يشهد المشهد الدبلوماسي الغربي إعادة معايرة عميقة وجذرية فيما يتعلق بالصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. فلم تكن موجة الاعترافات الأولية بدولة فلسطين من قبل إسبانيا وأيرلندا والنرويج في أيار/ مايو 2024 حدثا معزولا، بل كانت الشرارة التي أطلقت سلسلة من التحركات الدبلوماسية الأوسع نطاقا. وقد وصل هذا الزخم الآن إلى قلب مجموعة السبع (G7)، حيث أبدت قوى كبرى مثل فرنسا والمملكة المتحدة وكندا عزمها على أن تحذو حذوها.



يمثل هذا التحول المنسق أهم تطور في المقاربة الغربية للصراع منذ عقود، ويأتي مدفوعا بإحباط عميق من عملية سلام وصلت إلى طريق مسدود، وبالإلحاح الذي فرضته الكارثة الإنسانية في غزة، وبتحول استراتيجي يتمثل في استخدام الاعتراف ليس كمكافأة نهائية للسلام، بل كأداة حيوية لجعله ممكنا.

انهيار الإطار القديم

لسنوات، ساد إجماع غربي، بقيادة الولايات المتحدة، على أن الاعتراف بدولة فلسطين يجب أن يكون تتويجا لاتفاق سلام ناجح يتم التوصل إليه عبر المفاوضات. لكن هذه السياسة كانت مبنية على فرضية وجود عملية سلام قابلة للحياة، إلا أنها انهارت بالكامل.

مع غياب أي مفاوضات جوهرية لأكثر من عقد من الزمن، واستمرار التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، تضاءلت فرص قيام دولة فلسطينية متصلة جغرافيا وقابلة للحياة. وقد توصل عدد متزايد من القادة الغربيين إلى قناعة بأن انتظار التوصل إلى تسوية تفاوضية لم يعد سوى تكريس لوضع راهن آخذ في التدهور، وقد أدى ذلك إلى انعطافة فكرية أساسية مفادها أنه لإنقاذ حل الدولتين، يجب أولا ترسيخ أساسه "الدولة الفلسطينية" على الصعيد السياسي.

غزة: المحفز الإنساني للتحرك

وفي حين أن الإحباط الدبلوماسي كان يتصاعد منذ سنوات، إلا أن الحرب في غزة التي اندلعت في أواخر عام 2023 كانت بمثابة العامل المحفز الحاسم. إن الحجم الهائل للخسائر في صفوف المدنيين، والدمار الواسع، وتقارير الأمم المتحدة الموثقة حول تفشي الجوع والتهديد بالمجاعة، جعلت التقاعس السياسي موقفا لا يمكن الدفاع عنه أخلاقيا أو سياسيا.

لقد حولت الأزمة الإنسانية مفهوم "الجمود" الدبلوماسي المجرد إلى حقيقة مؤلمة من المعاناة البشرية. وبالنسبة للعديد من الحكومات، فإن الاستمرار في انتظار اللحظة الدبلوماسية المثالية بينما يواجه السكان كارثة لم يعد موقفا يمكن الدفاع عنه أخلاقيا أو سياسيا، فقد وفّرت الأزمة الدافع الملحّ لاستخدام الأدوات الدبلوماسية المتاحة، وكان الاعتراف أقواها.

القوى الكبرى ترسم مسارا جديدا ومشروطا

لقد كسرت الخطوة الأولية التي اتخذتها الدول الأوروبية الأصغر المحظور الدبلوماسي، والآن، تعتمد القوى الأكثر نفوذا على هذا الزخم، وإن كان ذلك بمقاربات استراتيجية ومشروطة تعكس ثقلها العالمي.

فرنسا: بعد أن كانت تؤيد الاعتراف في التوقيت "الأنسب"، تحولت فرنسا إلى جدول زمني محدد. وفي إطار الحاجة إلى إحياء مسار السلام، أعلنت باريس عن نيتها الاعتراف رسميا بدولة فلسطين في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر 2025. وتُقدَّم هذه الخطوة كتدخل ضروري للحفاظ على إمكانية التوصل إلى اتفاق سلام مستقبلي.

المملكة المتحدة: انتهجت لندن سياسة "الاعتراف المشروط"، وهي شكل قوي من أشكال الضغط الدبلوماسي. فقد أعلنت المملكة المتحدة أنها ستنضم إلى الاعتراف بفلسطين هذا الخريف ما لم تتخذ الحكومة الإسرائيلية خطوات جوهرية لتغيير الوضع على الأرض، تشمل وقفا دائما لإطلاق النار، والسماح بوصول المساعدات الإنسانية دون عوائق، والالتزام بعملية سلام طويلة الأمد. وتستخدم هذه المقاربة وعد الاعتراف كرافعة دبلوماسية مباشرة للضغط من أجل تغيير السياسات.

كندا: يعتبر تحول كندا، الحليف التقليدي القوي لإسرائيل والولايات المتحدة، لافتا بشكل خاص. فاستجابة للضغوط الداخلية الهائلة والإجماع الدولي المتغير، أشارت أوتاوا إلى خطتها للاعتراف بفلسطين. ومع ذلك، فإن اعترافها مرتبط بشروط مفروضة على السلطة الفلسطينية، تطالبها بالتزامات تتعلق بالإصلاحات الحكومية وإجراء انتخابات، مع استبعاد أي دور لحركة حماس. وهذا يسمح لكندا بتعزيز قضية الدولة مع الحفاظ على مبادئها الأساسية المتعلقة بالديمقراطية والأمن.

انقسام مستمر

على الرغم من أهميته، فإن هذا التحول الغربي ليس محل إجماع. فلا تزال كتلة من الدول، بما في ذلك ألمانيا والنمسا، مترددة. وتتشكل مواقف هذه الدول بفعل مسؤولياتها التاريخية الفريدة وإيمانها الراسخ بأن الاعتراف يجب أن ينبع من اتفاق ثنائي بين الإسرائيليين والفلسطينيين، محذرة من أن أي خطوة أحادية الجانب قد تقوض المفاوضات المباشرة بدلا من أن تدعمها. هذا الانقسام المستمر، مع احتفاظ الولايات المتحدة أيضا بموقفها التقليدي، يسلط الضوء على التعقيدات العميقة والحسابات الاستراتيجية المتباينة داخل المعسكر الغربي.

في الختام، يمكن القول إن الحركة الغربية المتنامية نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية هي استجابة مباشرة لإطار دبلوماسي فاشل، فضلا عن الأزمة الإنسانية غير المسبوقة. هذه السياسة، التي تقودها طليعة من الدول الأوروبية وتدعمها الآن قوى من مجموعة السبع، تمثل تغييرا جوهريا في الاستراتيجية. لم يعد يُنظر إلى الاعتراف على أنه نهاية طريق السلام، بل كحجر أساس ضروري في الطريق نحوه. وفي حين أن التأثير النهائي لهذه التحركات لا يزال غير واضح، إلا أنها غيرت المشهد السياسي الدولي بشكل لا رجعة فيه، معلنة نهاية إجماع قديم وفجر عصر دبلوماسي جديد أكثر حزما.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء الغربي الفلسطيني الاعترافات دولة فلسطين الغرب اعتراف دولة مدونات قضايا وآراء مدونات قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة رياضة سياسة رياضة مقالات سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

المملكة ترحب بموقفي أستراليا ونيوزيلندا تجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية

أعربت وزارة الخارجية عن ترحيب المملكة العربية السعودية بإعلان أستراليا عزمها الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإعلان نيوزيلندا دراستها الاعتراف بالدولة الفلسطينية.

وتشيد المملكة بالإجماع الدولي الداعم لمسار تنفيذ حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود 1967م وعاصمتها القدس الشرقية.

وأكدت المملكة أن المرحلة الحالية تحتم على محبي السلام الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ودعم جهود وقف الحرب التي طال أمدها، خاصةً في ظل استمرار الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي والقانون الدولي الإنساني.

نيوزيلنداأسترالياوزارة الخارجيةأخبار السعوديةالدولة الفلسطينيةأهم الآخبارأخر أخبار السعوديةقد يعجبك أيضاًNo stories found.

مقالات مشابهة

  • وزير الأوقاف: فلسطين ستظل قضيتنا الكبرى.. وسنظل رافضين لمحاولات التهجير
  • “سي أن أن”: واشنطن معزولة بشكل متزايد بين حلفائها الرئيسيين بعد عزم أستراليا الاعتراف بدولة فلسطين
  • السفير ماجد عبد الفتاح: زيادة الاعتراف بدولة فلسطين قد يعطل عضوية إسرائيل بالأمم المتحدة
  • السفير ماجد عبد الفتاح: زيادة الاعتراف بدولة فلسطين تزيد من قوة الضغط في مجلس الأمن على الولايات المتحدة
  • المملكة ترحب بموقفي أستراليا ونيوزيلندا تجاه الاعتراف بالدولة الفلسطينية
  • أستراليا ونيوزيلندا تعلنان نية الاعتراف بدولة فلسطين في أيلول المقبل
  • نيوزيلندا تعلن عزمها على الاعتراف بدولة فلسطين
  • أستراليا ونيوزيلندا تعتزمان الاعتراف بدولة فلسطين
  • هل انقلب الغرب ضد “إسرائيل”؟