سميحة بنت ناصر الغابشية - 

مع بداية الألفية الجديدة، انتقل العالم إلى مرحلة جديدة، وإلى بناء مختلف عن الماضي، مدن ذكية بمواصفات علمية وهندسية متطورة، وأدوات بناء تحاكي الخيال، وتسارع في شتى المجالات تنسف كل النظريات القديمة التي آمن بها الناس قديما.

أصبحت الحكومات في دول العالم تعي تماما حدود التحديات ومتطلبات المرحلة الحالية والمستقبلية، ربما فاتورة البناء مرتفعة جدا، لكن في سبيل التقدم يتم توفير الإمكانيات ليظل السباق نحو الأمام قائما وشعلة متقدة في عقول وأنظار الشعوب.

بعض الدول رغم الأزمات الاقتصادية والتدهور في الخدمات تسعى جاهدة لوضع أقدامها على خارطة الوجود، تثقل أحيانا ميزانيتها بالديون لكنها تحاول أن تصل إلى إحداث بعض القفزات التكنولوجية والخروج من نقاط التخلف إلى مواكبة العصر وما يتطلبه من تضحيات للوصول إلى الأهداف.

من الحقائق الواضحة والتي لا مناص ذكرها، أن العالم من حولنا لم يعد كما كان في الماضي دولا متناثرة أو قارات متباعدة أو عالم مجهول لا يرتبط بعضه ببعض، بل أصبح نواة فيزيائية تجتمع حولها الكتل البشرية من كل مكان، من يمعن النظر طويلا يكتشف أسرارا مهمة في هذا الكوكب، فبالرغم من الحروب والدمار والكوارث الطبيعية إلا أن هناك تغيرًا جذريًا في البنى التحتية في مدن العالم، فلا الحرب والصراعات تنتهي، ولا مراحل البناء والتطوير تتوقف.

هل تغير شكل العالم والإنسانية ؟ اعتقد من البديهي أن تكون الإجابة نعم، وتأكيدا لذلك علينا أن نرى حجم التطور الهائل الذي شهده العالم سواء في الأغراض السلمية أو الحربية، فمن مصانع الأسلحة المتطورة يقف الشخص منا منبهرا بما تم إنتاجه من أسلحة دمار لا يمكن وصفها إلا بأنها قادرة على «إبادة البشرية» كذلك هو الحال بالنسبة إلى الإنتاج الذري الذي لا يزال يشكل تهديدا على البشرية في حال استخدامه بدون وعي أو مسؤولية.

الحكومات لم تتأخر طويلا في تبني مشروعات التكنولوجيا الرقمية والمعاملات الإلكترونية وصولا إلى سطوع نجم «الذكاء الاصطناعي» وما شابه من انبهار وخوف وتوجس في قدرته على استيعاب الواقع وتحويله إلى شيء جديد لم تألفه البشرية من قبل، سواء كانت هذه الاستخدامات قانونية أو غير قانونية إلا أنه علم «قديم-جديد»، أصبح نوعا من التجارة الرائدة في العالم، فكل المؤسسات والهيئات والحكومات لديها شغف في استعمال هذا العلم في إنجاز معاملاتها ومنحه الثقة في مساعدتها ماليا وعلميا، إذن باختصار تام العالم أصبح أكثر رغبة في الوصول إلى مراحل متقدمة من التطور حتى وإن كانت على حساب «الأمن والاستقرار العالمي».

في الوقت الراهن بدأت بعض الدول الكبرى مرحلة التفكير العميق في كيفية انتزاع الأفضلية من أيدي «المحاربين القدماء» أي الذي كان لهم الريادة والسبق في الصناعة التكنولوجية، وهذا التنافس ما بين الغريم القديم والمستخدم الجدي هو الخروج بسلسلة من الابتكارات التي تدر الأموال الطائلة، في الوقت ذاته تحدث نوعا من التقدم البشري في مجال التطور التكنولوجي.

وفي هذا السباق المحتدم، بزغ فجر دول جديدة في مجال الصناعة، وأطلت بوجهها كمنافس قوي حتى وإن لم تكن يوما ضمن قائمة التصنيف العالمي في مجال «الريادة الدولية»، لكنها الآن أصبحت تشكل ثقلا دوليا بفضل ما تقدمه من تكنولوجيا متطورة ليس في مجال متخصصة بعينه، وإنما في مجالات متعددة، وبالمقابل خفت نجم بعض الدول التي كانت يوما اسما لامعا وموثوق في قدراته على الإبهار بجودة صناعته التي غزت العالم بسبب ارتفاع الأيدي العاملة وقلة الإقبال على البضائع مرتفعة التكلفة.

لم يعد العالم يخطو خطواته المتثاقلة كما كان في الماضي البعيد، بل كل شيء قد تغير إلى الأفضل من الجهة التقنية، ولكنه أصبح مرعبا في خطورته على حياة الناس من جهة أخرى، ولأن الخطر قد زاد عن الحد المعقول، فإن العالم بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في بعض النقاط المهمة ومنها الحد من انتشار الأسلحة الفتاكة وتخزينها في أماكن غير آمنة، أيضا مراعاة الجوانب الإنسانية عند استخدام السلاح ضد المدنيين خاصة وأن العالم قد شهد مآسي خلال بعض الفترات بسبب استخدام بعض الدول أسلحة محرمة دوليا ضد الأبرياء.

أما إذا توجهنا إلى الصناعة الذكية، والاختراعات الحديثة، فإننا ندرك أن أنظار الجميع تتجه نحو إحداث بركان مرعب يخرج من بين طبقات الأرض ولكن بطفرات تكنولوجية هائلة لم يكن العالم يعرفها يوما أو يتوقعها.

ليس من العدل أن نعقد مقارنة ما بين «الأمس واليوم»، فالإمكانيات المادية والثروات المتعددة هي من وفرت التمويل اللازم في مجال البحث العلمي والابتكار، فمع توفر أدوات الصرف على المشروعات البحثية بدأ العالم مرحلة الاستكشاف والتطوير والتحديث وإيجاد البديل المتطور الذي يتماشى مع العصر الحديث، فلو طرقنا أبواب الاختراعات الحديثة لوجدنا موسوعة عالمية من الأشياء التي أصبحت تدخل يوميا في صميم حياة الناس ولم تكن موجودة في السابق سواء في الأشياء التي تم إضافتها لتخدم الإنسان وتسهل عليه أعماله اليومية أو تحدث فارقا نوعيا في شكل نمط الحياة الجديدة التي يعيشها بين الناس أو يتخاطب بها مع العالم.

كل شيء بات أكثر تقدما من جهة، لكن خطره زاد على الإنسان، ففي كل مجال هناك نسبة من المخاطر يواجهها الناس إذا ما استغلت تلك الأشياء بشكل عكسي، سواء في المعاملات اليومية أو في نطاق النزاعات الدولية.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، شهد قطاع الاتصالات والتعاملات الإلكترونية تطورا لافتا ومبهرا، فأصبح التعامل الإلكتروني ضرورة ملحة لإنجاز مليارات المعاملات حول العالم، ولكن البعض يستغل هذا الجانب لأغراضه الشخصية فيعبث في الأيقونات ويحاول التربص بالآخرين وإيقاع الضرر بهم.

من الأمثلة الأخرى، وجود منظومات متطورة من الأسلحة والمعدات العسكرية سرع من اشتعال فتيل الحروب ما بين الدول، فقرار الحرب أصبح سهلا للغاية، فمع أول شرارة لنزاعات إقليمية أو دولية يبدأ معه سماع صوت الانفجارات ورؤية حجم الدمار الهائل في الممتلكات والأرواح.

في السابق كان قرار الحرب من القرارات الصعبة والمهمة التي تحتاج إلى استعداد خاص، والاشتباكات المتقطعة لم تكن تؤدي أحيانا إلى الوصول إلى حرب طويلة، أما اليوم ومع الإمكانيات المتطورة أصبح الاشتباك البسيط بداية سريعة لتحول إلى حرب طاحنة، فالتكنولوجيا العسكرية والتقنيات الحديثة المتطورة أصبحت أشد فتكا على بالبشر، وبالتوازي مع النزاع المسلح تشتعل حرب أخرى في الخفاء وهي «الحروب الإلكترونية» التي تغزو أنظمة الطرف الآخر وتعطيل شبكات الكهرباء والمواصلات وغيرها من خلال الدخول على أنظمة العمل الإلكترونية بهدف يقاع الخسائر في وقت وجيز.

إن الحراك التقني أوجد حالة من التشابك والمنافسة بين الدول، والحروب الحالية خرجت من نطاق استخدام البارود والقنابل إلى حروب أخرى مثل الحروب التجارية وفرض الرسوم الجمركية وحرب المياه والغذاء وغيرها.

لا نريد أن نذكر قطاعا وننسى آخر، لكن ما نود الوصول إليه أن العالم يشهد طفرة كبيرة «غير متوقعة» من التطورات التكنولوجية، وربما سلاح الذكاء الاصطناعي سوف يكون له تأثير إيجابي وآخر سبلي على الحياة بشكل عام، ولذا بات لزاما على الإنسان أن يتعامل مع هذه التقنية بشيء من الحذر وعدم الأمان لكل شيء يراه أمامه.

وبعيدا عن الخوض في تفاصيل «الذكاء الاصطناعي» وما يقوم به حاليا من مشروعات علمية وتقنية، فإن المستقبل يبدو غامضا بعض الشيء، الخوف يتركز في كيفية التعامل مع كل الأشياء التي تصل إلينا على أنها حقيقة وبعيدة عن إطار التزييف أو الخداع دون التيقن من مصداقيتها قبل تجربتها!

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: بعض الدول فی مجال

إقرأ أيضاً:

أمريكا ... ما بين مصير البندقية وسقوط روما !


في الواقع أن إلقاء نظرة على بعض أخطاء الإمبراطوريات الماضية يمكن أن يضفي منظورا ما على الهزيمة التي لحقت بنا في كل من العراق وافغانستان , سواء من حيث تأثيرها في السياسة الخارجية للولايات المتحدة الأمريكية بالفعل , أو تأثيرها في قدرتنا على التعامل مع التحديات المستقبلية في الشرق الأوسط والصين والمكسيك طوال القرن الحادي والعشرين ) . " المفكر الأمريكي , روبرت كابلان " .

هزيمة واشنطن
إن التاريخ القديم يقدم نماذج أحداث ويلقي بظلالها اليوم حول فشل امريكا في فيتنام و العراق و افغانستان . حيث نجد ذلك في غزو أثينا على صقلية والتي رواها " ثوكوديدس " في الكتاب السادس عن " الحرب البيلوبونيسية " فقد انقضت أربعة عشر عاما بين أولى غزوات أثينا على صقلية في عام 427 قبل الميلاد , وهزيمة أثينا وكارثتها النهائية في معركة " سيراكيوز " البحرية في عام 413 قبل الميلاد .

وهو نفس العدد من السنوات الذي انقضت بين الغزوات المبكرة إدارة الرئيس الأمريكي " جون كينيدي 1961- 1963م " لفيتنام عام 1964م , وبين الانسحاب النهائي كهزيمة للرئيس الأمريكي " جيرالد فورد 1974- 1977م " بعد احتلال سايغون . وفي نهاية الحرب الفيتنامية تجرعت أمريكا الهزيمة , وكان مشهدا يشفي غليل المقهورين في الأرض عندما اضطرت الأعداد المتبقية من الأمريكان وأتباعهم في فيتنام إلى الهروب في طائرات هليكوبتر أمريكية من فوق سطح السفارة الأمريكية في اللحظات الأخيرة قبل الفتك بهم .

لقد أدت الحرب الصقلية إلى تقسيم الجبهة الداخلية في أثينا , كما فعلت حربا فيتنام والعراق و افغانستان في احداث انقسام داخلي في واشنطن وفي تبادل الاتهامات بسبب الفشل والانسحاب والهزيمة . ففي منتصف السبعينات من القرن المنصرم صدر كتاب ل" روبرت ماكنمارا " وزير الدفاع في إدارة الرئيس جونسون وهو واخد من أبرز المسؤولين عن تصعيد الحرب في فيتنام , جاء فيه : " أن تلك الحرب كانت غلطة " .

فيما اكد المفكر الأمريكي ومستشار القوات الأمريكية والعضو في مجلس السياسات الدفاعية في البنتاغون "روبرت كابلان " في كتابه " انتقام الجغرافيا : ما الذي تخبرنا به الخرائط عن الصراعات المقبلة وعن الحرب ضد المصير " الصادر في عام 2015م بالقول : ( لم يحدث شيء كارثي كهذا في أعقاب مغامرة أمريكا في العراق . فمكانتنا العسكرية والاقتصادية في جميع أنحاء العالم , وخاصة في شرق آسيا تتسم بالقوة ولا تُظهر أي علامات على الخندقة فضلا عن التراجع . لقد فقدنا أقل من 5000 جندي , كما أصيب 32000 آخرون بجروح خطيرة , وهو ثمنا باهظ ).

خطر الجنوب
في مؤتمر عقد في واشنطن في يونيو 2009م , وبرعاية من " مركز الأمن الأمريكي الجديد " وخلال احدى حلقات النقاش تساءل " أندور باسيفيتش " وهو أستاذ جامعي في جامعة بوسطن : ما الذي حققناه في الشرق الأوسط بكل تدخلاتنا منذ ثمانينات القرن العشرين ؟ لماذا لا نُصلح المكسيك بدلا من ذلك ؟ كم كنا سنزدهر لو وضعنا كل هذه الأموال والخبرات والابتكارات التي ذهبت إلى العراق وأفغانستان في المكسيك ؟! .

في حين أصدر المؤرخ وعالم السياسة الأمريكية " صامويل هنتجتون " كتابا في عام 2004م , تحت عنوان " من نحن ؟ who are we " والذي مازال يثير جدلا واسعا في الولايات المتحدة والعالم شبيه بالجدل الذي أثاره عام 1993م , حين نشر مقالة الشهير والذي تحول عام 1996م , إلى كتاب بالعنوان نفسه عن " صدام الحضارات " .

ومثلما حذر هنتجتون في كتابه الأول من الخطر الإسلامي الذي تتعرض له الولايات المتحدة والغرب , فأنه في كتابه " من نحن ؟ " يحذر من الخطر الذي تتعرض له الهوية والثقافة الأمريكية , من القوة المتعاظمة من الأمريكيون من أصول لاتينية وخاصة المكسيكيين وحيث باتوا يشكلون أكبر أقلية في الولايات المتحدة وأصبح تعدادهم حوالي "40 مليون " نسمة وبشكل أصبح يهدد بانقسام ثقافي ولغوي في المجتمع الأمريكي .

السياسة القاتلة
لم يكن الموقع الجغرافي المتميز للبندقية في القرون الوسطي بين طرق التجارة في غرب وشرق البحر المتوسط , هو وحده ما أتاح لها بناء إمبراطورية بحرية , بل حقيقة إن البندقية كانت محمية من البر الرئيسي الإيطالي بواسطة أميال من المياه , ومحمية من الغزو من جهة البحر بواسطة حواجز رميلة طويلة . ومن بين أسباب تراجع البندقية اعتبارا من القرن الخامس الميلادي في أواخر القرون الوسطي , كان قرارها أن تصبح قوة في البر الرئيسي لإيطاليا .
ومن خلال خوض الحروب مرارا وتكرارا ضد كل من : " فيرونا , وبادواء , وفلورنسا , وميلانو , واتحاد كامبراي " , لم تعد البندقية بعيدة عن السياسة القاتلة لتوازن القوى على البر , وكان لهذا أثر سلبي في قدرتها على نشر القوة البحرية . فلا بد لمثال ومصير البندقية أن يسبب قلقا لدى صناع السياسة الأمريكية إذا رغبت الولايات المتحدة الأمريكية في اعتياد التدخلات العسكرية البرية في الشرق الأوسط الكبير . لكن إذا تمكنت أمريكا من أن تحصر نفسها من الآن فصاعدا باعتبارها قوة جوية وبحرية , فسيمكنها بسهولة أن تتجنب مصير البندقية , فإن ديمومة الحروب الصغيرة هي ما يمكنها من تحطيمنا .

المراحل الثلاث
يعتبر انحدار وسقوط روما المثال الأكبر للمهتمين بالشؤون السياسية والعسكرية للإمبراطوريات والدول العظمي , ففي عام 1976م , وصف ذلك السقوط بالتفصيل " إدوارد لوتواك " في كتابه " الاستراتيجية الكبرى للإمبراطورية الرومانية : من القرن الأول إلى الثالث للميلاد " . تتمثل طريقة لوتواك بدلا من الحديث عن الانحدار بصورة عامة , في مناقشته من حيث استراتيجية روما الكبرى . فقد حدد ثلاث مراحل زمنية للإستراتيجية الرومانية الكبرى :

الأولي : النظام اليوليوسي - الكلوديوسي " اقتصاد القوة "
وتسمى ايضا " منظومة الإمبراطورية الجمهورية " , والتي كانت فيها الدول العميلة التي تحيط بالقلب الإيطالي للإمبراطورية معجبة بشمولية القوة الرومانية بما يكفي لتنفيذ رغبات الإمبراطورية , من دون الحاجة إلى جيوش محتلة . وفي هذه المرحلة كانت اليبلوماسية وليس القومة العسكرية مكونا نشطا من " الإكراه الروماني " , برغم تمركز تشكيلات ساحقة من القوات الرومانية ضمن دائرة هائلة حول روما .

ولأنه لم تكن هناك حاجة إلى قيام هذه القوات باحتلال الدول العميلة أو للدفاع عن أراضيها , فقد كانت تلك القوات متنقلة بطبيعتها ويمكن إعادة توزيعها بسهولة . فقد كانت قوة روما في أوجها وتدار على أساس " اقتصاد القوة " . فقد كانت القدرة على التدخل السريع متاحة بسهولة لمواجهة أي طوارئ عسكرية , وكان جميع من يعيشون في عالم البحر المتوسط على علم بتلك القوة ويخشون روما .
وهذه المرحلة تشبه حالة أمريكا في عهد الرئيس الأمريكي " رونالد ريغان 1981- 1989م " مع التزايد الهائل في القوة العسكرية التي كان وقتها وزير الدفاع الأمريكي " كاسبار واينبرغر " عاقد العزم على عدم استخدامها , وذلك لتعزيز سمعة القوة من دون الحاجة إلى خوض مغامرات محفوفة بالمخاطر .

الثانية : النظام الأنطوني " أقلمة الإمبراطورية "
هذه المرحلة او النظام الذي امتد خلال الفترة من منتصف القرن الأول إلى منتصف القرن الثالث للميلاد , فيعكس ما يسميه " لوتواك " ب" أقلمة الإمبراطورية " حيث شعرت روما بالحاجة إلى نشر قواتها العسكرية في كل مكان , وفي الدول العميلة نفسها , من أجل ضمان ولائها , وبالتالي فقد ضاع مبدأ اقتصاد القوة . ومع ذلك كانت الإمبراطورية مزدهرة , وكان هناك " ترويم " طوعي واسع النطاق بين القبائل البربرية ما أدى إلى القضاء على ما تبقى من آثار السخط القومي ولو إلى حين .لكن هذا الترويم للإمبراطورية الرومانية أدي بمرور الوقت إلى بناء وحدة بين القبائل المختلفة , مما قاد إلى تضافر جهودها في قضيتها المشتركة ضد روما لأنها كانت قد توحدت ضمن ثقافة لا تنتمي لروما . وقابل الترويم للإبمراطورية الرومانية ما قادته امريكا تحت شعار " العولمة " او بالأصح أمركة العالم والتي قادت رد فعل الدول والشعوب الأخرى على تحدي الهيمنة الأمريكية .

الثالثة : الدفاع في العمق
قاد النظام الثاني وتحدي الترويم للإمبراطورية الرومانية - وهي عملية تشير إلى انتشار الثقافة والعادات الرومانية , وفرض الجوانب الحضارية كاللغة الرومانية وانظمة الحكم والقانون الروماني وغيرها في المناطق التي خضعت لها - لتشكيل النظام الثالث للإستراتيجية الكبرى لروما وهو ما أسماه الإمبراطور الروماني " دقلديانوس 284- 305م " , ب" الدفاع في العمق " . حيث تجمعت الشعوب الحدودية في اتحادات رسمية قادرة على تحدى روما , وهكذا كانت روما في موقف دفاعي في كل مكان , مع تواصل انتشار حالات الطوارئ باستمرار وهنا فقدت القدرة على التدخل السريع التي احتفظت بها حتي النظام الثاني . ومع وصل فيالقها إلى نقطة الانهيار وتنافص عدد الشعوب التي تخشي روما شيئا فشيئا .

سقوط روما
إن طول بقاء روما نفسه قد أثبت نجاح استراتيجيتها الكبرى , ومع ذلك كان انحدارها وسقوطها الصاخب في أوروبا الغربية في نهاية المطاف في عام 476م , بسبب فشلها في التكيف مع تشكيل تجمعات وطنية جديدة في شمالها , والتي وفرت الخطوط العريضة لظهور الدول الأوروبية الحديثة .وبسبب هذه التشكيلات ومع الصراعات الداخلية على السلطة في روما والتدهور الاقتصادي والانقسامات وضعف القيادة وإلى جانب الفساد السياسي والإداري , وانهاك جيوشها في حروب عديدة ومستمرة على جبهات متعددة أرهقت الجيش
الروماني واستنزفت الموارد المالية والبشرية للإمبراطورية . فقد تمثل الفشل الحقيقي لروما في المرحلة النهائية من استراتيجيتها الكبرى " الدفاع في العمق " , في إنها لم توفر آلية للتراجع المتناسق , حتي في الوقت الذي فسدت فيه من الداخل . لتسقط روما بعد هجمات متكررة من قبائل الشمال البربرية مثل القوط والفاندال والهون والهرول . لتسقط الإمبراطورية الرومانية الغربية رسميا في عام 476م , علىيد قبائل الهرول تحت راية قائدهم " اودواكر " بعد حكم دام 1229 عاما , امتد من عام 753 قبل الميلاد حتي عام 476 م . ومن المفارقات أن أول من أسس روما كان رومولوس الأول وآخر ملوكها هو رومولوس الثاني .

الحالة الأمريكية
إن الحالة الأمريكية مع مطلع القرن الواحد والعشرين تشابه النظام الثالث للاستراتيجية الرومانية " الدفاع في العمق " , حيث يصفها كابلان بالقول : ( نحن عالقون في منطقة مألوفة بشكل مخيف , فمثلما عملت القوة الرومانية على تحقيق الاستقرار على سواحل البحر المتوسط , فإن القوات البحرية والأمريكية تجوب المشاعات العالمية لمصلحة الجميع ..... في حين أن ما انكشف على مدى العقد الماضي كان الإجهاد المفرط لكل من الجيش الأمريكي ومشاة البحرية المشغولين - بحسب زعمه – بمحاولة إخماد حركات التمرد في أقاصي الأرض ) .

ويحذر كابلان من الوضع التي وصلت إليه أمريكا من الانحدار للمستوى الثالث الروماني , وانه ينبغي عليها : ( على أمريكا أن تفكر في ثمة استراتيجية كبرى تسعى إلى استعادة مكانتها من شيء يُشبه نظام روما الثالث إلى ذلك الثاني أو إلى الأول .

وفي حين أن أمريكا ليس لديها دول عميلة , فلديها حلفاء وأصدقاء يفكرون بالعقلية نفسها , والتي تحتاج إلى إبهارهم من أجل جعلهم أكثر فعالية في التحرك نيابة عنها . تستطيع أمريكا أن تفعل ذلك بأفضل صورة من خلال اعتماد ديبلوماسية نشطة وبناء احتياطي من القوات , والتي لا تستخدم إلا قليلا , وذلك لاستعادة قدرتها على التدخل السريع , من ذلك النوع التي تمتعت به روما في ظل النظام اليوليوسي - الكلوديوسي ) .
وهذا ما نراه اليوم من خلال سياسة و ديبلوماسية وحرب الرئيس الأمريكي الحالي " دونالد ترامب " الهروب من الانحدار والسقوط لأمريكا ومحاولة تطبيق النظام الأول لروما " قوة الاقتصاد والقوة العسكرية " لاستعادة عظمة امريكا ومجدها , كتزويد حلفاءه سواء العدو الصهيوني ومجازرهم في عزة , أو اوكرانيا بالمال والسلاح والدعم اللوجستي لتحارب نيابة عن امريكا ومصالحها , بل ايضا التدخل السريع والمباشر من القوات الامريكية كما حدث في عدوان أمريكا على اليمن وايران , وفي نفس الوقت يستخدم الديبلوماسية الماكرة ضد خصومه كل ذلك كمحاولة للخروج من الانحدار والسقوط .

زوال الهيمنة
إن نهاية روما وسقوطها كحالة متوقعة وبديهية للأسباب داخلية وخارجية , لكن على عكس التوقعات البديهية يمكن لدولة أو إمبراطورية أن تطيل بالفعل من أمد موقفها القوي , من خلال التخطيط لمثل هذا الخروج البارع من هذا النوع من الهيمنة.

وليس هناك شيء أفضل بالنسبة إلى أمريكا من تهيئة العالم لاحتمال زوالها , فبهذه الطريقة ستكافح من أجل هدف ما , وليس لمجرد الاستمتاع بالقوة لذاتها . ويتساءل " كابلان " : لكن كيف يمكن أن تُعد أمريكا نفسها لخروج طويل ومتناغم من التاريخ بوصفها قوة مهيمنة ؟ , ليرد فبوسعها - أي أمريكا - تجنب التدخلات المكلفة , واستخدام الديبلوماسية لتدمير الأعداء , وتوظيف أصولها الاستخباراتية في استخدامات استراتيجية وما إلى ذلك . وبوسعها أيضا عدم التقويض من جهة الجنوب بالطريقة التي تعرضت لها روما من الشمال .

 

 

 

مقالات مشابهة

  • أخبار التكنولوجيا | OpenAI تطلق رسميا GPT-5 لكافة المستخدمين.. إل جي تكشف عن أسرع شاشة OLED في العالم
  • الذكاء الاصطناعي ييثير قلق العالم .. ما سبب فرض بعض الدول قيودا على استخدامه؟
  • أمريكا ... ما بين مصير البندقية وسقوط روما !
  • أحمد زايد: الذكاء الاصطناعي أصبح له تأثير على الحياة الاجتماعية
  • بعد زيارة الرئيس الفيتنامي.. مصطفى بكري: عبد الناصر أصبح مجالا للإبهار لزعماء العالم
  • الحسيني: مصر الدولة الأولى في العالم التي تمتلك دستور دواء
  • القوة البحرية العراقية تحتجز ناقلة نفط ليبيرية قبالة سواحل البصرة
  • الولايات المتحدة وكندا والمكسيك تؤكد التزامها بضمان أمن كأس العالم 2026
  • رسالة عاجلة إلى حكام العالم الإسلامي والعربي حول النتائج الهزيلة التي خرج بها منظمو مؤتمر نيويورك بشأن فلسطين