أزمات فجائية: المسارات السياسية المُحتمَلَة في تايلاند بعد المواجهات الأخيرة مع كمبوديا
تاريخ النشر: 7th, August 2025 GMT
تقف تايلاند على أعتاب مرحلة جديدة من التحولات السياسية التي ربما تؤدي لإقالة رئيسة الوزراء بيتونغتارن شيناواترا، والتي تولت منصبها كأصغر رئيسة وزراء في البلاد في أغسطس 2024؛ كأحد الانعكاسات المباشرة لتجدد دورة الصراع الحدودي بين تايلاند وكمبوديا، والذي عاد للانفجار مرة أخرى منذ 28 مايو الماضي، قبل أن تتصاعد حدته في 24 يوليو 2025، وسط تبادل إطلاق النار والغارات الجوية بين الدولتين، حيث أكدت تايلاند أن إحدى طائراتها المقاتلة من طراز “إف 16” قصفت أهدافاً عسكرية داخل الأراضي الكمبودية، رداً على ما وصفته بهجمات بالمدفعية الثقيلة شنتها القوات الكمبودية على مواقع عسكرية ومدنية تايلاندية، شملت مستشفى وقاعدة حدودية.
تصعيد فجائي وغير مألوف:
أثار هذا المستوى الجديد من التصعيد المخاوف من تحول النزاع بين الدولتين إلى انفجار كبير أو الدخول في مواجهة مفتوحة. ورغم استبعاد هذا السيناريو، إلا أن حدة الاشتباكات ووصولها لمستوى غير مسبوق في الوقت الراهن، دفعت البعض للحديث عن إمكانية الوصول بهذه المواجهة لهذا الحد؛ إذ تؤكد مسارات العلاقات بين الدولتين أن التصعيد الأخير كان مفاجئاً وغير متوقع، وذلك في ضوء مجموعة من العوامل الرئيسية: أولها، أن الدولتين لديهما القدرة على السيطرة على الصراع ومنعه من الانفلات على الأقل خلال العقدين الماضيين، فمنذ اندلاع المناوشات الكبرى بينهما بين عامي 2008 و2011، اتسم النزاع بالجمود ولم يأخذ أي شكل من أشكال التصعيد الحاد، ما جعل الصراع بينهما أشبه بما يمكن وصفه بــ “التصعيد المكتوم”.
ويتمثل ثاني هذه العوامل في العلاقات المتينة والمتنامية بين عائلة شيناواترا في تايلاند، وعائلة هون سين في كمبوديا، وهما العائلتان اللتان تمسكان بزمام السلطة في الدولتين، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من خلال قيام هون سين، بتعيين رئيس وزراء تايلاند السابق تاكسين شيناواترا في عام 2009، مستشاراً اقتصادياً لحكومة كمبوديا. وفي أعقاب إفراج السلطات التايلاندية عن تاكسين في فبراير 2024 وخروجه من السجن، قام سين بزيارته في مقر إقامته في تايلاند، كما سبق وأن وصف سين زعيم تايلاند بــ “الأخ الروحي”. وكان تاكسين قد تولى رئاسة وزراء تايلاند ما بين عامي 2001 و2006، وهو والد رئيسة الوزراء الموقوفة عن العمل حالياً بيتونغتارن شيناواترا.
وقَبْل اندلاع المواجهات بشهر واحد، قامت بيتونغتارن شيناواترا بزيارة رسمية إلى كمبوديا في 24 إبريل الماضي، في أول زيارة لها منذ توليها المنصب، تزامناً مع الاحتفال بالذكرى الخامسة والسبعين لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدولتين. وجاءت الزيارة محملة بتعهدات لتعزيز التعاون بينهما، ما يعكس طبيعة العلاقة الودية بين الطرفين.
ولا ينفصل عن ذلك التطور الذي شهدته العلاقات السياسية والاقتصادية بين الدولتين خلال السنوات الماضية؛ فعلى الصعيد السياسي، اتفقت الدولتان في فبراير 2024، على الارتقاء بالعلاقات الثنائية إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية، وذلك خلال زيارة هون مانيه، رئيس وزراء كمبوديا إلى تايلاند. وعلى الصعيد الاقتصادي، تطورت العلاقات بينهما بشكل ملحوظ، حيث بلغ حجم التجارة الثنائية ما يقرب من 4.3 مليار دولار في عام 2024، وسط تعهدات من الدولتين بوصوله إلى 15 مليار دولار.
وفقاً للعوامل السابقة، فإن التفاعلات الودية والتنسيق المتزايد بين الدولتين كان بمثابة المسار الحاكم أو المُهيمن على علاقاتهم خلال الفترات الماضية، وهو يجعل الانفجار أو التصعيد الحالي -الذي يُنظر إليه باعتباره الأعنف أو الأكثر حدة – مفاجئاً وغير مألوف، بمعنى آخر يشير مستوى العلاقات بين الدولتين إلى أن التصعيد الراهن ربما لم يكن ضمن حسابات صناع القرار في الدولتين، ولم يكن لديهم رغبة في الوصول إليه.
أزمة سياسية داخلية جديدة في تايلاند:
سعت رئيسة وزراء تايلاند بيتونغتارن، إلى نزع فتيل الأزمة واحتواء التصعيد مع كمبوديا، حيث قامت بإجراء مكالمة هاتفية يوم 15 يونيو 2025، مع رئيس وزراء كمبوديا السابق هون سين، الذي يتمتع بنفوذ سياسي كبير داخل حكومة ابنه هون مانيه. ولم تكن بيتونغتارن تظن أن مساعيها لاحتواء الأزمة الحدودية ستكون بمثابة كرة اللهب التي سوف تشعل الداخل التايلاندي وتؤدي إلى تأليب المعارضة والرأي العام؛ فقد تم تسريب هذه المكالمة، والتي تعهدت فيها بالقيام بكل ما يحتاجه زعيم كمبوديا، وطلبت منه ألا “ينزعج أو يغضب” من التعليقات التي أدلى بها الجنرال “بونسن بادكلانج”، قائد المنطقة العسكرية الثانية في تايلاند، والتي هدد فيها كمبوديا بــ “مبارزة” على الحدود، مشيرة إلى أنه أراد أن يبدو قوياً، إلا أن الأمر انتهى به إلى قول أشياء غير مفيدة لأي من الدولتين”.
ولقد أدى تسريب هذه المكالمة إلى جدل واسع داخل تايلاند وأنتج أزمة سياسية لرئيسة الوزراء، وهو ما يمكن إيجازه فيما يلي:
1 – الملاحقة القضائية لرئيسة الوزراء: أدى تسريب هذه المكالمة إلى إثارة موجة من الغضب داخل تايلاند، حيث وصفها البعض بأنها خيانة وتتعارض مع المصالح الوطنية للبلاد. وكرد فعل سريع ومُتوقَّع، دعت أحزاب المعارضة رئيسة الوزراء إلى التنحي.
ورغم أن بيتونغتارن حاولت احتواء الموقف من خلال تقديم اعتذار علني في مؤتمر صحفي عقدته يوم 19 يونيو، إلا أن 36 عضواً من أعضاء مجلس الشيوخ رفعوا شكوى ضد رئيسة الوزراء أمام المحكمة الدستورية بتهمة سوء السلوك الأخلاقي. وفي 1 يوليو، أوقفت المحكمة الدستورية رئيسة الوزراء عن ممارسة مهامها، لحين انتهاء التحقيقات. وقد تولى النائب الأعلى لرئيس الوزراء ووزير الداخلية “فومتام ويشاياتشاي” رئاسة الوزراء بشكل مؤقت وفقاً للدستور؛ حيث يشغل النائب الأعلى لرئيس الوزراء المنصب في حالات إقالة أو استقالة أو تعليق عمل رئيس الوزراء لأي سبب. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، حيث قررت هيئة مكافحة الفساد في تايلاند، يوم 14 يوليو أيضاً، التحقيق مع رئيس الوزراء الموقوفة بتهمة ارتكاب انتهاكات أخلاقية وإساءة استخدام السلطة.
2 – تزايد الاستياء والغضب الشعبي: تزامن مع الملاحقات القضائية حراك شعبي وتظاهرات كبيرة تطالب برحيل رئيسة الوزراء وخروجها من المشهد السياسي، ففي تظاهرات هي الأكبر منذ سنوات، احتشد الآلاف من أنصار حركة القوة الوطنية المتحدة، وحركة القمصان الصفراء، يوم 28 يونيو، للمطالبة بإقالة رئيسة الوزراء على ما اعتبروه تخلياً عن السيادة الوطنية وتودداً من رئيسة الوزراء للنظام الحاكم في كمبوديا على حساب المؤسسة العسكرية التايلاندية. من ناحية أخرى، أظهرت استطلاعات الرأي التي تم إجراؤها في أعقاب المكالمة المُسرَّبة تراجع شعبية رئيسة الوزراء وارتفاع الأصوات المطالبة باستقالتها وإقصائها من المشهد السياسي.
3 – تصدع في الائتلاف الحاكم: لم يتمكن أي حزب سياسي في انتخابات تايلاند التي أُجرِيَت في مايو 2023 من تحقيق أغلبية مُطلَقَة في مجلس النواب المُكوَّن من 500 عضو، ما دفع حزب Pheu Thai “من أجل تايلاند” (حزب رئيسة الوزراء الموقوفة)، الذي حصل على 141 مقعداً إلى تشكيل حكومة ائتلافية تتكون من 11 حزباً مختلفة التوجهات والأيديولوجيات.
هذا الائتلاف الحكومي يتعرض الآن إلى هزة كبيرة، فعقب تسريب المكالمة، انسحب حزب Bhumjaithai Party ” فخر تايلاند” من الائتلاف ليربك ذلك المشهد السياسي، خاصة وأن حزب “فخر تايلاند” هو ثاني أكبر الأحزاب داخل الائتلاف الحاكم، بامتلاكه 72 مقعداً في مجلس النواب، وهو الأمر الذي يجعل الحكومة الحالية تتمتع بأغلبية ضئيلة جداً تبلغ 254 مقعداً فقط، وقد يزداد الوضع سوءاً إذا ما أعلن أي من الأحزاب الأخرى داخل الائتلاف انسحابه.
المسارات المُحتمَلَة للأزمة:
يُمكِن أن تؤدي التفاعلات السياسية في تايلاند خلال الأيام والأسابيع المقبلة إلى تحولات في المعادلة السياسية الراهنة بسبب هذه الأزمة، وتتراوح المسارات المُحتمَلَة لهذه الأزمة في السيناريوهات التالية:
1 – استمرار رئيسة الوزراء في منصبها: قدَّمت رئيسة الوزراء بيتونغتارن في 15 يوليو الجاري، طلباً رسمياً للمحكمة الدستورية للحصول على 15 يوماً لتقديم دفاعها في الاتهامات المنسوبة إليها. وعليه يُتوقَّع ألا تتخذ المحكمة قراراً حتى يوم 31 يوليو. ويَفترِض هذا السيناريو نجاح رئيسة الوزراء في تقديم الحجج التي تدافع بها عن نفسها، ما يفضي إلى صدور الحكم ببراءتها من جانب المحكمة الدستورية، ومن ثم عودتها للحكم.
ورغم صعوبة إعلان المحكمة تبرأتها من التهم المُوجَّهة إليها، إلا أن هذا السيناريو يستند إلى وقائع تاريخية، حيث قضت المحكمة الدستورية في سبتمبر 2022، بعودة رئيس الوزراء برايوت تشان أوتشا، لمنصبة بعد إيقاف دام خمسة أسابيع، في قضية كانت تتعلق بمدى تجاوزه المدة الدستورية في الحكم، إذ اعتبرت المحكمة، حينذاك، أنه لم يتجاوز الحد الأقصى المسموح به، وهو ثماني سنوات في المنصب.
ومع أن حيثيات القضية والسياق العام كان مختلفاً، إلا أن ذلك يُبقِي على احتمالية تراجُع المحكمة عن قراراتها. ويُمكِن القول إنه حتى لو تم تبرئة بيتونغتارن، فمن غير المُرجَّح أن تحظى عودتها بشرعية سياسية أو بقبول لدى التايلانديين، في ظل حالة الاستقطاب السياسي الحاد وتوجهات الرأي العام، علاوة على تراجُع شعبيتها ورصيدها السياسي. كما أن الائتلاف الحكومي سيصبح هشاً ومُعرَّضاً للانهيار في حال انسحاب أي من الأحزاب الأخرى الشريكة فيه، وهو أمر وارد في ظل التباينات الأيديولوجية داخل الائتلاف.
2 – إقالة رئيسة الوزراء: يَفترِض هذا السيناريو صدور حكم المحكمة الدستورية بإدانة رئيسة الوزراء بيتونغتارن، ومن ثم إقالتها من منصبها وتحمليها المسؤولية السياسية عن المكالمة المُسرَّبة. هذا السيناريو سيطيح برئيسة الوزراء، لكنه يُبقِي على الفرص السياسية لحزبها (من أجل تايلاند)، وباقي الأحزاب الأخرى في الائتلاف الحاكم، حيث قد يسمح هذا المسار بتقديم مُرشَّح عن الحزب أو الائتلاف الحاكم لتولي المنصب، ما يعني الإبقاء على الحكومة الحالية دون الحاجة إلى إجراء انتخابات مبكرة.
وفي هذه الحالة، سوف يقوم أعضاء مجلس النواب بالتصويت لاختيار رئيس الوزراء الجديد، ويجب أن يحصل المُرشَّح للمنصب على 251 صوتاً. وفي حال عدم التوافق على رئيس وزراء جديد، فسوف يتم حل البرلمان، والدعوة إلى إجراء انتخابات مبكرة، وذلك خلال مدة لا تتجاوز 60 يوماً من حل البرلمان.
3 – استدعاء الجيش: يُمكِن أن تنتهي التطورات الراهنة بعودة الجيش للمعادلة السياسية مرة أخرى، وهي الاحتمالات التي تتزايد، خاصة إذا تفاقمت الأزمة بين الائتلاف الحاكم والمعارضة وأدى ذلك لحالة من الجمود السياسي، هذا علاوة على ظهور بعض المطالب بعودة الجيش لتولي زمام الأمور، ولا سيما أن الجيش يحظى بدعم شعبي لتعامله مع التوترات الحدودية مع كمبوديا من جانب، وثمة حزبيْن سياسييْن داخل الائتلاف الحاكم الراهن تعود خلفياتها إلى الجيش من جانب آخر.
وفي كل الأحوال، لا يُمكِن استبعاد أي دور مُحتَمَل للجيش، فهو كان، ولا يزال، طرفاً قوياً وفاعلاً في الترتيبات السياسية، نظراً لخبرة تايلاند مع هذا النمط من التحول، ودور الجيش الرئيسي في الحياة السياسية؛ فمنذ عام 1932، وقع 12 انقلاباً في البلاد، كان آخرها في عامي 2006 و2014.
أخيراً، ربما سيكون السيناريو الأقرب للتحقق هو ترك رئيسة الوزراء منصبها، سواءً بقرار إقالتها من المحكمة الدستورية أو بسبب انهيار الائتلاف الحاكم بَعْد الأزمة مع كمبوديا. وفي كلتا الحالتين، فإن النفوذ السياسي والحزبي المعروف لعائلة شيناواترا سوف يتراجع بشكل كبير بعد أن ظلت رقماً فاعلاً في الحياة السياسية في تايلاند خلال العقدين الماضيين، منذ صعود تاكسين شيناواترا إلى منصب رئاسة الوزراء في عام 2001، مروراً بشقيقته ينجلوك شيناواترا، التي تولت المنصب ذاته في الفترة من عام 2011 إلى عام 2014، وصولاً إلى ابنته بيتونغتارن التي تولت المنصب منذ 16 أغسطس 2024.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
المصدر: جريدة الوطن
إقرأ أيضاً:
الدفاع التايلاندية: اتفقنا مع كمبوديا على عدم تعزيز القوات على الحدود
عرضت قناة القاهرة الإخبارية خبرا عاجلا يفيد بأن الدفاع التايلاندية، قالت : اتفقنا مع كمبوديا على إرسال مراقبين من رابطة دول جنوب شرق آسيا لوقف إطلاق النار بين البلدين.
وأضافت وزارة الدفاع التايلاندية: اتفقنا مع كمبوديا على عدم تعزيز القوات على الحدود، وأن المنطقة الحدودية مع كمبوديا ستستقبل زيارات عرضية من مراقبين من جهات خارجية.