إن أول ما يفعله الخدّاع هو تغيير الاسم والرسم، شأنه شأن الذئب في الحكاية الشهيرة، التي يتنكر فيها بزيّ خروف وديع ليفترس الخراف السبعة، كذلك فعل الشيطان بأبينا آدم وأمنا حواء فقال: إني لكما من الناصحين، وكان من الخادعين، وكذلك فعل نابليون بونابرت، عندما احتل مصر باسم "علي بونابرت"، فادّعى الإسلام. لم نجد نحن، أو حتى الروس، من الاشتراكية سوى اشتراكية الفقر والظلم، ومن الديمقراطية الشعبية (التي لم نعرف غيرها) سوى الجمهورية الوراثية، ورعب الذهاب إلى صندوق الاقتراع، الذي لولا الحياء وفن الخداع لرسموا عليه جمجمة وعظمتين!
فماذا وجدنا من التطبيع أيها السادة؟
ماذا نفعل وإسرائيل لا ترتوي من النصر، كلما انتصرت ازدادت جوعا "للنصر المطلق"، وهي لا تشبع من التطبيع أيضا، "فنحن في مرحلة "تطبيع التطبيع"، وهي عبارة تذكّر بقول: "مَرَقَ، مَرَقَ، مرق الأرنب" في الحكاية الشهيرة.
وقد وعدت أمريكا إسرائيل بجائزة التطبيع مع السعودية إن ارعوت وتمهلت، وعدتها بجائزة تطبيع الإسراء مع المعراج، لكن إسرائيل تريد أكثر من أن تكون طبيعية، إنها تريد أن تكون "فوق طبيعية"؛ أن تكون هي الملكة، والعرب رعايا. "التضبيع" هو غايتها. جاء في لسان العرب:
"وضَبَعَ البعيرُ البعيرَ إِذا أَخذ بضبْعيه فصَرَعَه. والضَّبْعُ والضِّباعُ: رفعُ اليدين في الدعاء. وضَبَعَ القومُ للصُّلْحِ ضَبْعا: مالُوا إِليه وأَرادوه يقال: ضابَعْناهم بالسُّيوفِ أَي مَدَدْنا أَيْدِيَنا إِليهم بالسُّيوفِ ومَدُّوها إِلينا، والضَّبْعُ: الجَوْرُ. وفلان يَضْبَعُ أَي يجور. والضُّبْعُ: فِناءُ الإِنسان".
لنذكر أن "الطبع" من ألفاظ الأضداد في العربية: والأضداد ألفاظ كثيرة، ولها مصنفات، مثل:
- مولى: يطلق على السيد والعبد.
- "البيع": تعني "الشراء" و"البيع".
- "الظن": يمكن أن يعني "اليقين" أو "الشك".
- "الأحمر": يُطلق على الأبيض والأحمر.
أما الطبع، فيطلق على الإغلاق والمنع: "طبع الله على قلبه" (أي ختمه). ويطلق أيضا على الفتح والتهيئة: "طبع الله فلانا على الكرم" (أي جبله عليه). أما حكمة هذه اللغة العظيمة من تضاد المعنى في الطبع، فهو أن الطباع تتغير، والمرء بأصغريه؛ لسانه وقلبه. والمرء قد يملك لسانه، لكنه لا يملك قلبه. القلوب بين أصابع الرحمن.
لِنأخذ مثالا: تطبيع العرب على طبائع جديدة ليست من أخلاقهم في لغة الأخبار، مثل مصطلح "المساعدات"، الذي بات يعني المساعدة على الموت، فطبعنا بها أصحاب المساعدات الجوية على مائة شهيد كل يوم!
ولنعد القهقرى إلى تعريف التطبيع السياسي: وهو يعني أن ترى طبيعيا من قتل أمّك وأبيك وصاحبتك وأخيك.
وقد جربنا ألوانا من التطبيع السياسي:
طبّعنا مع الأسد ونظامه البعثي نحو نصف قرن، وجرى تطبيع الأتراك مع أتاتورك (يزعمون أن العثمانيين انتصروا في "جناق قلعة")، وهو تطبيع لم يُرَ مثله في الأرض: أن تفيق أمة فتجد نفسها أميّة ومجبرة على تغيير أزيائها وكسوتها.
وطبّعنا مع "وضاح الكنانة" الوسيم (لِمَ لا يتلثم حتى يحفظ الأمة من الموت عشقا في جماله مثله مثل "وضاح اليمن")، عبد الفتاح السيسي، وهو من الزعماء الأضداد. وأكثر زعمائنا من زعماء الأضداد، إنهم زعماؤنا في الظاهر وأعداؤنا في الباطن.
الصين تصف قرنها الماضي بـ"قرن المهانة"، وكان قرن "الثورة الثقافية" عندما سعى ماو تسي تونغ إلى تطبيع شعبه طباعة جديدة منقحة ومزيدة، فقتل منه نحو 45 مليونا باسم الثورة، وأباد العصافير، وحيوانات أخرى معها، فعاد إلى ليبرالية مقنّعة بقناع الاشتراكية.
عشنا قرنا من التطبيع القاسي الصارم، ثم عاد بعضنا إلى فطرته وطبيعته. فماذا يكون قرن العرب الماضي مقارنة بقرن المهانة الصيني؟
التطبيع: يعني التصنيع
وجاء نابليون -على نابليون- ومعه مطبعة، ليصنعنا ويُهيئنا.
والمطبعة، مثل كل شيء، لها وجهان: خير وشر؛ تُطبع بها الكتب الحسنة والكتب السيئة، كتب الرحمن وكتب الشيطان.
وقد أخفق التطبيع مع الكيان الإسرائيلي المزروع في صدر الوطن العربي، قلبا جديدا. عادة، يقتضي زرع جارحة جديدة في الجسم أن تكون موافقة للجسم المزروع فيه: في الأنسجة، وزمرة الدم، وشرائط قانونية وشرعية وأخلاقية. لكن الذي وقع هو أن إسرائيل وهي من "الجوارح"، بدّلت أجهزة الجسم كلها حتى يتوافق معها، وصنعت الحكومات العربية لتوافقها في زمرة الدم والأنسجة.
وبرهان ذلك:
أن الأعضاء العربية لا تجرؤ -أو لا تريد أن تنجد أهل غزة بكوب ماء، وهي مشاركة في حصارها، لا أحد يجرؤ على الاقتراب من غزة.
"مقفول من عندهم، مش من عندنا"
غزة باتت جزيرة مثل برمودا، لا يجرؤ أحد على الاقتراب منها والتصوير، كأنّ إسرائيل ظاهرة "طبيعية" مثل البراكين والزلازل والأنواء، تقتل فلا تلام!
أما التصوير العربي فمسموح، لأنه لا يُعترف به في الغرب، أو هو تصوير للتشفي عندهم والشماتة بنا. شهادة أمة كاملة لا تعدل شهادة صحافي غربي موظف في وكالة إعلام غربية.
قد تكون الديانات الإبراهيمية هي أقصى ما تريده إسرائيل من التطبيع والتصنيع: شرق أوسط جديد جدا. شرق لكنه غرب، وهو تغيير في الاسم. الاسم هو: "الوطن العربي"، أو "الديار العربية"، أو "ديار المسلمين"، لكنه الشرق الأوسط عندهم، أما المطلوب: فهو تطبيع الوجدان، أي تصنيعه. ربما إعادة "ضبط المصنع"، لمئة سنة قادمة، كما يطمح قادة إسرائيل.
بالأمس، قصفت "إسرائيل" دمشق، فلم تعترض دولة عربية أو تندد. لماذا؟ الجواب لأنها طبعت على الخوف من أن تُستأصل من الجسم، فيكفّ القلب (الذي يعشق كل ذليل) عن ضخ الدماء إليها.
إن التطبيع الذي وقع: قلب زرعت له أعضاء، وزرع له جسم كامل، تطبّعنا مع القصف اليومي، ومع أعداد القتلى، ومع الجوع، ومع التموين بالطائرات، كله طبيعي. كأنها مثلث برمودا، أو بركان، أو جزيرة موبوءة معدية بأمراض فتاكة.
نتطبّع كل يوم على أمور صغيرة نظنها تافهة، مثل:
مطرب يغني على برج عالٍ، والجماهير تبكي وتُمدّ أيديها إليه ضارعة، وتقاتل، وتذرف الدموع وتتوسل في سبيل صورة تذكارية معه، يتباهى بها صاحب الصورة أمام الأصحاب والجيران.
انتشرت بالأمس صورة طفلة في السابعة تبكي في حفلة مطرب سوري بلوعة أكبر من لوعة الخنساء على أخيها صخر، وحسرة أعظم من حسرة تميم على أخيه مالك بن نويرة. هذا تطبيع، كان فرعون يحب التطبيع على طبعه، فيقول لا أريكم إلا ما أرى، وغزة تأبى التطبيع فحالها ما ترون.
ألا ترون أن الذئب يقول: أنا ذئب، لكننا نقول له: يامه القمر على الباب!
x.com/OmarImaromar
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه التطبيع إسرائيل العرب اللغة غزة إسرائيل غزة تطبيع عرب لغة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة رياضة صحافة مقالات رياضة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة من التطبیع أن تکون
إقرأ أيضاً:
اجتماع غير عادي للجامعة العربية.. إدانة عربية وفلسطينية لخطط إسرائيل لفرض السيطرة على غزة
دان مجلس جامعة الدول العربية، الأحد، القرارات والخطط الإسرائيلية لفرض السيطرة العسكرية الكاملة على قطاع غزة وتهجير الشعب الفلسطيني. اعلان
وبعد اجتماع طارئ لمجلس الجامعة على مستوى المندوبين الدائمين عقد في القاهرة الأحد بناءً على طلب من دولة فلسطين لبحث آليات التحرك العربي ضد خطة إسرائيل السيطرة الكاملة قطاع غزة، عبر المجلس في قراره عن إدانته "لجرائم العدوان والإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ترتكبها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة، بما فيها مدينة القدس".
تجديد دعم جهود مصر وقطر
أكد المجلس أن "تلك الجرائم تشكل خرقا للقانون الدولي والمواثيق الدولية وعدوانا سافرا على جميع الدول العربية وتهديدا للأمن والسلام والاستقرار بالمنطقة"، مجدداً دعمه للجهود المستمرة للوساطة المشتركة المصرية القطرية في سبيل "وقف إطلاق النار والعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني".
كما جدد الدعوة "لحماية الشعب الفلسطيني من الإبادة والتهجير والتطهير العرقي، ومنع تصفية قضيته المركزية، بموجب قرارات الشرعية الدولية والقانون الدولي والاتفاقيات الدولية والإقليمية ذات الصلة".
وأكد ضرورة تنفيذ قرارات القمم العربية والقمم العربية والإسلامية المشتركة بـ "كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، وفرض إدخال قوافل إغاثية إنسانية كافية إلى كامل قطاع غزة، برا وبحرا وجوا، بالتعاون والتنسيق مع الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة بما فيها الأونروا".
كما دانت الجامعة العربية "استخدام إسرائيل للتجويع، كسلاح إبادة جماعية، والذي قضى على 200 مدني فلسطيني جوعا، نصفهم من الأطفال"، فضلا عن "مصائد الموت التي نصبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في إطار عمل ما يسمى بمؤسسة غزة الإنسانية"، والتأكيد على "مسؤولية إسرائيل التامة والكاملة عن حصارها المفروض على قطاع غزة وتحميلها المسؤولية الناجمة عن تبعات ذلك".
Related الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية يؤكدان دعمهما لحل الدولتين ويحثان حماس على نزع سلاحهاالجامعة العربية "تتضامن" مع فلسطين ولازاريني يدعو الأعضاء للضغط على إسرائيل لرفع الحظر عن الأونرواالجامعة العربية "تضطلع بمسؤولياتها" وتخطط لتجميد مشاركة إسرائيل في الجمعية العامة للأمم المتحدةوأشار إلى "ضرورة تمكين دولة فلسطين من تولى مسؤوليات الحكم كاملة في قطاع غزة، كما في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية، بدعم عربي ودولي، وبما يضمن وحدة النظام والقانون والسلاح، في إطار البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني".
ودعا المجلس "العضوين العربيين في مجلس الأمن ( الجزائر والصومال ) والمجموعة العربية في نيويورك إلى تقديم مشروع قرار في مجلس الأمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لإلزام إسرائيل القوة القائمة بالاحتلال، بوقف إطلاق النار وإدخال المساعدات الإغاثية إلى كامل قطاع غزة، وإنهاء الاحتلال".
كما طالب جميع الدول بتطبيق تدابير قانونية وإدارية تشمل، منع تصدير أو نقل أو عبور الأسلحة والذخائر والمواد العسكرية لإسرائيل، وإجراء مراجعة للعلاقات الاقتصادية معها.
إدانة فلسطينية لخطوات إسرائيل
من جانبه، أكد مندوب فلسطين الدائم لدى الجامعة السفير مهند العكلوك أن الاجتماع يُعقد في "لحظة فارقة" أمام أخطر تصعيد تشهده القضية الفلسطينية منذ عقود، متهماً إسرائيل بارتكاب "إبادة جماعية وفصل عنصري" ضد أكثر من 2.3 مليون فلسطيني في غزة، عبر "استخدام التجويع سلاحاً"، وتحويل مراكز توزيع المساعدات إلى "مصائد للموت".
وقال العكلوك إنّ "الاحتلال يسعى إلى تفريغ الأرض من سكانها الأصليين" في غزة والضفة الغربية، مشيراً إلى "عجز المجتمع الدولي عن وقف الجرائم رغم وضوح الانتهاكات"، وداعياً إلى تحرك عربي ودولي لملاحقة المسؤولين الإسرائيليين أمام المحاكم الدولية.
ويعد هذا الاجتماع الطارئ امتداداً لسلسلة تحركات عربية منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023 والتي شهدت انعقاد قمتين عربيتين إسلاميتين، وعدة دورات غير عادية لمجلس الجامعة، هدفت جميعها إلى تنسيق المواقف العربية، والضغط لوقف الحرب وضمان تدفق المساعدات الإنسانية.
ويتزامن هذا التحرك مع استمرار القصف الإسرائيلي على مختلف مناطق القطاع، بما فيها المناطق المعلنة "آمنة"، وسط تحذيرات أممية من تفاقم المجاعة وانتشار الأوبئة، وتدمير واسع للبنية التحتية. وتحذر جهات فلسطينية ودولية من أن تنفيذ الخطة الإسرائيلية سيؤدي إلى نزوح جماعي جديد، مع احتمال امتداد موجات التهجير إلى خارج القطاع.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك هذا المقال محادثة