاقتصاد اليمني واحدة من أسوأ مراحل الانهيار في تاريخه الحديث، تتكثف اللقاءات والمشاورات بين الحكومة اليمنية ومؤسسات مالية دولية، في مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومكتب المبعوث الأممي إلى اليمن، ضمن جهود حثيثة تهدف إلى إنعاش الاقتصاد المنهار واستعادة التوازن المالي والنقدي وتحسين الخدمات الأساسية كخطوة ضرورية لتحقيق الاستقرار والتنمية.
ففي العاصمة الأردنية عمّان، عُقدت جلسة مشاورات موسّعة ضمن مجموعة شركاء اليمن، جمعت بين الحكومة اليمنية وصندوق النقد الدولي، لمناقشة الأداء الاقتصادي العام وتقييم الإطار المالي والنقدي، إلى جانب استعراض أوضاع قطاع التجارة الخارجية والخدمات الأساسية، وعلى رأسها الكهرباء والطاقة.
وخلال الجلسة، أكد وزير التخطيط والتعاون الدولي، الدكتور واعد باذيب، على أهمية هذه المشاورات في وضع إطار اقتصادي متوسط المدى يهدف إلى تعزيز التعافي وإعادة الإعمار، والانتقال بالاقتصاد إلى مسار النمو وخلق فرص عمل جديدة للشباب، مشيرًا إلى أن الحكومة تعمل بالتنسيق مع الشركاء الدوليين لتفعيل أدوات الاستقرار الاقتصادي ودعم مسارات التنمية المستدامة.
وقال باذيب إن دعم صندوق النقد الدولي والشركاء الإقليميين والدوليين يعد أساسيًا في هذه المرحلة الحرجة، مشيدًا بجهود الصندوق في دعم خطة الأولويات العاجلة، خاصة بعد التحسن النسبي في قيمة العملة الوطنية خلال الأشهر الماضية.
كما استعرض وزير الكهرباء والطاقة مانع بن يمين خلال اللقاء، الوضع الراهن لقطاع الكهرباء والتحديات التي تواجهه، إلى جانب رؤية شاملة لتطوير قطاع الطاقة وتعزيز كفاءته لتخفيف معاناة المواطنين وتحسين الخدمات العامة.
وشارك في المشاورات وكيل وزارة التخطيط لقطاع الدراسات والتوقعات الاقتصادية الدكتور محمد الحاوري، ورئيسة الجهاز المركزي للإحصاء الدكتورة صفاء معطي، وعدد من ممثلي المؤسسات الاقتصادية والمالية الدولية.
وفي السياق ذاته، نظم مكتب المبعوث الأممي الخاص إلى اليمن سلسلة من المناقشات الفنية في العاصمة الأردنية عمّان، جمعت خبراء يمنيين ودوليين في مجالات الاقتصاد، والإصلاح المؤسسي، والقضاء، والمجتمع المدني، وحقوق الإنسان، والبحث الأكاديمي.
وأوضح المكتب الأممي، في بيان صحفي، أن هذه المناقشات ركزت على سبل معالجة الحوكمة الاقتصادية وتطوير الخدمات العامة، إلى جانب تعزيز العدالة والإنصاف وبناء مؤسسات موثوقة تسهم في تحسين حياة المواطنين اليومية.
وأكد المشاركون أن معالجة التدهور الاقتصادي لا يمكن أن تنتظر تسوية سياسية شاملة، داعين إلى إجراءات فورية لإصلاحات عادلة وشفافة تضع الإنسان في صميم العملية الاقتصادية، وتستهدف إنصاف المتضررين من النزاع الطويل الذي خلّف أضرارًا منهجية في البنية الاقتصادية والاجتماعية لليمن.
وشددوا على أهمية ربط الإصلاح الاقتصادي بجهود بناء الثقة والمصالحة المجتمعية، بحيث يسهم تحسين الوضع المعيشي واستعادة الخدمات الأساسية في إعادة الأمل للمواطنين وتخفيف حدة التوترات الاجتماعية.
وأشار البيان إلى أن هذه اللقاءات أتاحت فرصة لتبادل الأفكار وتقييم قابليتها للتطبيق على نطاق أوسع ضمن أجندة الإصلاح الاقتصادي والعدالة في اليمن، مؤكدًا أنها خطوة تمهيدية نحو عملية سياسية أكثر شمولاً بقيادة يمنية.
ويواجه اليمن تحديات اقتصادية معقدة تمثل نتيجة مباشرة للحرب المستمرة منذ أكثر من عقد، من بينها انخفاض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، وانهيار الخدمات، وتدهور العملة، وفساد واسع، وازدواجية في المؤسسات المالية بين صنعاء وعدن.
وأدى هذا الانقسام إلى تسييس الاقتصاد واستخدامه كأداة للنزاع، ما فاقم حالة انعدام الثقة وعمّق معاناة المواطنين، خصوصًا موظفي القطاع العام والأسر النازحة والمجتمعات محدودة الدخل.
كما حذر المشاركون من أن الانتهاكات الحقوقية، كـالاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، تترك آثارًا اقتصادية طويلة الأمد على الأسر والمجتمعات، مؤكدين أن معالجة هذه التداعيات الاقتصادية يجب أن تتضمن أبعادًا إنسانية واجتماعية متكاملة.
واتفق المشاركون في ختام النقاشات على ضرورة اعتماد نهج شامل يربط بين الإصلاح الاقتصادي والعدالة الانتقالية، مؤكدين أن الإجراءات الاقتصادية، إذا صيغت بعناية وشفافية، يمكن أن تكون مدخلًا عمليًا لبناء الثقة وتعزيز الاستقرار، وتهيئة البيئة المناسبة لتسوية سياسية عادلة ومستدامة.
كما دعا المشاركون إلى تعزيز الشفافية، وتوثيق الأضرار، وإنشاء سجلات خاصة بالضحايا، واستعادة الخدمات العامة الأساسية كالسكن والصحة والتعليم، باعتبارها الخطوات الأولى نحو إعادة الإعمار الحقيقي وبناء الدولة الحديثة.
بهذه الجهود المشتركة بين المؤسسات الدولية والحكومة اليمنية، يسعى اليمن إلى فتح نافذة أمل جديدة نحو التعافي الاقتصادي، وتحويل مسار الأزمات المتلاحقة إلى فرصة لإرساء أسس السلام والتنمية الشاملة.
المصدر: نيوزيمن
إقرأ أيضاً:
السياسات الاقتصادية واستشراف المستقبل
تعد السياسات الاقتصادية والاقتصاد عموما من المجالات المعقّدة مفهوما وتوضيحا، لأنها تحوي عدة مفاهيم ومصطلحات مرتبطة بها ربما لا تكون واضحة لبعض أفراد المجتمع مثل مفهوم الاقتصاد الناجح الذي يبنى على سياسات اقتصادية فاعلة ويبنى على منظومة متكاملة من القيم والسلوكيات الأخلاقية والإنسانية.
ورغم أهمية تفعيل أدوات السياسات الاقتصادية والتوازن بينها في التخطيط لاتخاذ القرار الاقتصادي والمالي في تحقيق اقتصاد متين ورصين، إلا أنّ اقتصار الجمهور على تأطير مفهوم الاقتصاد في جانب مالي بحت، ساعد على ترسيخ فكرة أن الاقتصاد هو جمع الأموال وادخارها واختزاله في نطاق ضيّق «الترشيد في الإنفاق» وتجاهل العوامل الأخرى المرتبطة بالنمو الاقتصادي ودور السياسات الاقتصادية في التحفيز الاقتصادي والاستدامة المالية، وهنا يأتي دور الباحثين والمحللين الاقتصاديين في محاولة تغيير قناعة البعض بأن الاقتصاد ليس علما يهتم بالمال والمعاملات المالية فقط، وأن أحد الأدوات الفاعلة لاستشراف المستقبل هو وضع السياسات الاقتصادية المناسبة والداعمة لتنمية الاقتصاد من خلال فهم التوجهات والمتغيرات المستقبلية ودراستها المتوقعة على الاقتصاد باستخدام النماذج الاقتصادية في التحليل الاقتصادي، ولذلك فإنّ اتخاذ السياسات الاقتصادية المناسبة التي تتميز بالتوازن بين الوضع الاقتصادي والاعتبارات الاجتماعية لأي اقتصاد يعد اللبنة الأساسية لاستشراف المستقبل.
إنّ غرس مفهوم استشراف المستقبل الاقتصادي لدى أفراد المجتمع، ينبغي أن يبدأ بنشر ثقافة التفكير المستقبلي والمتغيرات المتوقع أن تطرأ على المشهد الاقتصادي؛ خصوصا المخاطر المتوقع حدوثها والاستعداد للتعامل معها، وهو ما سعت إليه سلطنة عُمان من خلال تأسيس المكتب الوطني لاستشراف المستقبل بوزارة الاقتصاد من خلال إعداد الدراسات والتحليلات الاقتصادية التي تساعد على رسم السياسات الاقتصادية المرنة ذات البعد الاستراتيجي في التنفيذ؛ لتتماشى مع الخطط والبرامج الوطنية، وفي رأيي أن قياس نجاح المكتب الوطني لاستشراف المستقبل يعتمد على مدى القدرة على الاستشراف الاستراتيجي من خلال دراسة المتغيرات المؤثرة على القطاعات الاقتصادية؛ بهدف إيجاد برامج وطنية بديلة تسهم في تحقيق مستهدفات القطاعات الأكثر عرضة للمتغيرات مثل قطاع التشغيل والتوظيف الذي يشهد تغيرا في نوعية الوظائف الأكثر طلبا في سوق العمل.
أعتقد أن الحلول والمعالجات للتعامل مع الأزمات والمشكلات الاقتصادية ينبغي أن تتجرد من الاستعانة بالنظريات الاقتصادية والأخذ بنتائجها وتحليلاتها كليا؛ كونها لا تتماشى مع المتغيرات الاقتصادية الحالية والمستقبلية، لكن الاستعانة بها لابتكار نماذج اقتصادية جديدة وللتنبؤ بالأحداث المستقبلية ربما هو القرار الصائب؛ لأن القرار الاقتصادي حسب ما أراه وأتوقعه لابد أن يأخذ في الحسبان جميع التطورات التي طرأت على منظومة الاقتصاد، ولم يعد الاقتصاد كما كان في عهد آدم سميث، نحن بحاجة إلى استحداث نظرية اقتصادية من خلال رصد وتحليل الوضع الاقتصادي وقراءة المشهد العام المؤثر في منظومة الاقتصاد وطرح عدة أسئلة حول تشكل بعض الحالات الاقتصادية خلال السنوات الماضية وجمع عدد أكبر من المعلومات والبيانات؛ بهدف اختبار الفرضيات وتجربتها بعد تحليل البيانات بدقة وباستنتاجات علمية رصينة، فتوظيف التنبؤ بالمتغيرات المستقبلية من خلال الاستفادة من نتائج واستنتاجات الدراسات التحليلية، يسهم في تشخيص المشهد العام بدقة وكفاءة عالية، ما يساعد على وضع الخطط الاقتصادية الكفؤة، ويحسّن من وضع الخطط والحلول الاستباقية للمتغيرات المتوقع حدوثها، إضافة إلى دور التنبؤ في منح صانعي القرار المنظور الأوسع لاستكشاف الفرص والمخاطر المحتملة لاتخاذ قرارات استراتيجية تسهم في حماية منظومة الاقتصاد من أي صدمات مستقبلية، وهنا لا أقصد بالاكتفاء بالتوقعات التنظيرية عند التنبؤ بالمتغيرات المستقبلية، لأن التوقعات عموما أراها غير كافية لاستشراف المستقبل لا تستند على نتائج دراسات واستنتاجات تجارب علمية، لكنها تحمل مخاوف وآراء مبنية على تحليلات لم يتم اختبارها أو قياسها.
إن استشراف المستقبل واتخاذ القرار الاقتصادي ينبغي أن يضع في الحسبان مواصلة النمو الاقتصادي بغض النظر عن حالة عدم اليقين التي يشهدها الاقتصاد العالمي، وأن يتم مواءمة الإنفاق مع متطلبات تحفيز النمو الاقتصادي، وأعتقد أنه ليس بالضرورة التوسع في الإنفاق خلال فترات الازدهار الاقتصادي، وليس بالضرورة أن يتم تقليل الإنفاق خلال فترات تباطؤ النمو الاقتصادي، وأعتقد من الأهمية الوضع في الحسبان الاشتغال على خطط استراتيجية مبتكرة لاستشراف المستقبل بالاستفادة من مختلف المدارس الاقتصادية في صنع السياسات العامة وفي التحليل الاقتصادي، ليس بالضرورة أن تتواءم مع الدورة الاقتصادية التي يتم من خلالها اتخاذ القرار الاقتصادي بتفعيل أدوات السياسات الاقتصادية التوسعية أو الانكماشية، بل بمتطلبات الإنفاق ودوره في التحفيز الاقتصادي، وهنا نستطيع أن نتجنب الكثير من الإشكالات والتحديات الاقتصادية خلال فترة الأزمات وإدارتها.