لجريدة عمان:
2025-08-04@18:56:26 GMT

الثقافة العمانية.. والانفتاح المتزن

تاريخ النشر: 4th, August 2025 GMT

ما الثقافة؟ وهل مارس العمانيون الانفتاح المتزن فيها عن وعي وقصد؟ لا نجد جوابًا ناجزًا؛ لسعة مفاهيم الثقافة والوعي والقصد، ولأنَّه لم تقم دراسة تحليلية حول الثقافة العمانية؛ خاصةً بتتبع جذورها، قد توجد بعض الدراسات عن ظواهر ثقافية معاصرة، بيد أنَّها تفتقد للتتبع التأريخي. إنَّ الثقافة امتداد عميق في الأمة، وبحسب الفرنسي جوستاف لوبون (ت:1931م) هي مكوّن السنن النفسية للأمة، والتي تطبعها بطابع أزلي ممتد، وتجعلها بطيئة التحول.

لقد تتبعت جانبًا من ثقافتنا عبر التاريخ في مقال «الفن.. والشخصية العمانية»، «عمان»، 20/ 5/ 2025م، وهذا المقال يأتي في السياق نفسه، ويحاول أنْ يقرأ اتزان الثقافة العمانية عبر عصورها المختلفة.

الثقافة.. نمط الحياة الذي يتمثّله المجتمع، بحيث يجد الفرد انسياقًا نفسيًا لممارسة معتقدات الجماعة وعاداتها وتقاليدها. وكل عنصر ثقافي له مبتدأ، قد تخفى بدايته وأسبابها، ويظل هو متمثَّلًا في المجتمع بالممارسة. إنَّ الثقافة يعتريها ما يعتري الكائن الحي من القوة والضعف، فهي تولد بسبب ما، فإنْ هيمنت على المجتمع العناصر الثقافية التي يولّدها نتيجة تفاعل أفراده في محيطهم فقط فهو منغلق ثقافيًا، وإنْ سادته العناصر الثقافية الدخيلة عليه فهو منفتح ثقافيًا، وكلا الحالين خللٌ في المجتمع وضعفٌ في ثقافته. وواقعًا.. لا يكاد يوجد مجتمع منغلق أو منفتح فقط، وإنَّما المجتمعات خليط منهما، وفي حالة تثاقف فيما بينها، وهذا هو الوضع الطبيعي، والاتزان فيه ينم عن تماسك المجتمع وازدهار الثقافة.

أما الوعي.. فإدراك المجتمع حالتَه الثقافية، فأفراده قد يدركون دخول عنصر ثقافي إليه، وقد لا يدركون، وغالبًا؛ يدركون دخول العناصر الصادمة، أو التي تحدث تحولًا واضحًا في سلوكهم الاجتماعي، بيد أنَّ هناك حالات تتسرب فيها عناصر ثقافية إلى المجتمع من حيث لا يشعرون، وهذه ظاهرة سائرة في المجتمعات، إلا أنَّ المنتِجة منها هي الأكثر تأثيرًا وتصديرًا لعناصرها، والمستهلِكة أكثر عرضةً للتأثر بالمجتمعات المنتِجة.

وبالنسبة للقصد.. فقد نعي تحولاتنا الثقافية، وما يرد إلينا ويصدر عنا من عناصر ثقافية، لكن لا نفعل ذلك دائمًا عن قصد، فغالبًا؛ يحصل وفقًا لظروف تفرضها علينا حاجة الاجتماع البشري. فنحن مثلًا لا نقصد إلى استيراد نوع محدد من الملابس، فضلًا عن إنتاجه، وإنَّما وجدناه في السوق فاقتنيناه وتزيينا به. إنَّ الوعي بالشيء لا يعني ضرورةً القصد إلى فعله. وهكذا هي الثقافة عمومًا، نجد أنفسنا نسبح في أبحرها، مع إدراكنا تنوّع مياهها واختلاف أمواجها.

المجتمع العماني.. بأطيافه المتنوعة -كغيره من المجتمعات- ينتج عناصره الثقافية، ويتثاقف مع المجتمعات. إلا أنَّه كثيرًا ما يوصف بالانغلاق، وهو شعور تسرّب إلى العمانيين أنفسهم؛ وإنْ أشار بعضهم بالتقصير إلى غيرهم، ويدللون عليه بضعف حضور أسماء الشخصيات العمانية في آداب العرب والمسلمين، وقلة معرفة إنجازهم العلمي، فكتبهم لا تدرجها معاجم المؤلفين في قوائمها، وبلادهم عمان يجهلها الكثيرون، وأما مدنهم وقراهم وأوديتهم ونجوعهم فهي أخفى من دبيب النمل عن أسماع الناس.

هذه الحالة استشعرها العمانيون على أقل تقدير منذ القرن السادس الهجري؛ عندما ذكر الصحاري سلمة بن مسلم العوتبي (ق:6هـ) في كتابه «الإبانة» قصة مصقلة بن رقبة، ناسبًا إياها إلى عمرو بن بحر الجاحظ (ت:255هـ): (لرُبَّما سمعت من لا علم له يقول: ومن أين لأهل عمان البيان؟ وهل يَعدِّون لبلدة واحدة من الخطباء والبلغاء ما يعدون لأهل عمان؟ منهم: مصقلة بن رقبة، أخطب الناس قائمًا وجالسًا ومنافسًا ومجيبًا ومبتدئًا). وبغض النظر عن عدم نسبة الجاحظ القصة إلى العمانيين، وأنَّ مصقلة من عبد قيس بالكوفة، فإنَّ شعور العمانيين بعزلتهم قديمة، ولا زلنا نلمسها عند غيرنا في أسفارنا. إنَّ الثقافة العمانية لم تكن أبوابها موصدة بهذا القدر من التصور..

بل هناك انفتاح متزن، وهذا ليس ممن شغفه وطنه حبًا.. بل هو استقراء للتاريخ.

لنبدأ من عمقنا الحضاري.. فالحضارة العمانية -التي بأساسها دينية- قامت على التجريد في المعتقدات؛ الأقرب إلى تنزيه الإله، والاقتباس الحذِر من معتقدات الآخرين، وهذا ما نجده قبل الميلاد بأدهر، بحسبما توفر من أدلة آثارية، فقد وجدت في عمان رموز دينية موشاة على الصخور، وقليل جدًا منها منحوت، وكثيرًا ما يكون الرسم تعبيرًا عن المعتقدات حينذاك قبل الكتابة. ومع وجود بعض الأنصاب المجردة؛ لم توجد أصنام كبيرة مشخّصة. إنَّ هذه الظاهرة قد لا تكون توحيدًا خالصًا؛ غير أنَّها -فيما يبدو- كانت حذرةً من الصنمية.

العناصر الثقافية التي خلّفتها أوابد حضارتنا القديمة؛ من مثل المباني المنقب عنها في باطن الأرض، وما وجد فيها من مرفقات، وما حفظته المكتبة الصخرية من رسمات على حيطانها، نجد كثيرًا منها متأثرًا بثقافة جزيرة العرب والعراق، ولا يند عنها إلا نادرًا. لقد ثبت من خلال الأختام واللقى الآثارية وقطع الفخار أنَّ عمان على اتصال قديم بحضارات السند والهند والصين وفارس، إلا أنَّ ثقافاتها لم تؤثر عميقًا على المشهد الحضاري العماني. ومَن يتفحص الحضارة العمانية يجد غالب تأثرها بحضارات اليمن والعراق، وهي مناطق يجمعها تشابه ثقافي عام أكثر من خصوصياتها، وأستثني المعتقدات الدينية التي لم تتأثر كثيرًا بتماثيل العراق واليمن، كما ألمحت إلى ذلك أعلاه.

وإذا أتينا إلى الانقلاب الثقافي الحاصل ما بين الميلاد والإسلام، فلا نجده يشذ عن هذا المسار، فقد اعتنق العمانيون من النصرانية المذهب النسطوري الأقرب إلى تنزيه الله، والتنزيه.. هو المعتقد الذي صبغ الدين في عمان. لذلك؛ كانت النسطورية أحد دوافع إسلام العمانيين السريع لمّا وصلتهم رسالة النبي الخاتم، فيما ترويه كتب التاريخ.

ومن ملامح اتزان الانفتاح الثقافي لتلك الحقبة؛ أنَّ العمانيين تفاعلوا مع العرب؛ نزاريين ويمانيين، القادمين إليهم من مملكة الحِيرة العربية، ورفضوا الثقافة الفارسية؛ مع أنَّ فارس كانت إحدى الامبراطوريتين المهيمنتين على العالم حينذاك، وكانت لها دساكر على السواحل العمانية الشمالية.

ومع بدء الإسلام.. توجس العمانيون من التحولات الثقافية التي حصلت نتيجة التداخل مع الحضارات التي استولى المسلمون على بلدانها، فلم يقبلوا في السياسة النموذج الفارسي الكسروي ولا النموذج البيزنطي القيصري، فظلوا محافظين على نموذجهم الملكي العربي؛ بتقاليده اليمانية التي تشكلت في مملكة الحِيرة.

ولمَّا وقع الصراع بين المسلمين على الحكم عقب وفاة نبيهم الأكرم، وتمخضت عنه نظريات سياسية ذات بُعد قَبَلي؛ فإنَّ العمانيين أسسوا نظامًا وسطًا للحكم يتسع أعراق المجتمع الإسلامي؛ يقوم على الاستقامة في الدين والكفاءة في الحاكم، فلم يبتلعهم الحلف القبلي الهادر، ولم يختلبهم العرق النسبي الآسر. كما أنَّهم انفتحوا على فكر المسلمين عامةً، فلم يتعصبوا لتيار دون آخر، فرووا عن عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن سفيان، وقتادة بن دعامة السدوسي (ت:118هـ) ومقاتل بن سليمان الأزدي (ت:150هـ)، واستفادوا من فقه المذاهب الإسلامية جميعها.

وفي الدولة الحديثة.. كان الاتزان حاضرًا، فشقت عمان لنفسها طريقًا وسطًا، لم تنغلق انغلاقًا يفرّط عليها منافع العصر، ولم تنفتح انفتاحًا يلاشي هُويتها، فقُرِنت وزارة الثقافة بالتراث في نهضتها المعاصرة، وهذه الوسطية واضحة في مرافق الحياة. ولمّا استوى مولانا صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق أدام الله مجده على دست الحكم، وصدرت أول «استراتيجية ثقافية» في سلطنة عمان عن وزارة الثقافة والرياضة والشباب؛ وعلى رأسها صاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم حفظه الله، جمعت بين «ترسيخ الهُوية الثقافية، وتحقيق الريادة وتنميتها»، فنصت رسالتها على (تنظيم وتطوير العمل الثقافي وتهيئة البيئة المناسبة للإبداع بهدف ترسيخ الهوية الثقافية وتحقيق الريادة وتنميتها واستدامتها محليًا وعالميًا).

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الثقافة العمانیة

إقرأ أيضاً:

الأجندة الثقافية في سوريا ليوم السبت ال 2 من آب 2025

دمشق-سانا

مقالات مشابهة

  • «توغي» تستقبل القائم بالأعمال الروسي وتبحث آفاق الشراكة الثقافية طويلة الأمد
  • وزير الأوقاف يستقبل نقيب المهن التمثيلية لبحث التعاون في دعم الدراما الدينية والأنشطة الثقافية
  • وزير الثقافة: أبناء الوطن سفراء للهوية الثقافية وشركاء في مسيرة التنوير والبناء
  • “تراث عمان الثقافية” تشارك في ورشة تدريبية لتعزيز الاتصال الداعم للمساواة وتمكين المرأة
  • معرض المدينة للكتاب .. حراك ثقافي يوسّع أُفق المعرفة
  • حوار ثقافي حول الملحن المصري كمال الطويل في المنتدى الاجتماعي بدمشق
  • مشروعات جديدة على خارطة السياحة العمانية
  • بحث معايير الجودة وتطوير الكوادر العمانية في مجال التقييس بجنيف
  • الأجندة الثقافية في سوريا ليوم السبت ال 2 من آب 2025