د. عبدالله الغذامي يكتب: الدفاع عن النفس.. الخدعة الثقافية
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
لا يظهر اختلاط الحق بالباطل كما يظهر في مقولة (الدفاع عن النفس) والدفاع عن النفس يأتي ليكون أكبر حقوق الذات وهو حق أخلاقي بمثل ما هو حق وجودي، ولا مشاحة في حقوقية هذا الحق، غير أن البشر تعلموا على مدى تاريخهم كله كيف يوظفون الحق لخدمة أنانيتهم وقضاياهم الخاصة، وفي سيرة البشر سلكوا طريقين في الاحتيال على معنى الدفاع عن النفس، أولهما هو في نظرية عسكرية ابتكرها العقل البشري وهي نظرية (الحرب الاستباقية) وهذه تقوم على فكرة افتراضية وهمية تفترض أن هناك عدواً ما وهذا العدو يتقوى لكي يعتدي، ولذا يجب إيقاف استقوائه بكسر قوته قبل أن تشتد وتصنع له شدته قدرةً على الاعتداء، وتتكشف خدعة هذه النظرية أن الذي يقول بها عادةً هو القوي والمهيمن أصلاً، فهو في حقيقة الأمر يريد تثبيت هيمنته عبر كبح أي قوة منافسة ولو افتراضاً، ويتحول الافتراض ليكون حقيقةً مسلماً بها، حتى لتحدث فعلاً ومن ثم تقوم الحرب الاستباقية تحت دعوى الدفاع عن النفس.
أما التوظيف الثاني فيأتي من رد الفعل المفرط على أي اعتداء ولو كان بسيطاً وضعيف الحيلة حيث يهب الغرور السلطوي بالرد بقوة مفرطة لا تذر ولا ترحم كما فعلت إسرائيل في ردها على هجوم يوم السابع من أكتوبر 2023، حيث استخدمت فكرة الدفاع عن النفس لشن حرب طاحنة وعمياء ضد شعب كامل في غزة كانوا مسالمين آمنين فتدمرت بيوتهم ومدارسهم ومستشفياتهم وهذه كيانات مدنية وغير محاربة ولا علاقة لها بالنزاع بين إسرائيل وحماس، وما فعلته إسرائيل هو خدعة ثقافية تحرف المعاني مثلها مثل فكرة الحرب الاستباقية وكلاهما صور لمقولة مستلبة هي حق الدفاع على النفس، أي تكون عدوانياً لكي تأمن، وتمنع غيرك أن يتقوى كي لا يتحدى قوتك، وتنتهي القضية بنشر ثقافة الهيمنة والإقصاء وسحق الغير مهما كان هذا الغير.
كاتب ومفكر سعودي
أستاذ النقد والنظرية/ جامعة الملك سعود - الرياض أخبار ذات صلة
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: الغذامي عبدالله الغذامي الدفاع عن النفس
إقرأ أيضاً:
متواليات الضحك مع الجميع
من حُسن الحظّ، أن المآسي والمحن، والصراعات التي مرّت بها بلداننا العربيّة، لم تجعل ثقافتنا ثقيلة الدم، ففيها نجد النكتة حاضرة، مثلما نجدها في ثقافات شعوب العالم التي تتبختر بالرفاهيّة، وحتى تلك التي تعيش تحت خطّ الفقر، ومنها الجماعات الإفريقية التي نجد الابتسامة لا تفارق وجوه أفرادها، وربما جاء حضور النكتة لدى بعض الشعوب التي عانت من الويلات والحروب والنكبات من باب السخرية أو «ضحك كالبكا»، ورغم ذلك، فهو في النهاية ضحك، وفيه ترويح عن النفس الأمّارة بالحزن.
وقد حفظتْ لنا الكتب التراثية العديد من النوادر، وكنتُ كلما أشعر بالضيق ألجأ إلى كتاب» المستطرف في كلّ فن مستظرف» لشهاب الدين الأبشيهي(ت 1448م)، والمستظرف تعني الممتع والطريف، ففيه الكثير مما يبهج النفس ويروّح عنها، فقد جمع به الأبشيهي الكثير من القصص والأشعار والنكت الطريفة مازجا بين الجدّ والهزل، ولا يقف كتاب (المستطرف) بمفرده في المكتبة العربية، ففي تراثنا توجد كتب أخرى تحتوي على أخبار طريفة، ومن بينها كتاب (أخبار الحمقى والمغفّلين) لابن الجوزي، و(البخلاء) للجاحظ.
ومما أذكر، فإنّ أوّل كتاب وقعت عيني عليه، بعد أن تعلّمت القراءة والكتابة كان عنوانه (100 نكتة ونكتة)، وقد وضع الناشر تحت العنوان عبارة (اضحكْ تضحك لك الدنيا)، وجاءت صورة الغلاف على هيئة وجه ضاحك في كتاب منشور بطبعة شعبية، وورق أسمر، فالنكتة بضاعة رائجة، ولها جمهور واسع، متعطّش للضحك، والمرح، ومن هنا، فالمسارح التي تعرض مسرحيات هزلية تجد إقبالا كبيرا من الجمهور، ويضطرّ مرتادوها إلى الحجز المسبق، بينما يستهوي المسرح الجاد قلّة من المهتمّين، فهو مسرح نخبوي، يتوجّه للنخب المثقّفة، لذا انحسر هذا النوع من العروض، واقتصر على المهرجانات، وقد رمز الإغريق للكوميديا بالقناع الأبيض الضاحك، فيما رمزوا للتراجيديا بالقناع الأسود، لذا اعتاد مصمّمو الإعلانات المسرحيّة على وضع قناعين؛ الأبيض المبتسم، والأسود المتجهّم، في دلالة إلى عنصري الخير والشر، والفرح والحزن، وهما الدعامتان اللتان تقوم عليهما الدراما، فللحياة وجهان، وجه سعيد ووجه حزين ودراما الحياة فيها السعادة والحزن معا.
وفي عقود مضت كانت تصدر مجلات متخصّصة بنشر النوادر، والقصائد الساخرة، ومن أقدمها، مجلة (التنكيت والتبكيت) التي أصدرها عبدالله النديم في مصر عام 1881م، وجريدة (الكرخ) التي أصدرها الملا عبود الكرخي عام 1927 وهي جريدة هزلية، و(حبزبوز) لصاحبها نوري ثابت الصادرة عام 1931م، ومن المجلات المتخصّصة بالنكت والرسوم الكاريكاتيرية والشعر الهزلي مجلة ( الفكاهة) ويعود تاريخ صدورها إلى عام 1950 م في الكويت، وواصلت صدورها حتى عام 1985م وهناك مجلة (الفكاهة) العراقية التي كانت تصدر في الستينيات، و(المتفرّج) ومجلّات فكاهيّة أخرى.
ولكنّ الكثير من الحكايات الطريفة لم يدوّن، وبقي شفاهيّا، يروى في المجالس، فالضحك يزدهر مع الجماعة، فهو طقس جماعي، ففقدناها بفعل النسيان، وتبدّل الأحوال، ورحيل نجوم الكوميديا.
والنكتة، كما يعرّفها الباحث طالب الأحمد (النكتة في مجتمع حزين) في كتابه الصادر عن دار (السرد للطباعة والنشر) في بغداد 2024م، «سرديّة شفويّة، أو مكتوبة تقترب في الشكل من الأقصوصة، وتطرح مضمونا مثيرا للإضحاك ينطوي على رمزية لا يمكن فهمها خارج سياق الثقافة الشعبية التي تمنحها المعنى»، وهي ليست فقط للتسلية، فلها أهداف وغايات، وتعطي مؤشرا «إلى حيوية المجتمع ونباهته، وحدّة ذكائه وقدرته على الصبر وتحمل الصعاب والأهم من كل ذلك قوة إيمانه وحبه للحياة»، كما يرى الباحث (طالب الأحمد)، ولها أبعاد فكرية، فهي تحمل الكثير من المضامين، فخضعت في النقد الثقافي للتحليل أسوة بالإعلان، والفولكلور، والطقوس الشعبية، مثلما خضعت لدراسات المتخصّصين بعلم النفس، ويذكر (طالب الأحمد) في كتابه أن الدكتور قاسم حسين صالح قام بتحليل النكات من الناحية النفسية، فوجد أن النكت البذيئة «تقلُّ في شعوب البلدان المتطوّرة وتكثر في الشعوب المتخلّفة لاسيّما بين الشرائح الاجتماعية الشعبية» واعتبر أن النكتة البذيئة عنف لفظي لعدوان مكبوت ضد آخر بهدف النيل من مكانته الاعتبارية، ولهذا، فإنها تعدُّ مادة علمية لعلماء النفس والاجتماع يستطيعون الكشف من خلالها عن الأفكار والميول العدوانية لدى الطوائف والمكونات الاجتماعية.
وحين أتذكّر كتاب (100 نكتة ونكتة) أستحضر عبارة بقيت راسخة في ذهني هي «إذا أردت أن تضحك، فاضحكْ مع الناس وإذا أردتَ أن تبكي، فابكِ وحدك» ومن يومها عرفتُ أنّ الضحك حين يخرج من الفرد إلى الجماعة، يكون كفيلا بإشاعة الفرح، والبهجة في المجتمع، ويستطيع الإنسان السيطرة على الحزن عندما لا يجاهر به، فالحزن ينتشر بالعدوى، ضمن متوالية عدديّة، وكذلك الفرح، ومن يومها وأنا أضحك مع الجميع وأحزن وحدي.