ترجمة: أحمد شافعي

في غزة بدأ الأطفال والصحفيون وعمال الإغاثة الذين شهدوا مقتل أندادهم وزملائهم أمام أعينهم يبتهجون لاحتمال أن يكون هذا الكابوس المعيش على وشك الانتهاء. وكذلك أسر الأسرى الإسرائيليين الذين وقر في نفوسهم أنهم لن يروا أحباءهم مرة أخرى. وليس بوسعنا إلا أن نشاركهم الارتياح. ومع ذلك فإن أسباب الحذر من مستقبل وقف إطلاق النار في المدى البعيد لا حصر لها.

لقد عشنا هذا من قبل. ولا يزال يسيطر عليَّ فيديو من شهر يناير يظهر فيه صحفي الجزيرة أنس الشريف البالغ من العمر ثمانية وعشرين عاما وهو يخلع الواقي الصحفي والخوذة على الهواء قبل أن يحمله حشد مبتهج على الأعناق وهو يعلن خبر وقف إطلاق النار. لقد أدى ذلك الاتفاق إلى تبادل ناجح لأسرى إسرائيليين وفلسطينيين، وأتى لغزة بشهرين من الانفراج النسبي قبل أن تمزق إسرائيل الاتفاق بإطلاقها أكثر من مائة غارة جوية على الأرض المحاصرة في ليلة واحدة، فتقتل أكثر من أربعمائة فلسطيني. وبعد خمسة أشهر قصفت إسرائيل خيمة صحفية خارج مستشفى مدينة غزة، فقتلت شريف وخمسة صحفيين.

صفقة سيئة خير من عدمها (وفي ظل وجود دونالد ترامب وتوني بلير على رأس مستقبل غزة فهذه يقينا صفقة سيئة)، ولكن المثير للقلق بصفة خاصة هو تغير الخطاب الرسمي الموحي بأننا قد لا نصل أصلا إلى ذلك المدى. فبحسب إعلان ترامب ليلة الأربعاء؛ يكون ما اتفقت عليه الأطراف في واقع الأمر «المرحلة الأولى»، وهذا مصطلح لا يرد ذكره مطلقا في نص الاتفاق نفسه، وهو يذكرنا باتفاق يناير الذي صاغته إسرائيل لتيسير استئنافها للحرب بعد إطلاق سراح بضع عشرات من الأسرى.

لم يكن ذلك التلاعب باللغة اعتباطيا. ومثلما قال الصحفي آميت سيجال ـ الذي يعد من أبواق بنيامين نتنياهو في الإعلام الإسرائيلي ـ صباح يوم الخميس: «لا وجود لمرحلة ثانية. وهذا واضح للجميع، أليس كذلك؟ المرحلة الثانية قد تحدث يوما ما، لكنها غير مرتبطة بما تم التوقيع عليه. الاتفاقية الموقعة الآن هي اتفاقية إطلاق سراح الأسرى. ولا تنطوي على أي شيء يتعلق بالمستقبل».

فهل ينبغي أن نفهم من هذا أن نتنياهو يخطط فعليا لاستئناف الحرب بعد إطلاق سراح بقية الأسرى مثلما فعل في المرة السابقة؟ هذه يقينا قراءة محتملة، لكن المراقبين الخبراء برئيس الوزراء الإسرائيلي سيعلمون أن ما أبقاه على القمة طوال سنين كثيرة هو قدرته على اللعب بكرات عدة في وقت واحد، والتنقل بينها لتحديد أيها أنفع لأجندته الشخصية والسياسية في أي لحظة معينة. وفي الوقت الراهن يبدو أن حساباته قد تغيرت.

لكي نفهم نتنياهو علينا أن نفهم ما الذي يؤثر على اتخاذه للقرار. العامل الأساسي الأول هو محاكمته المستمرة أمام القضاء الإسرائيلي بعد اتهامه في عام 2019 بالرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة بما يهدد بفترة سجن طويلة. منذ ذلك الحين بات نتنياهو أشد تصميما من ذي قبل على الاحتفاظ بمنصبه رئيسا للوزراء من أجل أن يطيل أمد المحاكمة، ويدرأ عن نفسه التهم. وهذا هو ما أفضى به إلى إلقاء ثقله السياسي على الأصوليين المشيحانيين قبل انتخابات 2022 من أجل ضمان رجوعه إلى رئاسة الوزراء، وكان ذلك دافعا أساسيا لحملة حكومته الصليبية على استقلال النظام القضائي في إسرائيل.

العامل الثاني هو سبب دخوله السياسة في المقام الأول: أن يمنع أي تقدم ذي شأن نحو إقامة دولة فلسطينية. فمن قضائه على البقية الباقية من عملية سلام أوسلو لدى توليه المنصب للمرة الأولى في تسعينيات القرن الماضي إلى تظاهره بالولاء لمبادرات السلام الأمريكية التالية مع تشريعه الضم التدريجي للضفة الغربية المحتلة جعل نتنياهو مهمة حياته هي أن يضمن عدم قيام دولة فلسطينية أبدا في ما بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.

منذ السابع من أكتوبر انصهرت هذه الدوافع فبات لها أثر مدمر؛ فبعد أدمى هجمة على الإسرائيليين في تاريخهم تهاوت شعبية نتنياهو إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق. فأفضى به تشبثه اليائس بالسلطة إلى الانغماس في حرب إبادة بلا أهداف واضحة على أمل أن تحافظ على تماسك حكومته لوقت كاف لاستعادة شيء من الشبه بمقامه السابق. فكان معنى هذا تخريب مفاوضات وقف إطلاق النار عند كل منعطف تقريبا، وإلغاء الاتفاق الذي وقعه في يناير الماضي فور أن يصبح ذلك مناسبا له.

وبريادته طويلا سياسة «إدارة الصراع» بهدف الحفاظ على إخضاع الفلسطينيين؛ سرعان ما بدأ نتنياهو اللعب بكرة أخرى. فبإغراء احتمال إخراج مليوني فلسطيني من المعادلة الديموغرافية مرة واحدة، وبتشجيع من افتتان ترامب المفاجئ بـ«ريفيرا غزة» تبنى رئيس الوزراء الإسرائيلي أجندة الطرد الخاصة باليمين المتطرف. وسلك مسارات مختلفة في محاولة لتطهير المنطقة عرقيا من الفلسطينيين، لكنه في نهاية المطاف اصطدم بحدود مصرية صارمة وبعالم غير مهتم باستيعاب مئات آلاف اللاجئين الجياع.

قرر نتنياهو تغيير المسار مرة أخرى، ووقع اتفاقية وقف إطلاق نار جديدة؛ فقد فشلت جهوده لإفراغ غزة من الفلسطينيين. وباتت إسرائيل تتحول إلى دولة منبوذة في العالم مع كل الأعباء الاقتصادية والثقافية المترتبة على ذلك. ولم ترتفع شعبيته بأي شكل برغم منجزات الجيش التي تباهى بها الشهر الماضي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي الأفق انتخابات قادمة.

يبدو الآن أنه يعتقد أن ربحه من إعلان نصر شامل في غزة لإطلاق حملة إعادة انتخابه سيكون أكبر من ربحه من مواصلة الحرب؛ ففي حالة فقدان ائتلافه لليمين المشيحاني الذي يهدد زعماؤه بالانسحاب من الحكومة ردًا على وقف إطلاق النار، وليكن؛ سوف يتواصل مع الجانب الآخر باسم «المسؤولية الوطنية»، ويجد شركاء قدامى جددا.

وما من ضرر على الحملة في جلسات التصوير مع الأسرى الإسرائيليين العائدين وترامب المنتصر الذي ينتظر أن يزور إسرائيل في الأيام القادمة، ولا الخطوات إلى مزيد من اتفاقيات التطبيع التي قد تتيسر باتفاق وقف إطلاق النار، وقد تكون مع إندونيسيا والمملكة العربية السعودية وربما سوريا. ونتيجة لحساباته الخاصة والمزيد من الضغط القليل الذي لم يعهده من البيت الأبيض؛ يميل نتنياهو إلى صفقة مشيدا بمزاياها ومداعبا نرجسية ترامب. وآخر أمثلة ذلك صورة مولدة بالذكاء الاصطناعي نشرها عبر موقع إكس، ويظهر فيها وهو يضع على عنق ترامب «جائزة نوبل عملاقة للسلام» أمام حشد من المعجبين.

غير أنه بفصل تنفيذ وقف إطلاق النار إلى مراحل فيها يمنح رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه مجددا خيار تخريب الاتفاق في حال تغييره رأيه. ومن المؤكد أنه ليست لديه أي نية في تمهيد «طريق حقيقي إلى حق تقرير مصير ودولة للفلسطينيين» بحسب نص الاتفاقية. وبقية المجتمع الدولي التي تجاهلت أو دعمت إسرائيل لسنتين وهي تدمر غزة لا يمكنها ببساطة السماح لنتنياهو بتخريب اتفاق آخر، ويجب أن تتدخل لضمان مقابلة أي انحراف ببأس دبلوماسي.

وليس بوسع المجتمع الدولي أن يتراخى؛ إذ تتحول إسرائيل حتما إلى الضفة الغربية حيث أرغمت عشرات آلاف الفلسطينيين على النزوح خلال العامين الماضيين. فليس للاعتراف بدولة فلسطينية من معنى طالما ظل مسموحا لإسرائيل أن تواصل التهام الأرض الفلسطينية آمنة من أي عقاب. ولن تتلاشى بين عشية وضحاها حمى التدمير التي استولت على قطاع ضخم من المجتمع الإسرائيلي؛ ولذلك حذرت جماعة بيتسليم الحقوقية الإسرائيلية من أن الإبادة الجماعية قد تنتقل ببساطة إلى الضفة الغربية.

وحتى في حال صمود وقف إطلاق النار لا يمكن الرجوع إلى وهم «الوضع المعهود» السابق للسابع من أكتوبر؛ فالجرائم ضد الإنسانية تستوجب الحساب والعدل، وبخاصة لمن قضوا نحبهم قبل أن يروا نهايتها. لا بد من إعادة بناء غزة، ولا بد من تحرير الفلسطينيين من قبضة إسرائيل الخانقة.

بين ريف كبير المحررين في مجلة 972+الترجمة عن الجارديان

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: وقف إطلاق النار

إقرأ أيضاً:

إسرائيل: بدء عملية إطلاق سراح الأسرى صباح الاثنين

القدس المحتلة - الوكالات

أعلن منسق شؤون الأسرى والمفقودين في الحكومة الإسرائيلية أن عملية إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين ستبدأ صباح الاثنين، في إطار الاتفاق المبرم مؤخرا.

وأوضح المنسق أن إعادة الأسرى المتوفين لن تتم بالكامل خلال الـ72 ساعة المحددة في الاتفاق، مشيرا إلى أن إسرائيل ستعمل بالتعاون مع قوة المهام الدولية لتحديد أماكن وجود جميع الأسرى القتلى.

وأضاف أن الجانب الإسرائيلي يتوقع من حركة حماس التعاون مع قوة المهام الدولية لضمان استعادة جثامين الأسرى المتوفين في أقرب وقت ممكن.

مقالات مشابهة

  • إسرائيل: بدء عملية إطلاق سراح الأسرى صباح الاثنين
  • غارديان: نتنياهو قبل وقف إطلاق النار لكن الحذر واجب
  • رئيس البرلمان اللبناني: بعد اتفاق غزة يجب إلزام إسرائيل بوقف إطلاق النار في لبنان
  • واشنطن تقيم مركز تنسيق في إسرائيل لمراقبة تطبيق اتفاق غزة
  • إسرائيل تعلن رسميا دخول اتفاق وقف إطلاق النار بغزة حيز التنفيذ
  • نتنياهو: ترامب أثبت مدى التزامه وصدقه تجاه إسرائيل
  • نصر عسكري وهزيمة سياسية.. نتنياهو ونهاية حرب غزة بمعايير إسرائيل
  • كوشنر وويتكوف: قرارات نتنياهو أدت إلى اتفاق وقف إطلاق النار
  • مكتب نتنياهو: الحكومة توافق على اتفاق وقف إطلاق النار في غزة