الكويت صناعة الاستعمار وصراع الجوار / الجزء الثاني
تاريخ النشر: 28th, August 2025 GMT
آخر تحديث: 28 غشت 2025 - 9:58 ص بقلم: د. نوري حسين نور الهاشمي لقد تعززَ الارتباطُ بين العراق والكويت عبر قرون من الهجرات والتداخلات الاقتصادية والاجتماعية، حتى أصبح من المستحيل فصل المجتمعين عن بعضهما. وتمدُّ جذور العديد من الأسر الكويتية المعروفة اليوم إلى مدن العراق الجنوبية، خصوصًا البصرة والزبير والفاو، التي كانت مراكز تجارية مزدهرة ومتفاعلة مع الخليج.
وكانت حركة التنقل بين البصرة والكويت طبيعية وسلسة، إذ لم تُقيدها حدود رسمية أو قوانين صارمة، فالناس يتحركون للتجارة والعمل أو للزواج، ما جعل التمييز بين “عراقي” و”كويتي” في إطار مجتمع واحد شبه مستحيل، خصوصًا ضمن وحدة اجتماعية امتدت من لواء البصرة.
ولعبت التجارة دورًا مركزيًا في تعزيز هذه الصلات. فقد اعتمدت الكويت على أسواق البصرة لتلبية احتياجاتها الأساسية من المواد الغذائية والسلع، وكان ميناء البصرة بوابة حيوية للتجارة العالمية قبل أن يتحول ميناء الكويت إلى مركز مستقل بدعم بريطاني. وفي المقابل، امتلك التجار العراقيون متاجر ومستودعات في أسواق الكويت، فشكلوا شبكة مصالح اقتصادية متشابكة، جعلت العلاقة بين البلدين امتدادًا طبيعيًا ومستمرًا، لا مجرد علاقة دولة صغيرة كما أرادتها بريطانيا بجارتها الكبرى.
وعلى الصعيد الاجتماعي والعائلي، شهدت العقود الأولى من القرن العشرين مصاهرات واسعة بين العوائل العراقية والكويتية، خصوصًا بين عائلات البصرة وأهل الكويت. وما زالت شجرة نسب كثير من الأسر تشهد على هذه الروابط، بحيث يصعب الحديث عن “كيان منفصل”، بل عن امتداد طبيعي لجذور تاريخية مشتركة. وساهم الدين واللغة واللهجة والعادات والتقاليد المشتركة في تعزيز هذا الانتماء، ما جعل الكويت جزءًا عضويًا من النسيج العراقي رغم الحدود المصطنعة.
وقد انعكست هذه الحقيقة التاريخية في وعي كثير من العراقيين، الذين كانوا يرون في الكويت امتدادًا طبيعيًا لوطنهم، بينما حاولت السلطات الكويتية، بإيعاز من بريطانيا، قطع هذه الجسور لتأكيد هوية منفصلة، في مسعى لإضفاء الشرعية على دولة حديثة لم تُبنَ على أسس متجذرة بقدر ما صُنعت لخدمة مصالح القوى الاستعمارية. فقد صرح أحد أبرز الشخصيات الكويتية أن بريطانيا لم تكن تنظر إلى الكويت كدولة ذات سيادة، بل كمحطة لتأمين مصالحها البحرية والتجارية في الخليج، معتبرة أن التحكم بالقرار السياسي المحلي أهم من الاعتراف بالهوية الوطنية للكويتيين أنفسهم.
وفي شباط/فبراير 1939، تجسدت هذه الروابط العميقة في مظاهرات عارمة اجتاحت الكويت، رافعة شعارات تطالب بسقوط أمير الكويت والانضمام إلى العراق “الوطن الأم”، ورفعت لافتات كتب عليها: “الكويت جزء من العراق”، إلى جانب العلم العراقي. واللافت أن هؤلاء المتظاهرين لم يكونوا عراقيي الجنسية جاؤوا من الخارج، بل كانوا من أبناء الكويت أنفسهم، الذين أراد لهم الاستعمار الانفصال عن وطنهم الأم. لم يكونوا مندسين أو عملاء، بل مواطنين أصيلين، يرون أن الانتماء الطبيعي للكويت يجب أن يكون إلى بغداد، عاصمة التاريخ والسيادة.
وقد مثلت هذه المظاهرات ذروة نشاط التيار الوطني، الذي احتل مكانة بارزة في الشارع الكويتي، وحظي بثقة واسعة من الناس. وكان أقطابه مقتنعين أن الأمير أحمد الجابر يسير بالكويت بعيدًا عن جادة الصواب، وأنه مجرد منفذ لإرادة المندوب السامي البريطاني الذي أحكم قبضته على القرار السياسي الكويتي. ومن هنا جاءت محاولاتهم الجريئة لمقارعته، معتبرين أن بقاء الكويت تحت سلطة آل الصباح يعني استمرار التبعية لبريطانيا، بينما يمثل انضمامها للعراق العودة إلى أصلها الطبيعي وتحررها من النفوذ الأجنبي.
لكن هذه المظاهرات لم تُترك لتأخذ مجراها الطبيعي، فقد سارعت السلطات الكويتية، بإيعاز من المندوب السامي البريطاني، إلى قمعها بكل الوسائل الممكنة، فتم اعتقال عدد من قادتها ونفي بعضهم إلى الخارج، وأُحكمت الرقابة على النشاطات السياسية والفكرية التي تحمل نَفَسًا قوميًّا أو ميلًا إلى العراق. وهكذا أعيد فرض الصمت بالقوة، وسُدّت المنافذ أمام أي محاولة لتجديد المطالبة بالانضمام إلى “الوطن الأم”.
وأحداث 1939 لم تكن مجرد احتجاج شعبي عابر، بل انعكست على السياسة الكويتية لعقود لاحقة. فقد أظهرت هشاشة الكيان الذي لم يُبنَ على أساس متين، وأكدت أن القوى الاستعمارية كانت القاطرة الفعلية للقرار الكويتي، فيما ظل الشعب العراقي في الكويت يشعر بأنه منفصل قسرًا عن وطنه الأصلي. كما أكدت أن الحلم الوطني بالكويت ضمن العراق لم يُدفن بالكامل، بل ظل يختزن في الذاكرة الشعبية والوعي الجمعي، حتى بعد وفاة الملك غازي المفاجئة، التي أضعفت التيار القومي وأبعدته عن الساحة السياسية الكويتية.
وعلى الرغم من القمع، استمرت الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين العراق والكويت، إذ بقيت التجارة حيوية، واحتفظت العوائل الممتدة جذورها في العراق بعلاقاتها الأسرية والمصاهرة، ما جعل الكويت تبقى، في العمق الشعبي، امتدادًا طبيعيًا للعراق رغم الحدود السياسية المصطنعة. واستمرت الأجيال الجديدة في التنقل بين البلدين لتتعلم الثقافة المشتركة، وتشارك الأسواق والطقوس الدينية، مما زاد من صعوبة فصل الشعبين عن بعضهما عمليًا، حتى مع ضغط السلطات الكويتية الجديدة.
وقد ساهمت هذه الخلفية في تشكيل السياسة الخارجية للكويت بعد استقلالها، إذ سعت الدولة الصغيرة إلى تثبيت وجودها عبر تحالفات خارجية، أولًا مع بريطانيا ثم مع الولايات المتحدة، خشية أن تُضعف أي روابط طبيعية مع العراق مكانتها أو تهدد سيادتها، في ظل إدراكها أن عمقها الاجتماعي الحقيقي يمتد نحو العراق أكثر من أي طرف إقليمي آخر. وأصبح من الواضح أن الارتباط التاريخي والاجتماعي بين الشعبين لم يختف، وأن أي سياسة كويتية تجاه العراق لا يمكن أن تتجاوز هذه الحقيقة الراسخة.
إن دراسة هذه المرحلة تكشف كيف صُنعت الكويت ككيان سياسي هش يعتمد على حماية خارجية، وكيف أن محاولات القوى الاستعمارية لفصلها عن العراق لم تنجح في محو روابط الدم والتجارة والثقافة المشتركة، مما يوضح أن جذور النزاع بين بغداد والكويت ليست نزاعات عابرة، بل امتداد لحقائق تاريخية عميقة. كما يسلط الضوء على الدور المستمر للمجتمع العراقي في الكويت كعنصر فاعل في الحفاظ على امتداد الانتماء الطبيعي، رغم كل محاولات فرض الانفصال السياسي.
ويتضح أن هذه الخلفية التاريخية والاجتماعية هي مفتاح لفهم الصراعات الحديثة بين البلدين، إذ لم تُمحَ الروابط القديمة من الذاكرة الجمعية، بل ظلّت حاضرة في وعي العراقيين والكويتيين على حد سواء، لتظل الكويت صناعة استعمارية هشة تواجه تحديات دائمة في محاولة فرض استقلالها السياسي عن العراق الذي ظل يعتبرها امتدادًا طبيعيًا له. يتواصل النقاش في الجزء الثالث…
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: امتداد ا طبیعی ا
إقرأ أيضاً: