يلفت نظري - لدى مروري في الأروقة المؤدية للمختبر الذي أدرس فيه - منشورات معلّقة على الجدران، يحاول فيها كل بروفيسور جهده؛ لاستقطاب الطلاب المتميّزين، وضمهم إلى فريقه البحثي. ألاحظ مع مروري تكرار رسمٍ مثيرٍ للاهتمام للخريطة الحرارية لمركز أبحاث «مجتمع الحياد الكربوني» ذلك المركز الذي يضم مختبرات متنوعة تهدف بشكل أساسي إلى تحسين وتوسيع وتحويل عمليات الطاقة إلى طاقة نظيفة، اقتصادية، وفي أفضل حالاتها من الناحيتين الهندسية والعلمية.

العجيب في هذا الرسم أن الحرارة تصل إلى درجات يصعب تخيلها، فيما يأتي التوزيع الحراري من الداخل إلى الخارج بشكل شعاعي يُطابق الشمس! والأعجب أن جميع هذه الرسوم تتعلق بعمليات الاندماج النووي باعتباره مصدرًا نظيفًا للطاقة. رغم أن دراستنا هنا في اليابان تغطي مصادر طاقة متنوعة، إلا أنها لا تُعنى إطلاقاً بالنفط؛ فهو ليس من المصادر المتاحة في اليابان. ربما يُدرس في جامعات أو أقسام أخرى، لكن ليس هنا! وهذه المفارقة تجعل تجربة الدراسة هنا فريدة بحق. والأكثر إدهاشًا أننا ندرس الطاقة النووية كأحد المصادر الأساسية، ولكن ليس كل أنواعها فقط طاقة الانشطار النووي الناتجة عن تخصيب اليورانيوم، بينما لا يُتطرق للانشطار النووي بقدر الاندماج. مروري اليومي بتلك البحوث أثار فضولي، فقررت على الفور إضافة مادة «الاندماج النووي» إلى جدولي الدراسي، وما اكتشفته لاحقًا كان مذهلًا!

الدكتور تسوتسوي يشرح مفاعل الاندماج!

يضحك الدكتور تسوتسوي ضحكة غريبة وهو يشرح معادلات اشتقاق تصف حركة البلازما في مادة الاندماج النووي. ومن لا يُدرك شغفه يظنه مجنونًا. «لا أستطيع أن أفهم أي شيء بطريقة جوهرية دون أن أتخيله» يقول ريتشارد فاينمان. ولعل البروفيسور تسوتسوي يتخيل حركة لامور للجسيمات المشحونة، فتبدو له - كما تبدو لي - شبيهة بحركة النحل على مسار حلزوني، ولعل هذا ما يضحكه!

ما الفرق بين الاندماج والانشطار؟ وما البلازما؟ ولماذا تتحرك الجسيمات فيها بشكل حلزوني؟ ولماذا يُلوح بها في الإعلام مع كل إعلان لحرب جديدة؟ وما الذي يحدث في المجتمع العلمي الياباني ليحوّل تركيزه من الانشطار إلى الاندماج؟

كيف بدأت القصة؟

في عام 1956 في مفاعل انشطاري في سافانا ريفر في الولايات المتحدة. استطاع العالِمان كلايد كووان، وفريدريك راينس رصد النيوترينو الذي كان وجوده مجرد حدس. هذا الجسيم رغم ضآلته سيحدث نقلة هائلة في مشاريع المفاعلات النووية.

لا يتفاعل النيوترينو -أو هكذا كان الظن-، بل يعبر كشبح عبر معظم المواد تقريبًا. ورغم ذلك قام العالمان بوضع كاشف بجوار هذا المفاعل النووي الذي يُنتِج كميات هائلة من الجسيمات، من بينها النيوترينوات. والكاشف عبارة عن خزان من الماء مزود بأجهزة عالية الحساسية تلتقط إشارات التفاعل. اختير الماء تحديدًا؛ لغناه بالبروتونات فكل ذرة الهيدروجين (وهو العنصر الأساسي المكون للماء) تتكون من بروتون وإلكترون. ومع أنّ النيوترينو يستطيع اختراق الأرض كلّها دون «اصطدام»؛ إلا أنّ واحدًا فقط من كلِّ تريليون نيوترينو قد يتفاعل إذا مرّ بمادّةٍ ما لزمنٍ كافٍ. أي أنّ تفاعله نادرٌ جدًا، لكنّه يحدث!

ما رصده العلماء هو أنّ البوزيترون -وهو جسيم مضاد للإلكترون ذو شحنة معاكسة- عندما يصطدم بالإلكترون يُطلِق ومضتين، أي فوتونين. ثمّ تمتصّ نواةٌ مجاورة النيوترون الناتج فتُصدر ومضةً ثالثة بعد جزءٍ من الثانية. هذا التسلسل الزمنيّ للومضات فريدٌ للغاية، ويستبعد جميع الأنماط المعروفة، فيبقى توقيعُ النيوترينو وحده.

مصدر النيترينوات هو السر وراء أهميته!

من أين تأتي هذه «النيترينوات»؟ تأتي من أعماق الكون ومن حولنا في كل لحظة: من قلب الشمس التي تقذف تريليونات منها كل ثانية مخترقةً أجسامنا دون أن نشعر، من الغلاف الجوي عندما تصطدم الأشعة الكونية بذرات الهواء، من المفاعلات النووية، من انفجارات النجوم الهائلة (السوبرنوفا)، من العمليات الطبيعية في الأرض، بل حتى من ثمرة موز عادية! فالموز يحتوي على عنصر البوتاسيوم، وهو نظير مشع موجود طبيعيًا. هذا العنصر يطلق نيوترينوات عند تحلّله الإشعاعي، ما يجعل الموز -وغيره من الأغذية الغنية بالبوتاسيوم - مصدرًا ضئيلًا جدًا للنيوترينوات في حياتنا اليومية.

تتجول النيوترينوات كأشباح يعود أصل بعضِها إلى فجر الكون، وما تزال تسافر عبره منذ ذلك الحين. ولأنّها تحمل أسرار باطن النجوم وبداية الزمان؛ فهي تأسر العلماء. هذا بالإضافة إلى تذبذبها بين ثلاثة أنواعٍ مختلفة أثناء حركتها، وهو سلوكٌ فريد لا يفعله أي جسيمٍ آخر.

يمكننا النظر إلى الأمر من عدة زوايا؛ فـفيزيائيًا نحن أمام محاولة لفهم المادة بشكل أعمق من مجرد نواة وبروتون ونيوترون. بل قد نتمكن من فهم نشأة الكون نفسها بشكل أوضح؛ إذ إن بعض هذه النيوترينوات ما زالت تجوب الأرض منذ الانفجار العظيم. فهي تحمل في طياتها ما يشبه «الحمض النووي» لبداية الكون. فهمنا لهذه الجسيمات، وطريقة حركتها ومساراتها يجعلنا أكثر قدرة على فهم جسيمات جديدة لا يمكن تفسير تذبذباتها بالفيزياء الكلاسيكية. بل إننا إثر هذه التفاعلات بدأنا نشرح حالات فيزيائية جديدة للمادة مختلفة عن الحالات الأربعة التقليدية: الصلبة، والسائلة، والغازية، والبلازما. والبلازما - بالمناسبة - تُعد من الحالات الأساسية للمادة، وتظهر عند درجات حرارة فائقة؛ حيث لا يعود الغاز يتصرف وفق المبادئ والقوانين التي نعرفها في الحالات العادية. لذا؛ فللبلازما معادلاتها الخاصة. وهي تظهر في الشمس، والنجوم، والبرق، والفضاء، بل في بعض المختبرات على الأرض.

1الصورة على اليمين قبل الانفجار وعلى اليسار بعد الانفجار السوبرانوفا التي يطلق فيه الكثير من النيوترينوات

العلاقة بين الشمس والنيوترينوهات والتفاعلات النووية

أولًا -قبل الخوض في هذه العلاقة- لابد أن نتذكر أن التفاعلات النووية نوعان: الانشطار، والاندماج. وكما يقترح اسماهما، فهما – نوعًا ما – متعاكسان. فالانشطار يعني انقسام ذرة ثقيلة مثل اليورانيوم؛ وذلك بسبب كبر كتلة نواتها، ويمكنك معرفة ذلك من العدد الذري، والكتلة الذرية في الجدول الدوري. هذه الذرة تنقسم بسهولة عند اصطدامها بنيوترون، وعند حدوث هذا الاصطدام تُطلق طاقة كبيرة؛ نتيجة ما يُعرف بطاقة الربط النووي، وهي تشبه في مفهومها طاقة الروابط بين الذرات والجزيئات في الكيمياء. أما في حالة الاندماج فلدينا ذرتان خفيفتان، مثل الهيدروجين -وهو أول عنصر في الجدول الدوري- تندمجان معًا عند تعرّضهما لضغط وحرارة شديدين؛ لتكوين عنصر أثقل نواة، وهو الهيليوم في حالة اندماج الهيدروجين. ومع هذا التفاعل تُطلَق طاقة أيضًا كما في حالة الانشطار.هذا النوع من التفاعل يحدث في الشمس بالضبط؛ فالشمس عبارة عن مفاعل اندماج نووي هائل يعمل بضغط وحرارة شديدين جدًا جدًا.

لطالما تساءلت: لماذا اكتشف العلماء الانشطار قبل الاندماج رغم أن الشمس أمامنا؟

الجواب هو أن الانشطار أسهل تطبيقًا واستخدامًا؛ لأن تفاعل الاندماج يتطلب درجة حرارة عالية جدًا، مثل تلك الموجودة في الشمس، وهو أمر يصعب تحقيقه على الأرض. ورغم أن الشمس تنتج نيوترينوهات عبر الاندماج، لكن أول كشف تجريبي للنيوترينوهات كان من مفاعل انشطاري، كما ذكرت سابقًا؛ وهذا لأن الشمس بعيدة جدًا، فكان من الصعب علينا في البداية التأكد من أنها تُنتج نيوترينوهات.

لكن عندما رُصدت هذه النيوترينوهات القادمة من الشمس شعر العلماء بدهشة كبيرة؛ إذ تأكدوا حينها أن الشمس بالفعل تحصل على طاقتها من الاندماج النووي، وليس من مصدر آخر.

ومن هنا أصبحت النيوترينوهات أول «بصمة» مباشرة تثبت أن الاندماج النووي واقعي وقابل للإنتاج الطبيعي.

«العلم ليس عملًا فرديًا. إنه ثمرة تراكم جهود الكثيرين على مدى سنوات».

— هذا ما قاله البروفيسور ماساتوشي كوشيبا الحاصل على جائزة نوبل عام 2002 لاكتشافه النيوترينوهات الكونية، والذي قاد فريق تجربة «كاميوكاندي» في اليابان، وكان أول من تمكن من رصد نيوترينوهات قادمة من الشمس.

منجم كاميوكا في اليابان يلتقط النيترينوات

في عام 1996 انطلقت في مدينة هيدا بمحافظة غيفو اليابانية تجربة «سوبر-كاميوكاندي»، وهي أكبر كاشف شيرنكوف مائي في العالم. يتكوّن الكاشف من خزانٍ من الفولاذ المقاوم للصدأ قُطره 39.3 متر، وارتفاعه 41.4 متر مملوءٍ بخمسين ألف طن من الماء. وقد ثُبِّتت على جدران الخزان نحو 13 ألف أنبوب مُضاعِف ضوئي. ويقع هذا الصرح العلمي على عمق ألف متر تحت سطح الأرض.

يشارك في المشروع باحثون من الولايات المتحدة، وبولندا، وكوريا الجنوبية، والصين، وإسبانيا، وكندا، والمملكة المتحدة، وإيطاليا، وفرنسا، وفيتنام إضافةً إلى نحو خمسين مؤسسة علمية في اليابان.

تُظهر هذه الصورة أجهزة استشعار ضوئية عالية الحساسية (أنابيب مُضاعِفات ضوئية) مُثبَّتة على جدار خزان المياه. تُعَدّ هذه المستشعرات الأكبر في العالم؛ إذ يبلغ قطر الواحدة منها 50 سم في الكاشف الداخلي و20 سم في الكاشف الخارجي. ويحتوي كل جهاز على نافذة زجاجية مطلية بطبقة حسّاسة (فوتوكاثود). تتمتّع هذه الأنابيب بحساسيةٍ فائقة تجعلها قادرةً على رصد الضوء الصادر من مصباحٍ يدوي موضوعٍ على سطح القمر!

كيف كُشِفَت تذبذبات النيوترينو في التجارب الثلاث (1998، 2001، 2011)؟

خلال هذه السنوات كُشف عن أنماط تذبذب مختلفة لهذا «النيترينو» أثناء طيرانه. ففي عام 1998 اكتُشِف أنّ تذبذبات النيوترينوات القادمة من الفضاء والتي تعبر الغلاف الجوي تختلف عن تلك الصادرة من باطن الأرض. تُسمّى الأولى «مسارًا قصيرًا»؛ لأنها تُقاس من طبقات الغلاف الجوي إلى الخزان مباشرةً، بينما تُسمّى الثانية «مسارًا طويلًا»، لأنها تقطع الكرة الأرضية قبل أن تبلغ الخزان. كشفت هذه الملحوظات أن للنيوترينو كتلةً، وأن احتمال ظهوره بطور أو طرز معيّن يعتمد على المسافة والطاقة.

في عامي 2001 و2011 رُصدت تذبذبات نيوترينوات الشمس، والنيوترينوات الاصطناعية الصادرة من المفاعلات. أفضى ذلك إلى تطوير مصفوفات كشفٍ أكثر دقّة لفكّ طلاسم «الخريطة» الكونية مقدّمًا مفاتيح؛ لفهم سبب هيمنة المادة في الكون، وممهِّدًا الطريق لفيزياءٍ تتجاوز النموذج القياسي.

كيف يتكوّن ضوء تشيرنكوف في تجربة «سوبر-كاميوكاندي»؟

يتكوّن الضوء الدالّ على مرور النيوترينو في الخزان عبر ثلاث مراحل: التفاعل الأوّلي: يعبر النيوترينو الماء كالرصاصة، وأحيانًا يتفاعل مع إلكترون، أو نيوكليون فيه مولِّدًا جسيمًا مشحونًا. تجاوز «حاجز الضوء» في الماء:

إذا تحرّك الجسيم المشحون بسرعة تفوق سرعة الضوء في الماء (التي هي أقلّ من سرعته في الفراغ)، يُطلِق موجة صدمة كهرومغناطيسية أشبه بالفرقعة التي تُحدِثها طائرة عند اختراقها حاجز الصوت. مخروط تشيرنكوف: تنبعث موجة الصدمة على شكل مخروط ضوئي بزاوية ثابتة حول مسار الجسيم؛ وهو شبيه بالموجة المائيّة التي يتركها زورق سريع خلفه، لكنّه هنا مخروطٌ من الضوء.

اليابان تُرسل النيوترينوات من توكاي إلى منجم كاميوكا!

يحتضن مركز J-PARC في توكاي (شرق اليابان) تجربة T2K -أي من توكاي إلى كاميوكاندي- حيث يبعد الكاشف نحو 295 كيلومترًا. تسمح هذه المسافة الطويلة برصد تغيّر تذبذبات النيوترينو أي اختلاف سلوك الجسيمات عن جسيماتها المضادّة عند انعكاس الشحنة والاتجاه. ولأنّ مسافة المصدر وطاقة الحزمة معروفتان بدقّة، يسهل تحليل هذه الظاهرة. ولأننا لا نستطيع مجددا التعامل مع الشمس أفضت هذه التجارب إلى أن النيوترينوهات تتغير «نوعها» وهي في طريقها من الشمس إلى الأرض (ظاهرة تذبذب النيوترينو)، مما حلّ مشكلة النيوترينوهات الشمسية . وهذا ساعد في التحقق من النماذج النظرية لتفاعلات الاندماج ومنها إلى تطوير مفاعل اندماج نووي مثل مفاعلات الانشطار النووي.

التوكاماك مفاعل اندماج نووي: دونات تنتج طاقة شمسية!

أكثر ما يُدهش في هذا الجهاز أنه يشبه «الدونات» لكن هذا الجهاز أكثر جنونًا من شكله الطريف، فحتى شكله هذا له دلالة فيزيائية دقيقة. يُستخدم التوكاماك لتسخين نظائر غاز الهيدروجين (الديوتيريوم والتريتيوم) داخل غرفة مفرغة، إلى درجة حرارة تفوق 100 مليون درجة مئوية، ليصبح هذا الغاز بلازما. يتم توليد مجال مغناطيسي دائري قوي لمحاصرة البلازما ومنع الطاقة من التسرب، ثم يُمرر تيار كهربائي داخل البلازما ليُنتج مجالًا مغناطيسيًا إضافيًا. عند هذه النقطة، تبدأ البلازما بالدوران بشكل حلزوني داخل التوكاماك -وهنا تأتي فائدة الشكل الدائري «الدونات»، حيث يوفر المساحة والحبس المثالي لحركة البلازما. حينما تتصادم نوى الديوتيريوم والتريتيوم، يتشكل ناتج جديد: نواة هيليوم ونيوترون ومعهما طاقة هائلة وتظهر هذه الطاقة على شكل طاقة حركية للنيوترون، الذي يندفع كأنه «فُلك مشحون»...

تعاون دولي لبناء محطات اندماج نووي بين اليابان وفرنسا

في فرنسا، يُنفّذ مشروع دولي ضخم يُعرف بـالمفاعل النووي الحراري التجريبي ITER، ويقع في مدينة كاداراش، فكما شوهد مؤخرا فرنسا تقود مشاريع الطاقة النووية الضخمة. هذا المفاعل، الذي لا يزال قيد الإنشاء، يتميّز بضخامته، ويهدف أساسًا إلى جعل طاقة الاندماج مجدية اقتصاديًا، أي قابلة للاستخدام ومربحة في آنٍ واحد. فحتى اليوم، لم يصل أي جهاز توكاماك إلى مرحلة يُنتج فيها طاقة أكثر مما يستهلك.

وتُعدّ تكلفة الإنشاء المرتفعة أحد أبرز أسباب عدم جدواه الاقتصادية؛ بالإضافة لكونه يعمل بشكل لحظي غير مستمر في إنتاج الطاقة، إذ يحتوي الجهاز على مكونات معقدة للغاية، منها مغناطيسات فائقة التوصيل، ونظام تبريد فائق، وغرفة مفرغة ضخمة، وأجهزة تحكم متقدمة. عملية رفع حرارة الغاز لتحويله إلى بلازما تتطلب كميات هائلة من الطاقة، وكذلك أنظمة التبريد وتشغيل المغناطيسات. كما تحتاج البنية التحتية إلى تجهيزات خاصة لاستيعاب هذا النوع من الطاقة.

أما الصيانة، فهي مكلفة بدورها، بسبب تعرض الجهاز لحرارة مرتفعة جدًا وطاقة نيوترونية عالية، ما يستدعي استخدام روبوتات خاصة وغرف عزل ومواد مقاومة للإشعاع. وفوق ذلك، يصعب التحكم بالبلازما، ما يستوجب نظامًا دقيقًا للتحكم اللحظي يُعرف بنظام الاستجابة في الوقت الحقيقي (Real-Time Feedback System). ورغم هذه التحديات، فإن المشروع يحظى بتكاتف دولي كبير؛ إذ تشارك فيه 35 دولة في تمويله وتوفير الكفاءات العلمية والهندسية. ومع ذلك، يبدو الأمر غير عادل من منظور اقتصادي؛ فمصادر الطاقة المتجددة الأخرى -مثل طاقة الرياح والشمس، والبطاريات، والهيدروجين الأخضر- أصبحت أكثر نضجًا وأقل تكلفة، بينما ما زال الاستثمار في التوكاماك باهظًا، وعائده بعيد المدى.

جهاز التوكاماك الياباني المتقدّم فائق التوصيل: دعم مباشر للمشروع الفرنسي

جاء هذا المشروع البحثي الكبير في اليابان لتقليل المخاطر التقنية والمالية المرتبطة بالمشروع الفرنسي، فالابن البار سيرث أباه في نهاية المطاف. فهو يُعدّ أشبه بـ«المختبر التجريبي الكبير»، الذي يتم فيه اختبار كل شيء قبل تنفيذ المفاعل التجاري الحقيقي. يستخدم جهاز التوكاماك الياباني مجموعة متقدمة من التقنيات لدراسة سلوك البلازما دون لمسها، حيث تُقاس درجة الحرارة والكثافة باستخدام تقنيات التحليل الطيفي وتبعثر ليزر طومسون، بينما تُستخدم مجسات مغناطيسية وكهربائية لمراقبة شكل البلازما واستقرارها.

تراقب الكاميرات عالية السرعة حركتها الفورية، وتُحلل إشعاعاتها لتحديد مواقع الشوائب أو الانهيارات، كما تُستخدم نماذج محاكاة حاسوبية متطورة لمقارنة البيانات الفعلية وتوقّع سلوك البلازما المستقبلي. كما في مختبر البروفيسور تسوتسوي هذه المنظومة المتكاملة تُمكّن العلماء من فهم خصائص البلازما والتحكم بها لحظيًا، رغم البيئة الشديدة القسوة التي تتشكّل فيها.

هذه الطاقة الهيدروجين طاقة نظيفة؛ فلا غازات سامة هنا، ولا نواتج مشعة كما في المفاعلات الانشطارية. بل إن الناتج عالٍ جدًا -يُقاس بالميجاواط- فجهاز التوكاماك عبارة عن راقصة تائبة فهو أساسا قنبلة هيدروجينية تحت سيطرة المغناطيس. وكما أسلفتُ سابقًا- هذه مجرد تجارب.

المفاعلات النووية أصعب بكثير من القنابل النووية، حتى الحرارية منها.

السبب يعود إلى أن الأهداف التي نضعها عند تصميم المفاعل النووي تختلف جوهريًا عن تلك المرتبطة بالقنابل. فالهدف الأساسي في تصميم المفاعل هو التحكم المستمر والمتوازن في إنتاج الطاقة، وهو أمر يتطلب فهمًا عميقًا للتفاعلات النووية وسلوكها على المدى الطويل، إلى جانب أنظمة تبريد وأمان معقدة. وهنا تأتي أهمية التجارب العلمية المتراكمة لتطوير أنظمة مستقرة وآمنة.

في المقابل، فإن القنبلة الهيدروجينية -رغم تعقيد تصميمها- تُبنى لأداء مهمة واحدة: انفجار لحظي ضخم. فهي تعتمد على تسلسل مدروس يبدأ بتفاعل انشطار نووي لتوليد حرارة هائلة (كمحفّز)، ثم ينتقل فورًا إلى تفاعل اندماج نووي باستخدام وقود هيدروجيني. كل هذا يحدث في جزء من الثانية، ثم ينتهي الأمر، دون الحاجة إلى تبريد أو تحكم لاحق.

من هنا، يمكن القول إن الانشطار أسهل من حيث التطبيق، سواء أكان الهدف سلميًا كإنتاج الطاقة، أم عسكريًا كتطوير سلاح.

أما ما يُعرف بالقنبلة «الحرارية» التي ظهرت في الأخبار مؤخرًا -مثل ما أعلنت عنه الصين- فهي في الواقع لا تعتمد على اندماج نووي حقيقي، بل تُولّد حرارة هائلة نتيجة تفاعلات كيميائية متقدمة، مستلهمة من فكرة القنبلة الهيدروجينية، لكنها تختلف عنها جذريًا من حيث المبدأ الفيزيائي والآلية.

علياء بنت سعيد السعيدية متخصصة في هندسة علوم الطاقة والمعلوماتية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الاندماج النووی اندماج نووی فی الیابان أن الشمس من الشمس فی عام الذی ی التی ت

إقرأ أيضاً:

تعرف على مواعيد الرحلة الثانية لـ”قطار عودة السودانيين” من مصر

القاهرة- متابعات تاق برس- تنطلق، الإثنين المقبل، الرحلة الثانية لقطار “العودة الطوعية” للسودانيين المقيمين في مصر.

 

وتأتي هذه المبادرة المجانية بتنظيم من منظومة الصناعة الدفاعية بالتنسيق مع الهيئة القومية لسكك حديد مصر، بهدف تسهيل عودة السودانيين إلى وطنهم عبر وسيلة نقل أكثر راحة وتنظيمًا.

 

وسيتم تشغيل قطار مخصوص لنقل السودانيين من القاهرة إلى محافظة أسوان، ومن ثم إلى ميناء السد العالي النهري تمهيدًا لدخول السودان.

وينطلق القطار كل يوم إثنين من محطة القاهرة في تمام الساعة 11 صباحًا، ويصل إلى أسوان في تمام الساعة 11 مساءً، وفق جدول أسبوعي منتظم.

 

وقد كلّف الفريق مهندس كامل الوزير، نائب رئيس مجلس الوزراء للتنمية الصناعية وزير الصناعة والنقل، قيادات السكة الحديد بتقديم أفضل الخدمات الممكنة لراحة الركاب السودانيين خلال الرحلة وحتى وصولهم بسلام إلى وجهتهم النهائية.

 

يذكر أن أولى رحلات العودة قد انطلقت بالفعل يوم الإثنين الماضي، حيث أقلّ القطار الأول نحو 1000 مواطن سوداني، في إطار خطة شاملة لتيسير العودة تنص على تنظيم رحلة أسبوعية عبر قطار مخصص لهذه الغاية.

العودة الطوعية للسودانيينقطار عودة السودانيين من مصر

مقالات مشابهة

  • التعليم العالي: انتهاء أعمال لجنة المقابلات الشخصية للطلاب والباحثين المرشحين لمنحة الحكومة اليابانية
  • دمشق: لا تقدم في تنفيذ اتفاق الاندماج مع “قسد”
  • تعرف على مواعيد الرحلة الثانية لـ”قطار عودة السودانيين” من مصر
  • زالزال قرب جزر توكارا اليابانية بقوة 4.3 درجة
  • «الإمارات للطاقة النووية» و«ويستنغهاوس للكهرباء» تسرعان تطوير الطاقة النووية في أميركا
  • إنجاز تاريخي.. ألواح شمسية يابانية جديدة تُنتج طاقة توازي 20 مفاعلاً نووياً
  • انطلاق كرفان عسير من الرياض بمشاركة مشاهير الخليج.. فيديو
  • مستوطنون يعتدون على نظام طاقة شمسية بالأغوار الشمالية
  • برج الجدى | حظك اليوم الجمعة 25 يوليو 2025.. طاقة عالية
  • الجواهر الثلاثة.. مراحل تطور شركة ميتسوبيشي اليابانية منذ بدايتها حتي اليوم