هل يكمن الخلل في القواعد التنظيمية أم في العملات المشفرة؟
تاريخ النشر: 30th, August 2023 GMT
عندما سافر التاجر الفينيسي، ماركو بولو، عبر طريق الحرير في القرن الثالث عشر، لم يصادف شعوبا غير مألوفة فحسب، بل تعرف أيضا على أشكال جديدة (بالنسبة له) من التمويل. وفي الصين، صُدم عندما علم أن "كوبلاي خان" قد ابتكر النقود الورقية. وكانت هذه النقود أخف وأسهل من ناحية النقل والتخزين، وأكثر قيمة من العملات المعدنية التي كان يضعها في محفظته.
وعلى غرار تجار القرن الثالث عشر العنيدين، يرفض الكثيرون اليوم قبول أحدث شكل من أشكال المال: العملة المشفرة. إذ في الآونة الأخيرة، رفعت لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية (SEC) دعاوى قضائية على Binance (باينانس)، وCoinbase (كوين بيز)، وهما أكبر بورصتين للعملات المشفرة في العالم، بتهمة أنهما بورصتان ماليتان غير مسجلتين. ومنذ سنوات عديدة، وشركة "كوين بيز"، وهي شركة مساهمة عامة تتمتع بقاعدة كبيرة من العملاء في الولايات المتحدة، تطالب الجهات التنظيمية الأمريكية بوضع قواعد معقولة، ولكن دون جدوى. وبدلا من ذلك، كانت الوكالات الحكومية مرتبكة بخصوص تعريف العملات المشفرة، وغالبا ما تقدم وجهات نظر متضاربة. إذ تُعَرف لجنة الأوراق المالية والبورصات الأمريكية، العملة المشفرة على أنها أصل يستخدم مثلما تستخدم الأوراق المالية، بينما ترى لجنة تداول السلع الآجلة (CFTC)، أنها سلعة من السلع الأساسية.
ومن ناحية أخرى، تتعامل دائرة الإيرادات الداخلية (IRS) معها على أنها ملكية. وفي سيناريو يشبه حكاية العميان والفيل، يرى كل منهم جانبًا واحدًا فقط ويعتقد أنه الصورة ككل. ويحول هذا النقص الواضح في الفهم دون وضع قوانين تنظيمية فعالة.
لنكن واضحين: إن العملة المشفرة ليست أموالًا رقمية. فقد تمت رقمنة جميع العملات المعدنية والورقية لمدة نصف قرن -حسابك المصرفي هو أحد الأصول الرقمية. ومن ناحية أخرى، تُحول العملات المشفرة الحق الحصري في إرسال البيانات إلى قيمة نقدية باستخدام تقنية محاسبة جديدة تسمى blockchain (بلوكتشين). فعند تحويل Avax (أفاكس) أو Ethereum (إذيريوم) إلى شخص آخر، يرسل حق نقل البيانات من موقع إلى آخر، وتسجل هذه المعاملة على "بلوكتشين" دون الحاجة إلى بنك أو دولة. ويقوم المحاسبون، الذين يطلق عليهم أيضًا عمال المناجم، بمسك الدفاتر مقابل العملات المشفرة.
إن التعرف على هذه الأموال الجديدة جذريًا وتدقيق الحسابات هما الخطوة الأولى في تنظيم أسواق العملات المشفرة. ولكن بما أن لجنة الأوراق المالية والبورصات، ولجنة تداول السلع الآجلة، ودائرة الإيرادات الداخلية، والمؤسسات المماثلة في بلدان أخرى مصمَمة للعملة الورقية ونسخها الرقمية، فقد كافحت من أجل التكيف مع واقع اقتصادات أموال البيانات.
ومن دون تحول عميق في التفكير في النظام المالي، لن يكون أي تنظيم مناسبا للغرض. ويعتقد العديد من صانعي السياسات خطأً أن العملات المشفرة وسيلة للمضاربة. ولكن هذا التفكير يتجاهل الابتكار الثوري الذي توفره تقنية "بلوكتشين"، فهي تمكّن الجهات الفاعلة الاقتصادية من جني أموالها وإجراء معاملاتها بأقل تكلفة. ويجري تبادل الآلاف من العملات المشفرة مقابل السلع والخدمات والعملات (المشفرة) الأخرى من جانب الحكومات والشركات والأفراد في أكثر من 45000 سوق، تديرها 524 منصة تبادل مركزية.
ويجب أن يفهم المنظمون أربعة أشياء تتعلق بالعملات المشفرة، أولها أنها ليست بديلا للدولار أو اليورو أو العملات الورقية الأخرى. فالواقع أن بحثي أظهر أن العملات المشفرة تساهم في الدولرة. ثانيا، تعمل بورصات العملات المشفرة على تقويض سلاسل الكتل باستخدام مسك الدفاتر المركزي الخاص بها: فقد تم الاحتفاظ بأكثر من 90 بالمائة من عملة "البيتكوين" المتداولة في عام 2021 كأصول خاضعة للوصاية في البورصات. وهذا يعني أنه إذا انهارت الأسواق، سيخسر العملاء أموالهم.
ثالثا، تعتمد العديد من سلاسل الكتل اللامركزية على خدمات اقتصادية مركزية، مثل تدقيق الحسابات في مجال تجارة السلع الأساسية.
إن التشفير هو ابتكار يخلق النظام، وليس الفوضى. والنقطة الأخيرة هي أن أشكالا مختلفة من المنطق المالي أصبحت جزءا لا يتجزأ من الاقتصادات المشفرة بالفعل، مما يجعلها ملائمة للتنظيم بدرجة تجاوزت توقعات كثير من الناس.
أما فيما يتعلق بكيفية تنظيم الصناعة، فإن العملة الرقمية للبنك المركزي (CBDC) لها أهمية حاسمة، لأنها ستزود الحكومات بأداة مالية تتطابق سرعة معاملاتها مع سرعة المعاملات في العملات المشفرة. وفي الوقت الحالي، تعد العملات المستقرة بعيدة عن متناول البنوك المركزية، حيث تقلد العملات الورقية مثل الدولار دون تحمل التكاليف السياسية والاقتصادية لصيانة العملات الورقية. وفضلا على ذلك، سيكون من الأسهل تنظيم عمليات التبادل من خلال تتبع قيمة العملة المشفرة بمجرد إمكانية التصريح عنها والتعامل بها استنادا إلى العملة الرقمية للبنك المركزي.
وقبل كل شيء، يجب على الهيئات التنظيمية ضمان تكافؤ الفرص. وهذا يعني منع منصات البورصة من إصدار أموال البيانات الخاصة بها أو أصول العملات المشفرة القابلة للتداول؛ وإلا فسوف تتنافس على منصاتها الخاصة. وينبغي أيضًا مطالبة بورصات العملات المشفرة بالاحتفاظ بجميع الأصول الخاضعة للوصاية بعيدًا عن متناول متداوليها أو أصحابها -وهو إجراء تنظيمي بسيط كان من شأنه أن يحمي استثمارات العملاء بعد انهيار FTX ) إف تي إكس. (وختاما، يمكن للسلطات الضريبية استخدام العملات الرقمية المشفرة لتحديد المزيد من المعاملات الخاضعة للضريبة واقتراح ضريبة جديدة على دخل العملات المشفرة، ومن ثم زيادة الإيرادات.
وفي الوقت الحالي، لا يزال صانعو السياسات يتصرفون مثل هؤلاء التجار العنيدين في البندقية. والمشكلة ليست في العملات المشفرة، بل في تنظيمها. لقد حان الوقت لتقبل فكرة أن العملات المشفرة باقية وستستمر، ولوضع القواعد الصحيحة لتنظيمها.
كوراي كاليسكان الأستاذ المشارك في التصميم الاستراتيجي والإدارة في"The New School" ومؤلف كتاب "أموال البيانات: داخل العملات المشفرة وأسواقها ومجتمعاتها وسلاسل الكتل"
خدمة بروجيكت سنديكيت
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الأوراق المالیة العملات المشفرة العملة المشفرة أموال ا
إقرأ أيضاً:
قبل أن يقع الخلل
خالد بن حمد الرواحي
في مؤسساتٍ كثيرة، لا تبدأ الحركة إلّا بعد أن يقع الخلل، ولا تُستدعى الحكمة إلا حين تتعقّد المشكلة. نعيش ثقافةً تُجيد إطفاء الحرائق أكثر مما تُحسن منع اشتعالها، فتتحوّل الإدارات إلى غرف طوارئ لا تهدأ إلا لتشتعل من جديد. وبين أزمةٍ وأخرى، يبرز سؤالٌ مُقلق: لماذا ننتظر حتى تتفاقم الأمور؟ ولماذا لا يتحول التخطيط الوقائي إلى ممارسةٍ مؤسسية ثابتة بدل أن يبقى ردّة فعل متأخرة؟ لقد أصبح انتظار المشكلة كي تُعلن عن نفسها جزءًا من الروتين اليومي، مع أن نصف الجهد كان يمكن توفيره… لو أننا بادرنا في اللحظة المناسبة.
تعود جذور هذا السلوك إلى منظومةٍ إدارية اعتادت التعامل مع الواقع خطوةً بخطوة، لا مع المستقبل وما يحمله من احتمالات. فحين يغيب التخطيط الاستباقي، يتحوّل الموظفون إلى منفذين جيدين، لكنهم يفتقرون إلى القدرة على التنبؤ أو اتخاذ المبادرة. وتغدو التقارير مرآةً لما حدث، لا لما يمكن أن يحدث، بينما ينشغل القادة بمعالجة النتائج بدل فهم الأسباب. ومع مرور الوقت، يتكرس داخل المؤسسة وعيٌ جمعي يقوم على الانتظار: ننتظر الشكوى لنُحسِّن، وننتظر التعثر لنُعدِّل، وننتظر الأزمة لنغيّر. وهكذا تعود المشكلات بالوجوه ذاتها والسيناريو نفسه، وكأن الزمن يعيد تشغيل الحلقة ذاتها دون توقف.
وغالبًا ما تتوارى خلف هذا النمط أسبابٌ أعمق من مجرد نقص الأدوات؛ فالمبادرة تحتاج إلى شجاعة، بينما الاستجابة لا تتطلب أكثر من الامتثال. فالموظف الذي يبادر يتحمّل مسؤولية قراره ويعرّض نفسه لاحتمال الخطأ، في بيئة قد لا تُميّز دائمًا بين الاجتهاد المخلص والخطأ المبرَّر. أما الاستجابة فهي الطريق الأكثر أمانًا؛ لا مخاطرة، ولا مساءلة، ولا حاجة لاستشراف المستقبل أو مواجهة المجهول. وهكذا تتسع دائرة الحذر، ويتراجع الحسّ الابتكاري، حتى تغدو المبادرة استثناءً فرديًا لا ثقافةً مؤسسية راسخة.
وليس أدلّ على أثر هذا السلوك من المشاهد اليومية في الميدان؛ فحين تُعالج المشكلة بعد وقوعها، تكون كلفتها أعلى ووقتها أطول وانعكاساتها أعمق. تتكدس المعاملات، وتتأخر الخدمات، ويُرهق الموظفون في محاولات اللحاق بما فات. والأصعب من ذلك أن ثقة المتعاملين تتآكل تدريجيًا، لأن المؤسسة لا تبدو مستعدة ولا مبادرة. ومع مرور الوقت، يتحول الضغط إلى جزءٍ من البيئة، ويغدو العمل تحت «مُنبّه الأزمات» هو النمط السائد، بينما تتبخر فرص التحسين الوقائي التي كان يمكن أن تصنع فرقًا كبيرًا بأقل جهد وأوضح أثر.
المؤسسات التي تتجاوز هذه الدائرة ليست بالضرورة تلك التي تمتلك موارد أكبر، بل تلك التي تبني عقلية مختلفة. فهي تدرك أن المبادرة ليست مشروعًا إضافيًا بل طريقة عمل، فتزرع في فرقها منهجية رصدٍ مبكرٍ للمخاطر، وتمنح موظفيها مساحة آمنة للتجريب، وتشجعهم على طرح الأسئلة قبل ظهور المشكلة لا بعدها. أما المؤسسات التي تكتفي بالاستجابة، فهي غالبًا ما تُغلق الأبواب أمام الأفكار الجديدة وتنتظر التعليمات قبل كل خطوة، فتتقدم خطوة حين يتقدم الآخرون عشر خطوات. وهنا يتجلى الفارق بين مؤسسة تصنع الحدث… وأخرى تكتفي بملاحقته.
وفي نهاية المطاف، لا تحتاج مؤسساتنا إلى جهدٍ خارق كي تنتقل من ثقافة الاستجابة إلى ثقافة المبادرة، بل إلى وعي إداري يدرك أن الوقاية ليست رفاهية، وأن الاستباق جزءٌ أصيل من الحوكمة الحديثة. فحين يتبنى القادة عقلية المبادرة، ويتعاملون مع المستقبل بروح الباحث لا بردّات الفعل، يتحوّل الخلل من مصدر إرباك إلى فرصة تحسين. وعندما يشعر الموظف بأن المؤسسة تثق في اجتهاده وتسمح له بأن يسبق المشكلة بخطوة، تتولد طاقة إيجابية تدفع الجميع نحو أداءٍ أذكى وأكثر استدامة. فالمبادرة ليست مهارة فردية فحسب، بل ثقافة تُبنى… ونقلة تصنع الفرق بين مؤسسة تُطفئ الحرائق، وأخرى تمنع اشتعالها.
رابط مختصر