عبدالماجد سعيد عرمان

في ظاهرها، تبدو الإنسانوية وعدًا كونيًا بالكرامة، وبابًا إلى عالمٍ أكثر عدلًا وحرية. لكنها، في تاريخها العميق، تحوّلت في كثير من الأحيان إلى قناعٍ ناعمٍ للهيمنة — مشروعٌ بدأ بتحرير الإنسان، وانتهى بالحديث باسمه لفرض الوصاية عليه. ومن توكفيل وجول فيري إلى فوكو وفانون، تتكشف المفارقة الكبرى: أن الدفاع عن الإنسان قد يكون في أحيانٍ كثيرة أخطر أشكال السيطرة عليه.

في كل مرحلة من التاريخ، يظهر من يتحدث باسم الإنسان، ومن يرفع راية الحرية والكرامة بوصفهما المعيار الأعلى للفكر والأخلاق. لكن السؤال الفلسفي الذي يظل معلقًا هو: أيّ إنسان هذا الذي يُدافعون عنه؟

هل هو الإنسان بوصفه كائنًا كونيًا، أم الإنسان الذي يشبههم ويشاركهم صورتهم عن العالم؟

هنا تبدأ المفارقة المأساوية في الإنسانوية الحديثة، إذ وُلدت في رحم الثورة على الاستبداد، لكنها أنجبت أشكالًا جديدة من الطغيان باسم التحرير.

حين كتب ألكسيس دو توكفيل عن الديمقراطية الأمريكية، كان يرى فيها أفقًا جديدًا لإنسان حرّ، لكنه في الوقت ذاته أيّد استعمار الجزائر، وعدّه ضرورة حضارية. تلك المفارقة كشفت الوجه المزدوج للفكر الليبرالي: حرية الإنسان، نعم، ولكن بشرط أن يكون الإنسان على صورة الأوروبي المتحضر. في قلب التنوير وُلدت إنسانوية مشروطة، تمنح الكرامة وتمنعها وفق ميزان القوة والمعيار الثقافي.

على هذا النسق سار جول فيري حين تحدّث عن «واجب» الأمم المتقدمة في تمدين الشعوب المتأخرة. كان يؤمن أن الغزو رسالة أخلاقية، وأن الهيمنة يمكن أن تُغلف بلغة الرحمة. وهكذا تحوّل الخطاب الإنساني إلى أداة استعمار ناعمة، تتحدث باسم الإنسان لتخضعه، وباسم التقدم لتبرّر الإخضاع. من الدفاع عن الكرامة إلى مصادرتها، ومن تحرير الآخر إلى حبسه داخل نموذج محدد لما يجب أن يكونه الإنسان.

ثم جاء فرانز فانون، صوت الذين لا صوت لهم، ليقلب المعادلة. في معذّبو الأرض فضح التناقض البنيوي في هذه الإنسانية التي ترفع شعار الكرامة، وهي تقيم بنيانها على عنفٍ مستتر. قال فانون إن الأوروبي حين يتحدث عن الإنسان، إنما يقصد الإنسان الأوروبي. دعا إلى إنسانوية جديدة تنبع من التجربة الحيّة، من لحم الجسد المستعمَر، ومن الألم كخبرة وجودية لا كدرسٍ في الأخلاق.

الإنسان — كما قال — لا يولد في الكتب، بل في المأساة، ولا يُكتشف بالخطاب بل بالمقاومة.

أما ميشيل فوكو فذهب أعمق، كاشفًا أن الإنسانوية ليست فكرة بريئة، بل نظام معرفة وسلطة. فكل خطابٍ يرفع شعار الإنسان إنما يحدّد في الوقت نفسه من يحقّ له أن يكون إنسانًا. المدرسة، المصحّة، السجن، الإعلام — كلّها مؤسسات تُعيد إنتاج السلطة تحت لافتة الرعاية. قال فوكو إن الإنسان اختراع حديث، وربما على وشك الزوال، أي أن هذا الكائن الذي نرفعه إلى مرتبة المعيار ليس جوهرًا ثابتًا، بل بناءٌ تاريخي محكوم بالزمن والأيديولوجيا.

وجاء إدوارد سعيد ليكشف الوجه الثقافي لهذا القناع. فالاستشراق، كما بيّن، لم يكن بحثًا بريئًا في حضارات الشرق، بل طريقة لرسم صورة الآخر بحيث يبقى موضوعًا للفهم لا شريكًا فيه. هكذا تحوّل العلم إلى أداة سلطة، والمعرفة إلى استعمار رمزي. فالإنسانوية الاستعمارية تتحدث عن الآخر باسم التعاطف، لكنها لا تترك له فرصة ليعرّف نفسه بنفسه.

ولعلّ أبرز ما يكشف بقاء هذا المنطق حتى اليوم ما قاله تشارلي داغاتا، كبير المراسلين الأجانب في شبكة CBS News، أثناء تغطيته للحرب الأوكرانية في عام 2022:

“هذا ليس مكانًا، مع كامل الاحترام، مثل العراق أو أفغانستان اللتين شهدتا صراعات لعقود. هذه مدينة أوروبية نسبيًا، متحضّرة نسبيًا، لا يُتوقع أن يحدث فيها مثل هذا الأمر.”

بهذه الجملة العابرة، التي بدت في ظاهرها توصيفًا صحفيًا، انكشف جوهر المفارقة الإنسانوية الحديثة: إنسانٌ يستحق التعاطف لأنه “أوروبي” و” متحضر”، وآخرُ يُختزل في الفوضى والعنف والتخلّف، وكأن المأساة لا تُقاس بالألم الإنساني، بل بدرجة القرب من صورة الغرب عن ذاته.

هنا يتعرّى القلب الأخلاقي للحداثة، إذ لا تزال الإنسانية تُوزَّع بميزان الجغرافيا واللون والثقافة، لا بميزان الوجود والمعاناة.

الوسومعبدالماجد سعيد عرمان

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

إقرأ أيضاً:

باسم الجمل: قمة شرم الشيخ للسلام برهان جديد على ريادة مصر في ترسيخ الأمن والاستقرار العالمي

أشاد المهندس باسم الجمل، الأمين العام المساعد لأمانة الشباب باتحاد القبائل العربية وعضو حزب الجبهة الوطنية، بانعقاد قمة شرم الشيخ للسلام التي دعا إليها فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي، مؤكدًا أن هذه القمة تأتي امتدادًا للدور المصري التاريخي في دعم قضايا الإنسانية وتحقيق الأمن والسلام في المنطقة والعالم.

وأكد الجمل أن مصر أصبحت صوت الحكمة والعقل في عالم يموج بالصراعات، مشيرًا إلى أن رعاية الرئيس السيسي لهذه القمة تعكس مكانة مصر الإقليمية والدولية، ودورها المتوازن في إدارة الأزمات بحكمة ومسؤولية، بعيدًا عن المزايدات السياسية والمصالح الضيقة.

سفير الأردن بمصر: قمة شرم الشيخ تمثل عنوانا للسلام والاستقرار.. ونعول على القاهرة والرئيس السيسيعاطف سالم: قمة شرم الشيخ تأكيد متجدد لرسالة مصر من أجل السلام

وأضاف الأمين العام المساعد لأمانة الشباب أن القيادة المصرية تتحرك برؤية شاملة قوامها حماية المدنيين ووقف نزيف الدم، ودعم الحلول السياسية العادلة التي تحفظ حقوق الشعوب وتعيد الأمن والاستقرار إلى المنطقة، مؤكدًا أن الرئيس السيسي يقود سياسة خارجية قائمة على احترام السيادة وبناء الثقة بين الدول والشعوب.

وأشار الجمل إلى أن قمة شرم الشيخ تمثل فرصة مهمة لتوحيد الجهود الدولية نحو سلام حقيقي، وتؤكد أن مصر لا تبحث عن دور، بل تمارسه بالفعل، من خلال مواقفها الشجاعة ومبادراتها المستمرة من أجل نصرة الحق ورفع المعاناة عن الشعوب، خاصة في ظل الأزمات التي يشهدها العالم اليوم.

واختتم المهندس باسم الجمل بيانه بالتأكيد على أن القيادة المصرية بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي قدمت نموذجًا فريدًا في الدبلوماسية الهادئة والفاعلة، وأثبتت أن مصر قادرة على جمع الكلمة وتوحيد الصف من أجل بناء عالم يسوده السلام، وأن قمة شرم الشيخ هي شاهد جديد على أن مصر كانت وستظل “نبض العروبة وصانعة الاستقرار”.

طباعة شارك ترامب قمة شرم الشيخ السيسي الرئيس السيسي البرلمان

مقالات مشابهة

  • باسم الجمل: قمة شرم الشيخ للسلام برهان جديد على ريادة مصر في ترسيخ الأمن والاستقرار العالمي
  • عودة "شمس الزناتي" بجزء جديد وانطلاق التصوير.. غدًا
  • يبدأ تصويره غدًا.. من هم أبطال فيلم «شمس الزناتي.. البداية»؟
  • مهندس الخراب: المفارقة المريرة في سعي توني بلير للإشراف على غزة
  • "لسه إنسان".. مكتبة الإسكندرية تستضيف اللقاء الثالث لذوي الهمم
  • المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة: يوم عظيم في شرم الشيخ
  • المتحدث باسم الأمين العام لجامعة الدول العربية : نثمن الدور الذي قامت به قطر لإقرار وقف الحرب في قطاع غزة
  • باسم سمرة ينضم لفريق عمل «شمس الزناتي 2»
  • المكتب الحكومي بغزة: الاحتلال دمر 300 ألف وحدة سكنية وهجر مليوني إنسان قسرا