صفقة الشرق.. مشروع قراءة اجتهادية
تاريخ النشر: 20th, October 2025 GMT
خالد بن سالم الغساني
لم أستطع التوقف عن التفكير بصوت مسموع منذ أن سقطت دمشق بتلك الطريقة التي توحي بأنَّ جميع من كانوا يدافعون عنها قد انشقت الأرض وابتلعتهم، والحديث لا يزال ساخنًا، والقراءات والتأويلات وحتى التلفيقات تتزاحم دون توقف، في محاولة لفهم ما جرى في منطقتنا العربية قبيل وأثناء وبعد التحوّل الكبير الذي أعقب سقوط النظام السوري السابق.
إن ما جرى هناك في رأيي، يعكس لحظة مفصلية في مسار الصراع العربي-الصهيوني، جديرة بالتوقف أمامها وتفكيك حلقاتها وخيوطها، لأن نتائجها ستنعكس على عموم واقعنا العربي لسنوات طويلة قادمة، حيث لا يمكن عدّ ذلك حدثًا طبيعيًا لنتائج الفوضى الخلاقة التي أحدثها ما يسمى بثورات الربيع العربي، شأنه كشأن الأنظمة العربية التي أٌسقطت قبله فحسب. لأن دمشق بدت عصيّة لسنوات عشر ونصف، وبدا معها أنها ستصمد إلى مالا نهاية، وهي التي ستغير مجرى الأحداث إيجابا لصالح القضية العربية الكبرى، وقضايانا العربية كافة، وليس العكس. لكن ذلك الرهان سقط لأن سوريا في تلك اللحظة المفصلية من التاريخ، أدخلت كملف رئيس وموضوع أخير في مفاوضات وتفاهمات الكبار لإعادة توزيع النفوذ، بعد ان تضع تاك التفاهمات، أمن إسرائيل في صدارة الأولويات. إنها صفقة الشرق التي يتزعمها ترامب والتي ستغيّر ملامح المنطقة في شكلها وجوهرها.
ففي خضمّ التحولات المتسارعة، تتقاطع القوى الكبرى عند مفترق طرق جديد، يعيد تشكيل ما يسمى بالشرق الأوسط على نحوٍ جديدِ لم يسبق له مثيل منذ اتفاق سايكس–بيكو؛ فالصراع لم يعد مواجهة عسكرية مباشرة، إذا استثنينا أوكرانيا باعتبارها المحطة التي أقتنع الجميع بأنه لا بد من التوقف عند نتائجها، التي لا يبدو أنها ستنتهي كما يشتهي أي من أطراف الصراع، بل لا بد من الجلوس ووضع شبكة مما يسمى بتفاهمات الضرورة يقوم بنسجها وحياكة خيوطها كل من واشنطن وموسكو، ثم أنقرة، بينما تتوزع نتائجها على خرائط المنطقة من ليبيا إلى العراق، ومن اليمن إلى سوريا. وفي عمق هذه الشبكة الملتبسة، يبرز سؤال واحد يقود الخيوط جميعها:
من الذي يصوغ الشرق الأوسط القادم، ولأيّ أمن تُرسم حدوده؟
منذ أن دخلت روسيا بطلب من النظام الحاكم حينها، في الحرب السورية عام 2015، بدا أن موسكو جاءت لتعيد للنظام توازنه، ولكنها أيضًا لتستعيد موقعها كقوة عظمى قادرة على تحدي النفوذ الأمريكي. غير أن الزمن كشف أن الهدف الأول المتمثل في إعادة التوازن للنظام السوري، لم يكن بالنسبة لها أكثر من ورقة نفوذ مؤقتة، سرعان ما تحوّلت إلى عبء ثقيل يحدّ من قدرة موسكو على المناورة مع الغرب وتركيا. وفي المقابل، كانت واشنطن- وخصوصًا في عهد دونالد ترامب- تسير في اتجاه معاكس، تسحب جنودها وتقلّص التزاماتها، لكنها تُبقي يدها على مفاتيح القرار من خلال الحلفاء الإقليميين، لتمنح نفسها القدرة على التحكم في موازين الصراع من بعيد.
علاوة على المجابهات الكبرى في الحرب الدائرة بين روسيا من جهة وأمريكا والغرب من جهة أخرى.
ومن رحم هذا التراجع الأميركي في سوريا، والإنهاك الروسي في المسارين الأوكراني والسوري، ولدت فكرة الصفقة الكبرى، صفقة لا تقوم على إعلان مشترك، بل على تفاهم يتيح لكل طرف تحقيق جزء من أهدافه: روسيا تُحافظ على موطئ قدم استراتيجي في الساحل السوري، وتتنفس قليلًا من أعباء الحرب الدائرة هناك، وتركيا توسّع نفوذها شمالًا عبر سلطة محلية مرنة، بينما تعيد الولايات المتحدة ترتيب أولوياتها العالمية من دون خسائر ميدانية كبيرة. لكن في قلب هذه المعادلة الغامضة تقف إسرائيل، لا كقوة مساوية للكبرى، بل كأداة أمنية محورية في مشروع إعادة هندسة المنطقة.
التنسيق الروسي- الإسرائيلي لم يتوقف قبل دخول موسكو الحرب وأثنائها، إذ سمحت روسيا لتل أبيب بضرب الأهداف الإيرانية في سوريا من دون اعتراض، في الوقت الذي أعلنت فيه عن صفقة منظومة صواريخ "إس 400" لدمشق وتاليًا لإيران، دون أن نرى أي تأثير لتلك المنظومة في صد المقاتلات الإسرائيلية التي تغير بين الحين والآخر على سوريا وعاصمتها، مقابل التزام إسرائيل بعدم المساس بمصالح روسيا المباشرة. ومع مرور الوقت، لم تعد إسرائيل تنتظر من الصفقة ضمان أمن حدودها الشمالية، بل أصبحت هي من يضع الشروط مسبقًا عبر واشنطن. فإبعاد إيران عن الجولان أصبح جوهر الصفقة نفسها، وأي سلطة سوريَّة جديدة ستُبنى على أساس هذا المبدأ.
وإذا علمنا بأن صعود الجولاني إلى الحكم، الرجل المُصنَّف على رأس قائمة الإرهاب العالمية، والمطلوب أمريكيًا، قد جاء فعلًا بدعم أمريكي- تركي، فذلك لا يعكس فقط موضوع إعادة ترتيب داخلية في بنية المعارضة، بل تنفيذًا لمخطط إقليمي كبير، ظلت الولايات المتحدة الأمريكية، تعمل عليه منذ عقود ليست قليلة، في إطار ما يسمى بالشرق الأوسط الجديد، يهدف في النهاية إلى إحلال سلطة سوريَّة جديدة أكثر قابلية للتماهي مع المنظومة الغربية، وأقل عداءً لإسرائيل، بل صديقة لإسرائيل تاليًا.
واشنطن تسعى إلى إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا من دون انخراط مباشر، وتركيا تؤدي الدور التنفيذي في الميدان، فيما تضمن تل أبيب أن تكون النتائج النهائية جزءًا من منظومة أمنها الشامل. بهذه المعادلة، تتحول دمشق من "عاصمة الصمود" إلى عاصمة تسوية تُدار بتفاهمات الخارج لا بإرادة الداخل.
التطبيع مع إسرائيل لن يكون استثناءً في هذا السياق، بل الخطوة الطبيعية التالية. فالنظام الجديد، أيًّا كان شكله أو رموزه، سيجد نفسه مطالبًا بفتح قنوات تواصل سياسية واقتصادية تحت شعار "السلام مقابل الإعمار". وحتى الجولان، الذي كان رمزًا للممانعة العربية، قد يُطرح كورقة تفاوضية تُستبدل فيها الوعود بالتمويل، لتتحول القضية من ملف سيادة إلى بند استثماري ضمن مشروع إعادة الإعمار.
إنّ ما يجري اليوم في سوريا ليس معزولًا عن حركة التاريخ، فمن يتتبع حلقات المؤامرة سيجدها حلقة من الحلقات الأخيرة، أو ربما هي الأخيرة من حلقات إعادة هندسة شاملة للشرق الأوسط، يجري فيها تقاسم النفوذ وتبديل الأدوار على قاعدة واحدة: أمن إسرائيل وفرض وجودها واستقرار حدودها التي سيعمل على ترسيمها لاحقًا.
مرة أخرى، روسيا التي أرهقتها أوكرانيا تبحث عن تسوية تحفظ مصالحها من دون مواجهة جديدة، والولايات المتحدة تسعى إلى تثبيت نظام إقليمي متماسك يخدم استراتيجيتها الأوسع، وتركيا تريد حصة سياسية واقتصادية في الجغرافيا العربية، فيما تتلقى إسرائيل الثمار بوصفها البنت المدللة من دون أن تدفع الكلفة.
إنّ صفقة الشرق الملتبسة هذه، لا تضع حدًا لانتهاء الحرب السورية فحسب؛ بل إنها أيضًا بداية مرحلة جديدة من ما يمكن تسميته بسلام القوة، حيث تُصاغ المعادلات بالمال والنفوذ، لا بالمبادئ. إنها تسوية لا تُعلن بنودها في المؤتمرات، بل تُكتب في غرف الاستخبارات، وتُنفذ على الأرض وبالقوة الضامنة للكبار، تحت شعارات الإصلاح والاستقرار لشعوب وبلدان المنطقة.
وفي هذا الشرق الملتبس، يطرح سؤال الخاتمة نفسه: من يبقى حاضرًا في خريطةٍ يعاد رسمها لتخدم أمن إسرائيل أولًا، ثم تُوزع الفتات على الباقين؟!
فهل هناك قراءات أكثر وضوحًا وواقعيةً من هذه القراءة الاجتهادية الخاصة والمسموعة؟!!
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ويتكوف إلى الشرق الأوسط.. ماذا ستناقش الزيارة؟
قالت تقارير إعلامية، السبت، إن المبعوث الأميركي الخاص ستيف ويتكوف سيتوجّه إلى الشرق الأوسط مساء الأحد لمتابعة تنفيذ المرحلة الأولى من خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن غزة.
وأكد مصدر مطلع لصحيفة "تايمز أوف إسرائيل" أن الزيارة ستتم بالفعل، فيما نقل موقع أكسيوس عن مصدر آخر أن ويتكوف سيزور إسرائيل ومصر، وربما يتوجّه أيضا إلى قطاع غزة.
وبحسب التقرير، من المقرر أن يركّز ويتكوف خلال جولته على تسريع تشكيل القوة الدولية للاستقرار (ISF)، وعلى مشروعات إعادة الإعمار في المناطق الخارجة عن سيطرة حركة حماس، ولا سيما في مدينة رفح.
وتأتي الزيارة وسط تنامي الاستياء داخل إسرائيل مما يُنظر إليه على أنه مماطلة من جانب حماس في إعادة جثامين الرهائن الإسرائيليين، في وقت تتهم فيه الحركة بتنفيذ عمليات قتل واعتقال ضد فصائل فلسطينية منافسة في القطاع.
وقال مسؤول إسرائيلي رفيع لموقع "أكسيوس": "نعتقد أن حماس تحتجز ما بين سبع إلى عشر جثامين يمكنها تسليمها في أي لحظة، لكنها تختار عدم القيام بذلك وتفتعل أزمة".
وأضاف المسؤول أن الرئيس ترامب أجرى اتصالا هاتفيا مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثناء اجتماعه مع مستشاريه لبحث رفض حماس إعادة الجثامين، وأن نتنياهو أبلغه بمخاوف إسرائيل من هذه المسألة. ووفق المسؤول نفسه، أكد ترامب أنه يتابع القضية شخصيا.
ونقل أكسيوس وهيئة البث الإسرائيلية أن واشنطن أبلغت تل أبيب بأن قضية الجثامين يجب ألا تُستخدم ذريعة لفرض عقوبات أو تعطيل تنفيذ المراحل التالية من الاتفاق.
ومنذ بدء تطبيق المرحلة الأولى من خطة ترامب، أعادت حماس جثامين تسعة رهائن توفوا خلال احتجازهم، بالتزامن مع إطلاق سراح آخر عشرين رهينة أحياء يوم الإثنين الماضي. فيما لا تزال جثامين 19 رهينة أخرى داخل غزة.