منذ ٢٩ سبتمبر يوم الإعلان عن خطة ترامب حتى اليوم لم تتوقف نخب الثقافة والإعلام الصهيونية الناطقة بالعربية عن تزييف وعي شعوبنا. تحت ستار نيراني كثيف يحجب رؤية العين وبصيرة العقل قام هؤلاء بالادعاء بأن غموض هذه الخطة وإبهامها هو غموض بنَّاء وغير متعمَّد، ويعبر فقط عن التعقيد الحاصل في الصراع وصعوبة حله حلًا شاملًا مرة واحدة والحاجة لتفاوض متدرج على عدة مراحل.

تعتمد هذه النخب على سيطرة حكومات عربية ـ متحالفة في السر والعلن مع إسرائيل وخاضعة تمامًا للولايات المتحدة ـ على معظم وسائل الإعلام المتنفِّذة والثرية، فتسعى لمحو الذاكرة العربية بخبرة الاتفاقات السابقة التي احتوت على غموض مماثل بين إسرائيل وأطراف عربية، وتمخضت عنها نتائج وخيمة.

سنقتصر هنا على خبرة الغموض في الاتفاقيات الفلسطينية-الإسرائيلية خاصة اتفاقيات أوسلو واتفاقياتها الفرعية مثل اتفاق غزة-أريحا، والخليل، وواي ريفر وشرم الشيخ وغيرها.

في كل هذه الاتفاقيات لم يكن الغموض صدفة، بل كان أداة سياسية مقصودة ومهندسة سلفًا يحقق للإسرائيليين كل أهدافهم، ويحرم الفلسطينيين من كل حقوقهم.

تتطابق خطة ترامب مع اتفاقات أوسلو في تحويل الغموض المتعمد إلى وسيلة جهنمية تمنح إسرائيل الفرصة كاملة لفرض واقع جديد تماما يجعل الدولة الفلسطينية مستحيلة. لا تحقق الخطة السلام، بل تنشئ مجرد هدنة مؤقتة طويلة أو قصيرة، ولكن لا تقضي على المصدر الحقيقي للصراع، وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط، وهو الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وليس التهديد الشيعي الإيراني المزعوم.

في اتفاق أوسلو واتفاقياته الفرعية أحكمت بدقة وتفصيل المطالب الأمنية التي تحقق أمن إسرائيل، وأبقي كامل السيطرة الأمنية والسيادة على الحدود في يد إسرائيل، وألزمت السلطة بالتنسيق الأمني. أحكم خناق الترتيبات الأمنية على الفلسطينيين باتفاقيات دايتون، وباتت سلطة المقاطعة منحصرة في إدارة حياة السكان اليومية، وليس تحقيق الاستقلال والتحرر الوطني كما نبهنا إدوارد سعيد.

في خطة ترامب نجد نفس الإحكام في الترتيبات الأمنية التي تخص إسرائيل والغموض فيما يتعلق بأمن غزة والفلسطينيين. تلزم الخطة المقاومة بنزع سلاحها وتلزم المقاومة بنزع سلاح غزة أي تدمير البنية التحتية العسكرية للمقاومة «الأنفاق وورش السلاح الفلسطينية» في المرحلة الثانية، لكنها لا تلزم إسرائيل بانسحاب نهائي وشامل، ولا بخرائط انسحاب محددة، بل تستخدم تعبيرات غامضة وفضفاضة، مثل خط انسحاب يتفق عليه ويربط بين الانسحاب وخطوات يتخذها الفلسطينيون؛ فإن ادعى الإسرائيليون ـ كما يفعلون دومًا ـ أن هذه الخطوات لم تتم بالشكل الذي يرضي مزاج إسرائيل لا يتم الانسحاب. ولا حديث أصلا عن رفع الحصار الإسرائيلي عن القطاع الذي جعله أكبر سجن مفتوح والذي هو سبب رئيس من أسباب المواجهات العسكرية منذ ٢٠٠٨.

في اتفاق أوسلو واتفاقاته الملحقة ظهر الغموض الماكر في كل ما يتعلق بالحل السياسي، وخدع الفلسطينيون بتأجيل حسم قضايا الوضع النهائي للصراع مثل الأراضي، والحدود، والمياه، والاستيطان، والقدس، وعودة اللاجئين، وإحالتها بلغة مبهمة إلى مفاوضات تجري لاحقًا يعلم الجميع الآن بعد مرور ٣٢ سنة على أوسلو أن إسرائيل أوقفتها تمامًا من جانب واحد بحجة عدم وجود شريك سلام فلسطيني!! هذا الغموض سمح لإسرائيل بخلق أمر واقع على الأرض يدمر تمامًا فكرة الدولة الفلسطينية التي أوهم عرفات بأنه سيحصل عليها في نهاية المطاف من السلام مع إسرائيل. انتهى الأمر بانفجار الاستيطان وتضاعفه ٣ مرات في الضفة الغربية والقدس من أقل من ٢٥٠ ألف مستوطن إلى ٧٥٠ ألفًا، وبات الاحتلال ومستوطنوه يسيطرون على نحو ٧٧ ٪ من الضفة لا سيما الطرق الالتفافية والحواجز، وتقطيع الضفة لكانتونات معزولة. وكان ذلك كله بسبب صياغات أبهمت عمدًا في الاتفاقيات.

في خطة ترامب يبدأ الغموض والتعبيرات الفضفاضة، ولكن بصورة أسوأ بكثير من اتفاق أوسلو عندما يتعلق الأمر بالحقوق السياسية ومستقبل الدولة الفلسطينية، فتتحدث بشكل فضفاض خال من أي ضمانات عن: «تهيئة الظروف لفتح مسار ذي مصداقية نحو تقرير المصير، وإقامة دولة فلسطينية، وإطلاق حوار للاتفاق على أفق سياسي»!!

لا تحمل هذه الصياغة أي التزام حقيقي أو جدول زمني تمامًا مثل أوسلو، بل تؤجل القضية الأساسية ـ الدولة والسيادة ـ إلى مستقبل غير محدد، وشروط غامضة مثل «إصلاح السلطة الفلسطينية». ترامب يقول أمام قمة لزعماء العرب والمسلمين وآخرين من نحو ٣٠ دولة: «البعض يتحدث عن حل الدولتين، والبعض يتحدث عن دولة واحدة؛ لم أقرر بعد». يشكره نتنياهو قبل هذه القمة بساعة على موافقته على أن الضفة والقدس «يهودا والسامرة» أرض إسرائيلية، وأن القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، يدوس ترامب في خطته على مئات القرارات الأممية التي وقعت عليها أمريكا نفسها عن حق الشعب الفلسطيني في دولة مستقلة على حدود الرابع من يونيو ويمحوها كأنها لم تكن!!

ترامب الذي يعترف بأن إسرائيل فشلت في هزيمة حماس هزيمة مطلقة قائلا: «لو كانت قادرة على القضاء على حماس نهائيا لفعلت ذلك» يعود فيناقض نفسه، ويريد أن يفرض في الخطة استسلامًا على غرار حل الحرب العالمية الثانية التي هزمت فيها ألمانيا واليابان هزيمة تامة أمام الحلفاء. أضعفت المقاومة الغزية ولم تهزم، لكن ترامب يضع خطة استسلام تام بدون بدون قيد ولا شرط على طرف لم يهزم هزيمة كاملة! أي أنه يعطي لإسرائيل عبر رعب العرب والمسلمين منه وتسخيرهم في الضغط على حماس ما لم يستطع نتنياهو وجيشه تحقيقه بحرب الإبادة المعتمدة على الأسلحة الأمريكية التي تفاخر ترامب أنه أعطاها «لبيبي»، وأن الإسرائيليين استخدموها جيدًا. في الغالب كان رئيس أكبر دولة في العالم يتحدث عن نجاح الأسلحة الأمريكية في شن أكبر مجزرة في التاريخ البشري الحديث، أو حرب الإبادة الجماعية التي خلفت نحو ربع مليون شهيد ومصاب في غزة.

يعود الإحكام ويختفي الغموض عند حديث الخطة عن مجلس سلام دولي يحكم غزة، ويعيد من جديد الانتداب الاستعماري على فلسطين الذي انتهى قبل النكبة. يدمر ترامب إنجازين عربيين:

الأول هو حكم الفلسطينيين لأنفسهم عبر حكومة تكنوقراط وافقت بها حماس على التخلي عن حكم غزة عبر تفريغها من مضمونها على طريقة أوسلو التي حولت السلطة لإدارة بلدية؛ إذ يجعل هؤلاء الفلسطينيين التكنوقراط مجرد إدارة بلدية للشؤون اليومية تحت حكم مجلس السلام المزعوم، ومجلس خبراء أجانب وغير أجانب يعطون الفلسطينيين الأوامر السياسية والأمنية.

الإنجاز الثاني الذي تنسفه خطة ترامب هو خطة إعادة إعمار غزة العربية - الإسلامية التي كانت أصلًا خطة مصرية، فتحولها خطة ترامب لفصل غزة عن الضفة لتكمل ما فعله الاستيطان الإسرائيلي في الضفة من تدمير لإمكانية قيام الدولة الفلسطينية. في خطة ترامب لإعادة الإعمار يستولى على غزة وتحول من أرض محررة إلى منتجع عقاري يحقق مصالح كوشنر وويتكوف وبلير وغيرهم. اللافت أن ترامب رمى حمل التمويل على دول الخليج، وليس على قوة الاحتلال التي دمرت القطاع.

اختتم المقال باعتراف معلق إسرائيلي هو جاكي خوري الذي يصف خطة ترامب بأنها تقود إلى احتلال ناعم لغزة فيما احتلال الجيش الإسرائيلي للقطاع احتلال خشن عنيف.

واختتمه أيضا بالذكاء الاصطناعي الذي عندما سألته عن التشابه في الغموض بين خطة ترامب واتفاق أوسلو أجاب: إن الخطة هي نسخة محدثة من أوسلو؛ حيث تقدم ترتيبات إدارية وأمنية مؤقتة كحل، بينما تفرغ القضية الفلسطينية من جوهرها المتمثل في الأرض والسيادة وتقرير المصير.

حسين عبد الغني كاتب وصحفي مصري

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الدولة الفلسطینیة اتفاق أوسلو خطة ترامب تمام ا

إقرأ أيضاً:

إبراهيم الرفاعي.. قائد العمليات المستحيلة وأسد سيناء الذي أرعب جنرالات إسرائيل

تحل اليوم ذكرى استشهاد إبراهيم الرفاعي، القائد المصري الأسطوري، الذي لقب بـ «أسد سيناء» وقائد العمليات المستحيلة»، حيث تولى قيادة «المجموعة 39 قتال صاعقة» خلال حرب أكتوبر 1973.

وارتبط اسم القائد إبراهيم الرفاعي بتنفيذ العديد من العمليات العسكرية الجريئة والناجحة خلف خطوط العدو، التي سببت خسائر فادحة لإسرائيل، وساهمت في رفع الروح المعنوية للقوات المصرية.

واستشهد إبراهيم الرفاعي في 19 أكتوبر 1973 خلال معركة «سرابيوم» لمنع تقدم القوات الإسرائيلية.

أبرز إنجازات القائد إبراهيم الرفاعي

- قائد المجموعة 39 قتال، التي أُسست من القوات الخاصة عقب نكسة 1967، وتخصصت في تنفيذ عمليات فدائية وصعبة.

- نفذ أكثر من 70 عملية عسكرية ناجحة خلال حرب الاستنزاف، بما في ذلك تدمير مطار الطور، وتدمير قطار للجنود الإسرائيليين، وتدمير معبر الجيش الإسرائيلي على قناة السويس.

- قاد عملية ناجحة لتدمير موقع المعدية 6، التي انطلقت منها المدفعية التي استشهد فيها الفريق عبد المنعم رياض، وقتل 44 جندياً إسرائيلياً، ورفع علم مصر على المعدية المدمرة.

- إبراهيم الرفاعي شارك في صد هجوم إسرائيلي في تقاطع سرابيوم، وقاتل ببسالة حتى استشهاده في 19 أكتوبر 1973.

إبراهيم الرفاعي، قائد العمليات المستحيلة وأسد سينا أبرز المعلومات عن القائد إبراهيم الرفاعي

- إبراهيم الرفاعي من مواليد عام 1931 في قرية الخلالة، مركز بلقاس بمحافظة الدقهلية

- إبراهيم الرفاعي التحق بالكلية الحربية عام 1951 وتخرج 1954

- إبراهيم الرفاعي انضم عقب تخرجه إلى سلاح المشاة وكان ضمن أول فرقة قوات الصاعقة المصرية في منطقة (أبو عجيلة)

- إبراهيم الرفاعي عُيَّن مدرساً بمدرسة الصاعقة وشارك في بناء أول قوة للصاعقة المصرية وعندما وقع العدوان الثلاثي على مصر 1956 شارك في الدفاع عن مدينة بورسعيد.

- إبراهيم الرفاعي تولى منصب قائد كتيبة صاعقة أثناء حرب اليمين، وخلال عام 1965 صدر قرار بترقيته تقديرًا للأعمال التي قام بها في الميدان اليمني.

- كانت أول عمليات هذه المجموعة 39 قتال صاعقة، التي كان إبراهيم الرفاعي قائداً بها، نسف قطار للعدو عند الشيخ زويد ثم نسف مخازن الذخيرة التي تركتها قواتنا عند أنسحابها من معارك 1967، وبعد هاتين العمليتين الناجحتين، وصل لإبراهيم خطاب شكر من وزير الحربية على المجهود الذي بذله في قيادة المجموعة.

- أُطلق على المجموعة اسم المجموعة 39 قتال، وذلك من يوم 25 يوليو 1969 وأختار الشهيد إبراهيم الرفاعي شعار رأس النمر كرمز للمجموعة.

اقرأ أيضاًبحضور أبطال الحرب.. .محافظ المنيا يشهد احتفالية المدرسة البريطانية بذكرى انتصارات أكتوبر

إعلان نتائج بطولة الشهيد الرفاعي للچودو بالجامعات والمعاهد العليا

بحصد 11 ميدالية فى لعبة الكونغ فو.. منتخب جامعة حلوان يتألق فى بطولة الشهيد الرفاعي

مقالات مشابهة

  • "أسلحة".. الفيلم الذي فاجأ الجميع وأصبح المفضل لعام 2025
  • إبراهيم الرفاعي.. قائد العمليات المستحيلة وأسد سيناء الذي أرعب جنرالات إسرائيل
  • إسرائيل تعلن إبقاء معبر رفح مغلقاً حتى إشعار آخر .. والسفارة الفلسطينية في مصر تُحدد موعداً لإعادة فتحه
  • الصحة الفلسطينية تستلم 15 جثماناً من إسرائيل تظهر عليها آثار تعذيب
  • إسرائيل هيوم: هل سيكون توفيق أبو نعيم زعيم حماس القادم بغزة؟
  • التعرف على هوية جثة الرهينة العاشر الذي عاد إلى إسرائيل من غزة
  • "نعم ولا".. غموض أميركي يُربك حسابات كييف وموسكو
  • أبو سلمان المغني.. رئيس عشائر غزة الذي رفض التعاون مع إسرائيل
  • نتنياهو يطلع ترامب على الخطوات التي تعتزم إسرائيل اتخاذها في غزة