بحكم مهنتي كصحفي، أول ما أقوم به كل صباح استعراض آخر الأخبار التي ترد عبر هاتفي الجوال، ثم أفتح موقعي "الجزيرة" و "التلفزيون العربي" على الإنترنيت إلى جانب مواقع أخرى. تعودت على ذلك منذ بداية الحرب الإسرائيلية على غزة، تحملت في الأثناء التداعيات النفسية لكل المآسي التي مرت على الغزاويين بمختلف أشكالها وألوانها وعذاباتها، وصبرت كغيري على تلك الجرائم الفظيعة التي ارتكبها الاحتلال في حق البشر والعمران والجغرافيا والبيئة والحيوان، وذلك بالرغم من نصائح الأطباء والمختصين بعدم الإدمان على تلك المشاهد المدمرة للطاقة النفسية للإنسان، وذلك على أمل أن يتوف الكابوس.
اليوم اختلف الأمر عن كل ما سبق من وحشية وقسوة، لم أعد قادرا على رؤية الأطفال وهم يموتون جوعا أمام الكاميرا وفي أحضان أمهاتهم. أشعر بأن البناء النفسي الذاتي بصدد التفتت والانهيار، طاقة التحمل تتآكل بشكل سريع، وتضغط على الأعصاب والمشاعر بقوة رهيبة. وتكاد المشاهد المتتالية القادمة من هناك عبر الشاشات تفترسنا افتراسا، دون أن تكون لدينا القدرة على المقاومة والتصدي لآثارها الرهيبة. لقد أصبحنا أيضا، نحن الذين نعيش بعيدا عن غزة، جزءا لا يتجزأ من المشهد المأساوي المتكرر على مدار الساعة، أصبحنا بدورنا ضحايا هذه الحرب التي لا تحكمها ضوابط وقوانين وأخلاق وحدود.
ومما زاد في هول هذه التراجيديا النفسية شعورنا بالعجز أمام هذا الطغيان غير المسبوق. ليس سهلا أن ترى أطفالا يموتون جوعا على المباشر ولا تقدر على مساعدتهم بالحد الأدنى من الطعام، وتُمنع بقوة السلاح من الوصول إليهم، ولا يمنعك من القيام بواجبك الإنساني العدو فقط ولكن القريب أيضا بحجج واهية لا طائل من استعراضها الآن. فالحكومات العربية تفرض عليك أن تكون شريكا في هذه الجريمة البشعة، وإلا عرّضت نفسك للملاحقة في بلادك، وتسمى هذه الجريمة بـ"عدم تقديم مساعدة لشخص في حالة خطر". المطلوب منك أن تترك الضحايا يموتون، حتى لو كانوا إخوانك وأبناء عمومتك وأصدقائك وجيرانك، وذلك بحجة احترام اتفاقيات لم يلتزم بها العدو أصلا ولم يتقيد بروحها.
ويزداد بك الضيق والتوتر عند ما يردده هؤلاء الصهاينة بكل تبجح وإصرار؛ تقول عضو الكنيست تالي غوتليب، المعروفة بتصديها المستمر للنائب أحمد الطيبي لمنعه من الكلام، أنه بدون توسيع الحصار "لن نتمكن من تجنيد مخبرين ولا تجنيد عملاء ومن شراء الناس بالأكل والماء والدواء". وتضيف: "لم أنس ما فعله النبي محمد بيهود خيبر". وبقولها هذا تكون قد أوجزت الصراع الدائر في فلسطين بكونه امتداد لما حصل في يثرب عندما ارتكب اليهود جريمة الخيانة العظمى بتعاونهم سرا مع قريش من أجل التخلص من الرسول صلعم وجماعته، وقرر إخراجهم من المدينة. وبناء عليه تعتقد هي وغيرها من المتطرفين الصهاينة أن الوقت قد حان من أجل تصفية حساب مر عليه خمسة عشر قرنا، وذلك من خلال التضحية بأهل غزة، والقضاء عليهم عبر هدم البيوت على أصحابها وقتلهم ومنع الطعام والشراب والدواء عنهم وعن أطفالهم!! هذا ما صرحت به هذه المتعصبة الصهيونية الناقمة على الفلسطينيين وعلى العرب والمسلمين جميعا، دون أن تجد اعتراضا وتنديدا من أحد سواء من داخل الكيان أو من خارجه.
حقيقة لم أعد أفهم ما الذي يجري في العالم، وأسأل نفسي هل أنا مصاب بالغباء إلى درجة عدم استيعاب ما الذي يقال وما الذي يحدث، أم أن العلة في غيري؟ عندما تسمع شخصا يتولى رئاسة أمريكا، ويعتبر نفسه ملكا يتحكم في مصير الإنسانية، يعلن بعظمة لسانه "ما يجري في غزة مفجع ومؤسف وعار وكارثي"، فتعتقد بأن الرجل قد استيقظ من سباته بعد أن رفض الاعتراف بالمجاعة التي تهدد الملايين، عاد له الرشد بفضل تأكيد زوجته على أن في غزة أطفال يموتون جوعا، وبناء عليه توقعت بأن يعلن عن إجراءات ترتقي إلى مستوى الفاجعة، وذلك بعد إرسال مستشاره ويتكوف لدراسة الوضع الانساني على عين المكان، لكن ويتكوف عاد أكثر حماسا للدفاع عن الرواية الإسرائيلية التي تنفى وجود مجاعة في غزة، ومؤكدا على أن المشكلة تكمن في بعض الجوانب التقنية. هكذا كذب مفضوح، وإصرار على القتل والتجويع.
في سياق مواز، قرر ترامب معاقبة كندا بسبب قرارها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، إلى جانب عدد من المسؤولين في السلطة وفي منظمة التحرير بسبب سعيهم لتدويل القضية، ودعمهم للقرار الذي اتخذته أكثر من خمسة عشر حكومة للاعتراف بالدولة الفلسطينية. عندها تسأل نفسك: هل ترامب يعاني من انفصام في الشخصية أم أنه بصدد الاستخفاف بل الاستهزاء بالجميع؟
بناء على كل ذلك، أتقدم بالاعتذار لمن يحترقون في غزة، وأقول لهم لكم الله في هذا المرحلة الرديئة والكارثية؛ ما زلتم ستدفعون أثمانا باهظة، لكن تأكدوا بأن المنعطف التاريخي قد بدأ، وأن النصر سيكون حليفكم مهما بلغ الطغيان وتآمر عليكم المتآمرون. فلحظة الباطل ساعة ولحظة الحق إلى قيام الساعة.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الإسرائيلية غزة الجرائم ترامب إسرائيل غزة جرائم جوع ترامب مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات مقالات سياسة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة فی غزة
إقرأ أيضاً:
اليونيسف تدق ناقوس: أطفال غزة يموتون بمعدل غير مسبوق
حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسف من أن أطفال قطاع غزة يموتون بمعدل غير مسبوق وسط المجاعة وتدهور الأوضاع نتيجة الحرب الإسرائيلية المستمرة على القطاع منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.
وقال نائب المدير التنفيذي لليونيسيف تيد شيبان، في إحاطة إعلامية حول رحلته الأخيرة إلى الشرق الأوسط، إن أطفال غزة يموتون بمعدل غير مسبوق، وعلامات المعاناة العميقة والجوع واضحة على وجوههم.
ومؤخرا، زار شيبان، كلا من الأراضي المحتلة حيث قال "نحن على مفترق طرق، والخيارات المتخذة الآن ستحدد ما إذا كان عشرات الآلاف من الأطفال سيعيشون أم سيموتون".
وقال المسؤول الأممي "تشاهدون الصور في الأخبار، وتعرفون ما حدث، لكن الأمر أصعب بكثير عندما تكونوا هناك، فعلامات المعاناة العميقة والجوع واضحة على وجوه العائلات والأطفال".
وأكد شيبان، أن “أكثر من 18 ألف طفل قُتلوا في غزة منذ بداية الحرب".
وأردف "تواجه غزة الآن خطرا داهما يتمثل في المجاعة، واحد من كل 3 أشخاص في غزة يقضي أياما دون طعام، وقد تجاوز مؤشر سوء التغذية عتبة المجاعة، حيث تجاوز معدل سوء التغذية الحاد العالمي الآن 16.5 في المئة".
وأوضح شيبان، أن "اليوم، أكثر من 320 ألف طفل صغير معرّض لخطر سوء التغذية الحاد"، مشددا
على أن ما يحدث على الأرض في غزة “غير إنساني”، وما يحتاجه الأطفال من جميع الفئات وقف إطلاق نار مستدام ومسار سياسي للمضي قُدما.
واختتم شيبان، بالتأكيد على “ضرورة إدخال حوالي 500 شاحنة يوميا على الأقل للقطاع عبر جميع الطرق، وهذا يشمل المساعدات الإنسانية والتجارية”.
وأعلنت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، الجعة، ارتفاع ضحايا سياسة التجويع الإسرائيلية منذ بداية الحرب إلى 162 حالة وفاة بينهم 92 طفلا، إثر تسجيل ثلاثة حالات وفاة خلال آخر 24 ساعة.
وفي 27 مايو/ أيار الماضي، بدأت آلية جديدة فرضتها إسرائيل التي تغلق معابر قطاع غزة بالتعاون مع الولايات المتحدة لتوزيع المساعدات الغذائية وذلك عبر ما تُسمى مؤسسة غزة الإنسانية في 4 مراكز توزيع جنوب القطاع ووسطه.
ومنذ بدء هذه الآلية وصل المستشفيات ألف و330 شهيدا فلسطينيا وأكثر من ثمانية آلاف و818 جريحًا، جراء إطلاق الجيش الإسرائيلي بشكل متكرر النار على منتظري مساعدات، حسب وزارة الصحة في غزة.
وبدعم أمريكي يرتكب الاحتلال إبادة جماعية في غزة تشمل قتلا وتجويعا وتدميرا وتهجيرا، متجاهلة النداءات الدولية وأوامر محكمة العدل الدولية بوقفها.
وخلفت الإبادة نحو 208 آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين، ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.