صحيفة التغيير السودانية:
2025-11-23@11:44:33 GMT

حرب الصور، وعذابها

تاريخ النشر: 10th, September 2025 GMT

حرب الصور، وعذابها

حرب الصور، وعذابها

وجدي كامل

تظل الغالبية العظمى من النازحين، أولئك الناجين بأرواحهم من ويلات الحرب، المقيمين بأجسادهم على مسافة بعيدة من جغرافيا الحرب على ظنٍّ أنهم باتوا في مأمن من ضرباتها وانفجاراتها اليومية المتزايدة. فالبعد الفيزيائي “وضع البعيد”، يجعل علاقتهم بالحرب علاقة اتصالية، وبالأحرى “تواصلية”، تقوم على استهلاك المعلومات المنقولة من مناطق الصراع، وعبر الصور المتداولة بوسائل التواصل الاجتماعي،

فمنذ اندلاع الحرب، لعبت منصات مثل فيسبوك، إنستغرام، تويتر، وواتساب دورًا محوريًا في نقل محتوى كثيف، وجرعات عالية من الصور والمقاطع، توثّق بشكل لحظي ما يجري على الأرض.

غير أن من يظن أن هذه الوسائط قامت فقط بدور المرآة العاكسة للحدث يخطئ الظن. فقد أتاحت إمكانية تسجيل تفاصيل القتل، السحل، التعذيب، بقر البطون، الإعدامات الحية، التهجير الجماعي، والإساءات اللفظية، فامتلأت ذاكرة الميديا بعشرات الآلاف من الصور المرعبة، المروّعة.

هذه الصور، وإن بدت لوهلة أنها “أدت غرضها وذهبت إلى الأرشيف لتستريح وتنام“، إلا أنها تبقى مغرضة في رسائلها، فاعلة في آثارها. الصدمة تتجلى حين يكتشف المتلقي، بعد زمن، أن ما شاهده لم يمرّ عابرًا، بل استقر في ذاكرته، ونفذ إلى ثقافته، وتربيته اليومية، وأسلوب تعاطيه مع الحياة.

فالصور، في جوهرها، لا تنقل فقط محتوى مرئيًا، بل تحمل عدواها وعدوانها، عبر زوايا النظر التي اختارها المصوّر، ومنظور المنتج، والسياقات المصاحبة. الباحثة أرييلا أزوراي، تضيف منظورًا مهمًا حين تقول:

“كل صورة حرب تحمل في طياتها علاقة بمن يُصوّر، ومن يُصوَّر، ومن يشاهد، ما يعني أن الصورة ليست بريئة”1.

في الحروب، تكون الصور حكرًا على مشاهد العنف والانحطاط الإنساني، مما يجعلها مواد ملتهبة، تشتبك بالمعنى، وتبثّ الفتنة والألم بين الناس عن وعي وبصيرة. إنها تساهم في تشكيل سردية الحرب، وصناعة التصور الجمعي عنها.

أتذكر هنا، حينما كنت أعمل في قناة الجزيرة، وتم تكليفي بعد انتهاء الخدمة، من مديرها الأستاذ مصطفى سواق توثيق مسيرة القناة بمناسبة عيدها الفضي. أجرينا مقابلات مع المؤسسين من مذيعين ومقدّمي برامج وإداريين ممن فاق عددهم الخمسين. وكان هناك إجماع بينهم على أن الانطلاقة الحقيقية للقناة حدثت إبان حرب العراق 2001-2003، عبر التغطيات الخاصة والحصرية، ما لفت أنظار الغرب، وكرّس تأثير القناة القوي لدى المشاهدين العرب، فجعل من التغطية الإعلامية صناعة موازية للحدث.

وفي تغطية أحداث الربيع العربي، وُجهت للقناة اتهامات بأنها ساهمت في تأجيج الثورات، بفعل تغطية مستمرة، منتظمة، وبرمجة مفتوحة، جعلت من “المشاهد لاعبا مشاركًا”. فأضيف بأن وظيفة القناة لم تكن نقلية فقط كما يُشاع، بل كانت ذات أثر تعبوي جعلها مساهما لا يقل أهمية عن الثوار أنفسهم بالميادين.

هذا المنحى تؤكده نظرية بول فيريليو، المفكر الفرنسي المتخصص في الثقافة والإعلام، بقوله:

“الصورة في الحروب الحديثة ليست ناقلًا فقط للحدث، بل سلاحًا بحد ذاته.”2

إن المشاهد، حين يشاهد فيلم “أكشن” أو فيلمًا حربيًا لساعة أو ساعتين، يخرج من دار العرض مختلفًا عما دخل، رغم قِصر الزمن. فالتجربة الفيلمية تؤسس لحالة نفسية جديدة، تنصهر في داخله وتُعاد تدويرها في مخياله العاطفي والمعرفي. ذلك حال الافلام المعالجة فنيا وابداعيا وفق تصور مسبق من صانعيها لحزم الاستجابات المتوقعة، فكيف يكون الحال حين تكون الصور المُشاهدة ليست من السينما الفنية او الخيالية، بل من شرائح ساخنة، متدفقة من الواقع، واقع حرب تخصه، حرب واقعها ووقائعها ببلاده ومدنه وأهله، وبالتالي ذكرياته؟

حين ننتقل لتحليل الحالة السودانية، نجد أن ضخّ الصور من ساحات الحرب، في نسق معلوماتي كثيف بواسطة الجنود، أو المواطنين، او المراسلين التلفزيونيين، يخلق تأثيرًا نفسيًا مضاعفًا على النازحين، أو من يعيشون في بلدان المهجرون، أولئك ممن يتابعون احداث الحرب عن بعد.

أولى الحقائق هنا أن الصور تُمثّل لحرب “منا وفينا”، حرب تدور في قرانا ومدننا وبيوتنا، وهي حرب اصبحت داخلنا، حرب تضغط على اعصابنا وتثير فينا من الاحزان والآلام ما تثير، ما ينسف أي إمكانية للحياد واعتبارها تجربة خارج ردود فعلنا واستجاباتنا الخاصة.

يُضاف إلى ذلك أن الانقسامات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بين السودانيين تُنتج تحيزًا في استهلاك الصور وتفسيرها وتدويرها بتدخل منحاز ومنفعل، فتصبح الصور ذات قيمة عاطفية زائدة، تتحول إلى “شرر إضافي” يُغذي لهيب الحرب نفسها في مواقعها الحقيقية بما ترفده ردود افعال الناجين على الجنود المقاتلين. وقد شهدنا في هذه الحرب كيف استطاع غناء من يطلق عليهن بالـ “القونات” من إلهاب مشاعر قادتها العسكريين والجنود معا عن طريق الزيارات الميدانية والصور القادمة عن طريق الميديا ايضا.

غير إن الأهم يتمثل في تحويل التفاعل مع هذه الصور إلى تجربة شخصية نفسية وذهنية مؤثرة، يتداخل فيها العام مع الخاص، والجمعي مع الفردي، والمحتوى الصادم مع التجربة الذاتية، بما يترك آثارًا عميقة على المتلقين.

وتكمن الخطورة الأكبر في طبيعة الاستهلاك الرقمي اليومي الذي لا يشبه متابعة الأفلام أو النشرات الطويلة. فالمتابع اليومي، وخاصة من يستخدم الإنترنت بشكل مكثف ولساعات طويلة، قد يمضي وقته في تفاعل مباشر مع محتوى حي، سواء صور فوتوغرافية أو مقاطع فيديو. هذا التفاعل المستمر يعمّق أثر الصور، ويضع المتلقي في موقع الشاهد المباشر، وربما الضحية النفسية.

هكذا، تتحول الصورة إلى حرب موازية تزرع الكآبة، القلق، والتوتر، وتخلق نوعًا من الإعاقة الذهنية والنفسية، قد تتحول إلى أمراض فعلية، أو تزيد من حدة الموجود منها وقد تقتل بالجلطات والسكتات القلبية. فالمتلقي لا يخرج سالمًا من هذا الدمار البصري، بل تتراكم عليه توترات وصراعات داخلية، تُنتج “حربًا موازية” تدور في دواخله وتنعكس على محيطه بنحو منتظم ومتصاعد كلما طال امد الحرب وتكثفت خساراتها، فالأرواح التي لم تمت برصاص المعركة تموت برصاص الصور المتدفق.

الوسومالحرب السودان السينما الصور قناة الجزيرة وجدي كامل

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الحرب السودان السينما الصور قناة الجزيرة

إقرأ أيضاً:

ليبيا.. الانتخابات ليست حلا

أذكر أنني كتبت مقالة بهذا العنوان في ساسة بوست قبل الانتخابات التي كانوا يخططون لإجرائها في ليبيا، في أيلول/ سبتمبر 2023. الموقع أُغلق الآن، وأتمنى ألا يحدث ذلك مع أي منصة ننشر فيها اليوم. الفكرة نفسها ما زالت قائمة: الناس لا زالوا يرون أن الانتخابات هي العصا السحرية، لكن الحقيقة مغايرة، لذلك قررت كتابة المقالة مجددا ولكن بأسلوب آخر.

الانتخابات هي أداة بسيطة لاختيار أشخاص يمثلون الناس في إدارة شؤونهم. فكرة تبدو بديهية، لكنها في الواقع تحتاج بيئة ناضجة حتى تنجح. أول انتخابات عرفها البشر تعود تقريبا إلى أكثر من ألفي عام، في التجربة اليونانية التي وضعت بذرة المشاركة السياسية. ثم تطورت الفكرة في العصور اللاحقة، مع نشوء وتشكّل مفهوم الدولة. منذ ذلك الوقت أصبحت الانتخابات وسيلة لمنع احتكار السلطة، وهي الصورة النظرية التي يتغنى بها الكثيرون. أما التطبيق الواقعي فأصعب وأشد تعقيدا.

الانتخابات ستظل خاضعة لنفوذ أصحاب القوة والمال وسلطة الأمر الواقع، وسيبقى الناس العاديون مثلي ومثلك هم الحلقة الأضعف. من المحتمل أن نرى برلمانا نصفه مرتبط بمليشيات والنصف الآخر برجال أعمال فاسدين
لو رجعنا لليبيا، سنجد أن عمر الدولة الليبية يزيد عن ستين عاما، ومع ذلك لم نجرب الانتخابات التشريعية إلا مرتين فقط منذ الاستقلال: انتخابات المؤتمر الوطني في 2012، وانتخابات البرلمان في 2014. ورغم كل ما رافقها، تبقى هذه التجارب مكسبا بسيطا وأفضل من دول أخرى لم تعرف انتخابات حقيقية منذ تأسيسها.

آخر انتخابات برلمانية في ليبيا كانت في 2014، نعرف جميعا ما الذي نتج عنها؛ برلمان من أعضائه من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ولم يفكر أحد منهم في الاستقالة أو ترك المجال لمن بعده. قبل ذلك كان المؤتمر الوطني، الذي لم يغادر فعليا، بل غيّر اسمه إلى مجلس الدولة واستمر معنا من تبقى منهم على قيد الحياة منذ الثورة وحتى الآن. فكما تعرفون، المسؤولون عندنا لا يغادرون كراسيهم إلا إلى التوابيت.

بعيدا عن صراعات الشرعية ونزاهة وشفافية تلك الانتخابات، يظل المبدأ واضحا: الشعوب تتعلم بالتجربة، والديمقراطية لا تنضج إلا بالممارسة. لكن السؤال البسيط يبقى قائما: هل ستُحل مشاكل ليبيا إذا ذهبنا للانتخابات الآن؟ بالمعطيات التي نراها بالأمس واليوم، الإجابة بدون لف ودوران: لا.

لست أتحدث عن انتخابات المجالس البلديةن هذه بلا صلاحيات حقيقية ولا موارد تجعلها محور صراع. ومع ذلك، مؤخرا في هذه السنة ألغيت انتخابات أكثر من نصف البلديات في ليبيا بسبب تهديدات جهاز الأمن الداخلي، وهجمت مليشيات على مراكز اقتراع في الغرب وحرقتها، وصودرت بطاقات الانتخاب في بعض البلديات، وأُجبر بعض المرشحين على سحب ترشيحهم. كلنا نعرف كيف تُدار الأمور، وإذا كانت انتخابات البلديات تُعرقل بهذا الشكل، فكيف نتوقع انتخابات برلمانية أو رئاسية نزيهة؟

المعضلة الأكبر أن أحدا لا يعرف شكل نظام الحكم أصلا. تحت أي إطار دستوري سيتم إجراء تلك الانتخابات الموعودة؟ لا نعرف إن كنا ذاهبين لنظام رئاسي أو برلماني أو ملكي أو خليط مشوّه، هناك مشروع دستور منذ أكثر من عشر سنوات، وقد تم انتخاب هيئة صياغته هي الأخرى، حتى لا أنسى. وكذلك، وكما هو العرف عندنا، من لم يمت من الستين عضوا لا يزالون موجودين في مناصبهم ويتقاضون مرتباتهم مقابل اللا شيء. ربما سنحطم رقم غينيس كأطول عملية كتابة دستور في التاريخ! ولا أحد يعرف أين توقفت ومن يعطلها ولماذا. من يمسكون بالمقود الآن لا يريدون دستورا لأنه سيحد من وقت جلوسهم على الكراسي.

في هذه اللحظة تحديدا، سألني صديقي الوهمي إن كنت سأشارك في أي انتخابات مقبلة. قلت له: هذه مشكلة أخرى، فأنا أعيش في المنفى الإجباري ولا يحق لي المشاركة أو الترشح. ولست وحدي، هناك آلاف مثلي محرومون من هذا الحق وصوتهم مغيب بلا ذنب إلا أنهم اضطروا إلى مغادرة البلاد. ابتسم صديقي وهز رأسه وقال: "ملا فكه منكم". ضحكنا في ذات الوقت، لأنه هو الآخر منفي، زيادة عن أنه وهمي.

دعنا نفترض الآن، كتمرين ذهني، أن الانتخابات تُجرى غدا في كل ربوع ليبيا الحبيبة، لا السلاح في الشرق يتدخل لفرض حفتر أو أحد أبنائه، ولا المليشيات في الغرب تجر الناس إلى صناديق معدّة مسبقا، لنفترض أن العملية شفافة بالكامل؛ المجتمع المدني يراقب، والأحزاب تتنافس، والأمم المتحدة حاضرة، وصراع على أشده بين المترشحين، كل يقدم مشروعه، والناس تخلّت فجأة عن العصبية المناطقية والقبلية.. حتى في هذا السيناريو المثالي الذي يشبه أحلام اليقظة، من يضمن أن الطرف الخاسر سيسلّم السلطة؟ هذه الرسالة بالذات يجب أن تصل إلى بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، التي همها منذ عشر سنوات أن تقيم انتخابات معتقدة أنها ستحل الأزمةومن يضمن أن المنافسة ستكون متكافئة في بيئة يقودها المال السياسي والانقسام والسلاح وإعلام يقتات على التحشيد والصراع؟ كل هذا المشهد السيريالي من دمى خشبية تحركها أيادٍ من وراء الحدود والبحار.

الانتخابات ستظل خاضعة لنفوذ أصحاب القوة والمال وسلطة الأمر الواقع، وسيبقى الناس العاديون مثلي ومثلك هم الحلقة الأضعف. من المحتمل أن نرى برلمانا نصفه مرتبط بمليشيات والنصف الآخر برجال أعمال فاسدين؛ ليس مبالغة، بل سيناريو واقعي جدا، ومن المحتمل أن يجلس متهم بجرائم حرب على كرسي الرئاسة؛ ليس خيالا، بل نتيجة طبيعية لبلد تسوده ثقافة الإفلات من العقاب.

غياب المحاسبة والعدالة قبل أي عملية انتخابية ليس مجرد خلل، بل هو عبث يعطي الشرعية لوجوه ملوثة بدماء الضحايا ويضع البلاد على طريق أسوأ، يحصل فيه المجرمون على شرعية الصناديق. بدون تفكيك مراكز القوة من أمراء الحروب ورؤوس الفساد ستصبح الانتخابات كعملية تجميل فاشلة تزيد القبح قبحا. هذه الرسالة بالذات يجب أن تصل إلى بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، التي همها منذ عشر سنوات أن تقيم انتخابات معتقدة أنها ستحل الأزمة.

نحتاج أولا إلى دولة بالمفهوم الحقيقي، تستطيع حماية العملية الانتخابية.. نحتاج دستورا، وقضاء مستقلا، وبيئة آمنة، ومجتمعا مدنيا مستقلا يراقب، ونخبة سياسية تقبل الخسارة قبل أن تطلب الفوز. غير ذلك، ستكون انتخابات صورية، انتخابات معدة مسبقا، وسنعيد تدوير الأزمة وسنعيد إنتاج الفضلات البشرية، والمحصلة مثل تلك التي رأيناها في تونس ومصر وهما ليستا ببعيد عنا.

الانتخابات ليست حلا سحريا، على الأقل ليست في ليبيا التي نعيش ظروفها الآن. الحل يبدأ بتمهيد الأرض قبل البناء، والأرض اليوم مليئة بالألغام، حرفيا ومجازيا.

مقالات مشابهة

  • ترامب: خطة إنهاء الحرب في أوكرانيا ليست أمنيات روسية
  • إدارة ترامب: خطة إنهاء الحرب في أوكرانيا ليست "قائمة أمنيات روسية"
  • غوغل تطلق «نانو بانانا برو».. ثورة في جودة الصور والذكاء الاصطناعي
  • ضبط صاحب صور «السلاح الخرطوش» المتداولة بالفيوم
  • ترامب: علينا إنهاء الحرب في أوكرانيا.. وخطتي ليست عرضًا نهائيًا
  • والدة ضحية تحرش المدرسة الدولية: مستحيل أتخيل بنتي بتمر بمحنة زي دي
  • قلعت الحجاب.. سلمي عبد العظيم تفاجئ جمهورها بإطلالة غير متوقعة
  • يارا السكرى تظهر في أول صور من دورها في مسلسل علي كلاي
  • أبرز مزايا Nano Banana Pro.. نموذج جوجل الجديد لإنشاء الصور بدقة وواقعية
  • ليبيا.. الانتخابات ليست حلا