سواليف:
2025-10-25@08:18:16 GMT

ذكاء الإدارة ورهان المستقبل

تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT

#ذكاء_الإدارة و #رهان_المستقبل

الاستاذ #الدكتور_أمجد_الفاهوم

لم يعد الذكاء الاصطناعي ترفًا تنظيريًا في الإدارة الأردنية، بل أصبح محورًا أساسيًا في مسيرة الإصلاح الإداري والرقمنة الحكومية. فمنذ إطلاق استراتيجية الذكاء الاصطناعي وخطة التنفيذ 2023–2027 بقيادة وزارة الاقتصاد الرقمي والريادة، ترسخت رؤية وطنية تجعل الأردن مركزًا إقليميًا فاعلًا في هذا المجال، من خلال التركيز على محاور الحوكمة والبنية التحتية والمهارات والابتكار، مع ربطها الوثيق بأجندة التحديث الاقتصادي ورقمنة الخدمات الحكومية.

وقد جاءت هذه الخطوات منسجمة مع خارطة تحديث القطاع العام 2022–2025 التي وضعت الأسس الثلاثة للإصلاح الإداري وهي تطوير الخدمات، وتحسين أداء المؤسسات، وتعزيز صناعة القرار، مما أتاح بيئة خصبة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في الإدارة العامة وتحليل البيانات وصياغة السياسات.

ويبرز في هذا السياق الدور الريادي والداعم لسمو ولي العهد الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، الذي جعل من التحول الرقمي وتمكين الشباب من أدوات التكنولوجيا الحديثة أحد محاور رؤيته لمستقبل الدولة الأردنية. فقد وجّه سموه مرارًا إلى أهمية بناء حكومة ذكية وشباب مؤهل رقميًا، ورعاية مبادرات الابتكار وريادة الأعمال التكنولوجية، وتوفير بيئة تُحفّز على التفكير الإبداعي واستخدام الذكاء الاصطناعي في تطوير الخدمات العامة. كما دعم سموه مبكرًا مبادرات مثل “أسبوع الذكاء الاصطناعي” و“برنامج التحول الرقمي الحكومي”، وأسهم في ترسيخ ثقافة مؤسساتية ترى في التكنولوجيا وسيلة للنهوض الإداري والاقتصادي والاجتماعي، لا غاية شكلية.

مقالات ذات صلة من حكم الانتداب إلى وصاية ترامب 2025/10/24

ورغم هذا التقدم، لا تزال التحديات قائمة؛ فالتجزئة في قواعد البيانات الحكومية، وتفاوت جودة المعلومات، وبطء تحديث الأنظمة القديمة، تمثل عقبات حقيقية أمام التحول الشامل. كما تعاني المؤسسات من نقص الكفاءات المتخصصة في علوم البيانات، وتعقيدات المشتريات الحكومية التي لا تزال غير مهيأة للتقنيات الناشئة. وإلى جانب ذلك، تبرز تحديات الخصوصية والمخاطر الأخلاقية المرتبطة بالتحيزات الخوارزمية، مما يستدعي موازنة دقيقة بين الانفتاح والرقابة.

ولمواجهة هذه التحديات، اتخذت الحكومة الأردنية مجموعة من الإجراءات الحاسمة، كان أبرزها قانون حماية البيانات الشخصية رقم 24 لسنة 2023 الذي نظم عمليات المعالجة والاستخدام وحدد حقوق الأفراد والتزامات المؤسسات، إلى جانب سياسة الحوسبة السحابية الحكومية لعام 2020 التي وضعت إطارًا لتأمين البيانات وتبادلها بين الجهات الرسمية. كما عززت الحكومة جهودها من خلال الإطار الوطني للأمن السيبراني الذي حدد الأدوار المؤسسية والخطط التنفيذية لحماية البنية التحتية الرقمية والخدمات العامة.

وقد انعكست هذه الجهود بوضوح في تقدم مشروع الهوية الرقمية الموحدة من خلال تطبيق “سند”، الذي بات البوابة الرئيسة لمئات الخدمات الإلكترونية، متيحًا قاعدة بيانات موثوقة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في التحقق والتخصيص وتحليل رحلة المستخدم. ومع وصول عدد المستخدمين إلى أكثر من 1.6 مليون في عام 2025، تتجه الحكومة إلى توسيع المنظومة لتشمل أغلب المواطنين بحلول نهاية العام، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التحول الذكي في الإدارة الحكومية.

ورغم ما تحقق، فإن الذكاء الاصطناعي في الإدارة الأردنية ما زال بحاجة إلى الانتقال من المشاريع التجريبية إلى الأنظمة التشغيلية المستدامة. ويتطلب ذلك توحيد معايير البيانات الحكومية، وتفعيل الحوكمة الرقمية، وإصدار أدلة تنظيمية لاستخدام الذكاء التوليدي في العمل الحكومي، مع تطوير سياسات المشتريات لتصبح أكثر مرونة وتقييمًا للمخاطر. كما يبرز هنا الدور الحيوي لبناء القدرات الوطنية، من خلال إعداد قيادات وكوادر حكومية قادرة على إدارة هذه التحولات بوعي واحتراف.

ومن المفيد هنا ان ننظر بإيجابية لتجارب المنطقة التي تقدم نماذج ملهمة يمكن الاستفادة منها. ففي الإمارات، يُوظف الذكاء الاصطناعي في صياغة التشريعات عبر “مكتب الاستخبارات التنظيمية” وتطوير الخدمات الصحية عبر منصات موحدة، بينما تعتمد السعودية من خلال هيئة البيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) نهجًا وطنيًا موحدًا يُغطي كافة الجهات الحكومية ضمن رؤية 2030. أما قطر فقد ركزت على بناء شراكات عملية مع الشركات العالمية لتطوير تطبيقات حكومية قابلة للقياس خلال فترات زمنية محددة. وانطلاقًا من هذه التجارب، يمكن للأردن أن يخطو خطوات متقدمة عبر إنشاء هيئة وطنية لحوكمة البيانات، وإطلاق “مراكز تميز” في الوزارات لقيادة التحول الذكي، وتطبيق مفهوم العقود القائمة على النتائج في مشاريع الذكاء الاصطناعي الحكومية، بما يضمن تحقيق الأثر الحقيقي على جودة الخدمات ورضا المواطنين.

إن الذكاء الاصطناعي في الإدارة الحكومية ليس مجرد أداة تقنية، بل هو فكر إداري جديد يربط الكفاءة بالشفافية، ويجعل الدولة أكثر استباقية في فهم احتياجات الناس وصياغة السياسات العامة. وإذا ما أحسن الأردن استثمار هذا التحول، مستلهمًا رؤية القيادة الهاشمية ودعم سمو ولي العهد لمسار الرقمنة الوطنية، فإنه لن يعزز فقط أداء الإدارة، بل سيصنع نموذجًا عربيًا رائدًا يجمع بين التحديث والحوكمة والإنسانية في آن واحد.

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: رهان المستقبل الذکاء الاصطناعی فی فی الإدارة من خلال

إقرأ أيضاً:

حكم استخدام الذكاء الاصطناعي في مراقبة الموظفين

أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر مقوعها الرسمي مضمونة:"ما هو حكم استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لمراقبة الموظفين في بيئة العمل؟ وهل يجوز أن يمتد ذلك إلى تتبع خصوصياتهم خارج نطاق الوظيفة؟".

لترد دار الإفتاء موضحة: أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل إن كان لمتابعة إنجاز المهام، وضبط أوقات الدوام، وحماية البيانات، ونحو ذلك من الأغراض المشروعة، فلا حرج في ذلك شرعًا إذا روعي فيه أن يكون مقصورًا على نطاق العمل، وفي حدود الضوابط التي تنظمها القوانين واللوائح المعمول بها.

وأمَّا استخدامها في غير ذلك من نحو تتبع الحياة الخاصة للموظفين وتتبع عوراتهم، أو مراقبة ما لا يتعلق بالعمل، أو جمع بياناتهم واستغلالها خارج ما تسمح به اللوائح والقوانين -فإن ذلك يكون مُحرَّمًا شرعًا، ومُجرَّمًا قانونًا.

الذكاء الاصطناعي بين النعمة والتسخير الإلهي

الذكاء الاصطناعي من أبرز ما وصل إليه الإنسان في ميدان الابتكار والتطوير التكنولوجي، وهو ثمرةٌ من ثمار العقل الذي أودعه الله فيه، وتسخيرٌ من تسخيرات الله تعالى لعباده، قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: 29]، وقال جل شأنه: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 13].

وتُعدُّ تقنيات الذكاء الاصطناعي أداةً نافعةً في خدمة الإنسان وتيسير شؤونه، متى استُعملت في الخير، وضُبطت بضوابط الشرع الحنيف.

دعاء للأم بالصحة والعافية.. ردّده يحفظها الله من كل مكروه وسوءدعاء بعد صلاة الليل مفاتيح الجنان .. أدركه بـ 6 كلمات مُستجابة

الحكم الشرعي لاستخدام الذكاء الاصطناعي
بالنظر إلى الحكم الشرعي لاستعمال هذه التقنيات، فإنَّ الأصل في استخدام الذكاء الاصطناعي هو الإباحة، ما لم يندرج في صورةٍ مُحرَّمةٍ شرعًا، وذلك عملًا بالقاعدة الفقهية المقررة أن "الأصل في الأشياء الإباحة".

قال العلامة شيخي زاده في "مجمع الأنهر" (3/ 568، ط. دار إحياء التراث العربي): [واعلم أنَّ الأصل في الأشياءِ كلِّها سوى الفروج الإباحة] اهـ.

وقال الإمام الزُّرقَاني في "شرح مختصر خليل وحاشية البناني" (1/ 320، ط. دار الكتب العلمية): [الأصل في الأشياء الإباحة حتى يثبت النهي] اهـ. وينظر: "الأشباه والنظائر" للإمام الحافظ السُّيُوطي (ص: 60، ط. دار الكتب العلمية)، و"مطالب أولي النهى" للعلامة الرُّحَيبَاني (6/ 218، ط. المكتب الإسلامي).

ضوابط استخدام الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل
استخدام الذكاء الاصطناعي وإن كان مباحًا من حيث الأصل لما تقرر، إلا أنه تابعٌ في الحكم لمقصوده، فمتى كان وسيلة لأمر مشروع أخذ حكم المشروعية، ومتى كان وسيلة لأمرٍ منهيٍّ عنه أخذ حكمه؛ لما تقرَّر في الشرع الشريف من أنَّ "للوسائل أحكام المقاصد"، كما في "قواعد الأحكام" للإمام عز الدين بن عبد السلام (1/ 53، ط. مكتبة الكليات الأزهرية).

ومن ثَمَّ فإنَّ استخدامَ تقنيات الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل يَختلف حكمه باختلاف الغرض والكيفية منه، فإذا كان الاستخدام داخل بيئة العمل لمتابعة إنجاز المهام، وضبط أوقات الدوام، وحماية بيانات الشركة، وصيانة مصالح العمل والعملاء، ونحو ذلك، فهو جائزٌ من حيث الأصل لما تقدَّم، على أن يلتزم بجملة ضوابط؛ أهمها:

- إعلام الموظفين مسبقًا بهذه الرقابة؛ تحقيقًا لمبدأ الشفافية.

- ألَّا يتجاوز النظامُ حدودَ العمل إلى الحياة الخاصة واتباع العورات.

- أن يقتصر على القدر الضروري لتحقيق المصلحة للعمل ومقتضياته.

موقف القانون المصري من حماية البيانات الشخصية
قد أيَّد المشرع المصري هذه الضوابط من الناحية القانونية في قانون حماية البيانات الشخصية رقم 151 لسنة 2020م؛ حيث نصَّ في المواد (2، 3، 8، 12) على أنَّ جمع أو معالجة البيانات الشخصية لا يكون إلا بموافقة صريحة من صاحبها، وللغرض المعلَن فقط، وفي الحدود الضرورية، مع الالتزام بحفظها وصونها من أي إفشاء أو استعمال غير مشروع، فضلًا عن إلزام المؤسسات بتعيين مسؤول لحماية البيانات، بما يكفل احترام خصوصية الموظفين وصون حقوقهم القانونية.

كما أكد المجلس الوطني المصري للذكاء الاصطناعي في رؤيته التنظيمية، من خلال "الميثاق المصري للذكاء الاصطناعي المسؤول" (الإصدار الأول- 2023م)، على وجوب خضوع ضوابط وآليات استخدام الذكاء الاصطناعي للقوانين والتشريعات المعمول في الدولة ذات الصلة، فنص في المبادئ التوجيهية العامة (الفقرة رقم 7) على أن: [تخضع جميع مراحل دورة حياة نظام الذكاء الاصطناعي -بما في ذلك جمع واستضافة وهندسة البيانات والتطوير والاختبار والنشر والتشغيل المستمر والمراقبة والصيانة- إلى قوانين جمهورية مصر العربية ذات الصلة، ومن ذلك: قوانين حماية المستهلك، وحماية البيانات الشخصية، ومكافحة جرائم تقنية المعلومات] اهـ.

حكم استخدام الذكاء الاصطناعي لتتبع الخصوصيات والحياة الشخصية للموظفين
أمَّا إذا كان الاستخدام لتتبع خصوصيات الموظفين خارج نطاق العمل، أو الاطلاع على حياتهم الشخصية وما لا صلة له بأداء وظائفهم، فهو أمرٌ محرَّمٌ شرعًا؛ لاشتماله حينئذ على عدة محظورات، من أبرزها: انتهاك الخصوصيات والتعدي عليها، والتجسس على الناس، وتتبع عوراتهم.

ومن المقرَّر في الشريعة الإسلامية صونُ حرمة الحياة الخاصة للأفراد، واعتبارها من الحقوق الشرعية التي لا يجوز انتهاكها أو التعدي عليها بغير مسوِّغ شرعي.

ومن أبرز مظاهر ذلك: ما قرره الشرع الشريف من وجوب الاستئذان في دخول البيوت؛ حفظًا لخصوصية الإنسان في هيئته وشؤونه؛ ذلك لأن المرء في بيته غالبًا ما يكون في صورة غير التي يقابل بها الناس، فحفظ الإسلام له ذلك الحق، وأمر المسلمين ألا يدخلوا بيوتًا غير بيوتهم إلا بعد أن يستأذنوا، بل ويشعروا بالاستئناس بهم أيضًا، قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا﴾ [النور: 27].

قال الإمام الطبري في "جامع البيان" (19/ 149، ط. مؤسسة الرسالة): [إن الاستئناسَ الاستفعالُ من الأُنس، وهو أن يستأذن أهل البيت في الدخول عليهم، مخبرًا بذلك مَن فيه، وهل فيه أحد؟ وليؤذنهم أنه داخل عليهم، فليأنس إلى إذنهم له في ذلك، ويأنسوا إلى استئذانه إياهم] اهـ.

كما قررت السُّنة النبوية قاعدة عامة في صيانة خصوصيات الناس وترك التدخل فيما لا يعنيه، فعن أَبِي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مِن حُسنِ إِسلَامِ المَرءِ تَركُهُ مَا لَا يَعنِيهِ» أخرجه الإمامان: الترمذي، وابن ماجه.

كما نهى الشرع الحنيف عن التجسُّس وتتبع عورات الناس، وتحسُّس أفعالهم وأقوالهم، وحذَّر أيَّما تحذيرٍ من الإقدام على أيٍّ من هذه الأفعال، حتى وإن كان الهدفُ إنكارَ المنكر؛ لما في ذلك من تعدٍّ على حُرمة الآخرين، وإفسادٍ للعلاقات الطيِّبة بينهم، وجلبٍ للكراهية والبغضاء، فقال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]، والمعنى: لا تتبع ما لا تعلم ولا يعنيك، كما في "الجامع لأحكام القرآن" للإمام القُرطُبي (10/ 257، ط. دار الكتب المصرية).

وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَا تَجَسَّسُواْ﴾ [الحجرات: 12]، أي: ولا يتتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، كما في "جامع البيان" للإمام الطبري (22/ 304، ط. مؤسسة الرسالة).

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِيَّاكُم وَالظَّنَّ؛ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكذَبُ الحَدِيثِ، وَلَا تَحَسَّسُوا، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخوَانًا» أخرجه الإمامان: البخاري واللفظ له، ومسلم. ولهذا عدَّ الإمامُ الحافظُ الذهبي في كتابه "الكبائر" (ص: 159، ط. دار الندوة الجديدة) "الكبيرة الثانية والأربعون: التسمع على الناس وما يسرون" من جملة الكبائر التي توعد الله تعالى مرتكبها بالعقاب.

بل قد شدَّد الشرع الشريف في التحذير من التجسس، والخوض في أعراض الناس والتنقيب عن عوراتهم، مبينًا أن من اعتاد ذلك عرَّض نفسه للفضيحة، إذ يفضحه الله تعالى ولو كان في جوف بيته، فعن ثوبان رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تُؤذُوا عِبَادَ اللهِ، وَلَا تُعَيِّرُوهُم، وَلاَ تَطلُبُوا عَورَاتِهِم؛ فَإِنَّهُ مَن طَلَبَ عَورَةَ أَخِيهِ المُسلِمِ طَلَبَ اللهُ عَورَتَهُ حَتَّى يَفضَحَهُ فِي بَيتِهِ» أخرجه الإمامان: أحمد واللفظ له، والطبراني في "المعجم الأوسط".

كما حذَّر الشرع من التطلع إلى ما كل ما يخص المسلم من مكتوبٍ أو نحو ذلك دون إذن صاحبه، فجاء الوعيد الشديد لمن تعمد ذلك، سواء أكان بالنظر أو بالاستماع، حتى عُدَّ ذلك في كلام بعض أهل العلم نوعًا من السرقة.

فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «لَا تَستُرُوا الجُدُرَ، مَن نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيرِ إِذنِهِ فَإِنَّمَا يَنظُرُ فِي النَّارِ» أخرجه الأئمة: أبو داود، والطبراني، والحاكم وصححه.

قال الإمام ابن الأثير في "النهاية في غريب الحديث والأثر" (4/ 147-148، ط. المكتبة العلمية): [هذا تمثيلٌ: أي كما يَحذَر النارَ فليَحذَر هذا الصنيع. وقيل: معناه: كأنما ينظر إلى ما يُوجِبُ عليه النارَ. ويحتمل أنه أراد عقوبة البصر؛ لأن الجناية منه، كما يعاقب السمع إذا استمع إلى حديث قومٍ وهُم له كارهون، وهذا الحديث محمولٌ على الكتاب الذي فيه سرٌّ وأمانةٌ يَكرَهُ صاحبُهُ أن يُطَّلَعَ عليه. وقيل: هو عامٌّ في كل كتاب] اهـ.

وعنه أيضًا رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ استَمَعَ إِلَى حَدِيثِ قَومٍ وَهُم لَهُ كَارِهُونَ، أَو يَفِرُّونَ مِنهُ، صُبَّ فِي أُذُنِهِ الآنُكُ يَومَ القِيَامَةِ» أخرجه الإمام البخاري.

قال الإمام ابن هبيرة الشيباني في "الإفصاح عن معاني الصحاح" (3/ 196، ط. دار الوطن): [المستمع إلى حديثِ مَن لا يُحِبُّ استماعَهُ سارقٌ، إلا أنه لم يسرق بتناول دراهم فكانت تُقطَعُ، ولكنه تناول ذلك عن باب السمع فَصُبَّ فيه الآنُك، والآنُك: نوعٌ من الرصاص فيه صلابة] اهـ.

وقال العلامة الصنعاني في "سبل السلام" (2/ 679، ط. دار الحديث): [والحديث دليل على تحريم استماع حديث من يكره سماع حديثه، ويُعرف بالقرائن أو بالتصريح] اهـ.

موقف التشريعات المصرية من انتهاك خصوصيات الآخرين والتجسس عليهم
إذا كانت الشريعةُ الإسلاميةُ قد شددت على صيانة خصوصيات الناس، وحرمة التجسس والتسمع عليهم، وانتهاك حياتهم الخاصة، والتلصص على أحوالهم المستورة، وتحسُّس أفعالهم، وعدَّت ذلك من كبائر الذنوب التي توعَّد الله تعالى مرتكبها بالعقاب، فإن المشرع المصري بدوره قد قرر هذه المعاني، وجعلها من المبادئ الدستورية والقانونية المستقرة.

فقد جاء في المادة رقم (57) من دستور جمهورية مصر العربية الصادر سنة 2014م، وفقًا لآخر تعديلاته سنة 2019م، ما نصُّه: [للحياة الخاصة حرمة، وهي مصونة لا تمس، وللمراسلات البريدية، والبرقية، والإلكترونية، والمحادثات الهاتفية، وغيرها من وسائل الاتصال حرمة، وسريتها مكفولة، ولا تجوز مصادرتها، أو الاطلاع عليها، أو رقابتها إلا بأمر قضائي مُسبَّب، ولمدة محددة، وفي الأحوال التي يبينها القانون] اهـ.

كما قرَّر في قانون العقوبات معاقبة كل من يعتدي على حرمة الحياة الخاصة للآخرين، سواء كان ذلك بالتنصت عليهم، أو التسجيل لمحادثاتهم، أو تصويرهم أو نقل صورهم الخاصة بأي وسيلة من الوسائل، كما في المادة (309 مكررًا)، والمادة (309 مكررًا/ أ) من قانون العقوبات المصري، الصادر برقم (58) لسنة 1937م، وفقًا لآخر تعديلاته الصادرة في 20 نوفمبر سنة 2021م.

الخلاصة
بناءً على ذلك: فاستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في بيئة العمل إن كان لمتابعة إنجاز المهام، وضبط أوقات الدوام، وحماية البيانات، ونحو ذلك من الأغراض المشروعة، فلا حرج في ذلك شرعًا إذا روعي فيه أن يكون مقصورًا على نطاق العمل، وفي حدود الضوابط التي تنظمها القوانين واللوائح المعمول بها.

وأمَّا استخدامها في غير ذلك من نحو تتبع الحياة الخاصة للموظفين وتتبع عوراتهم، أو مراقبة ما لا يتعلق بالعمل، أو جمع بياناتهم واستغلالها خارج ما تسمح به اللوائح والقوانين -فإن ذلك يكون مُحرَّمًا شرعًا، ومُجرَّمًا قانونًا.

طباعة شارك الذكاء الاصطناعي بين النعمة والتسخير الإلهي الذكاء الاصطناعي الحكم الشرعي لاستخدام الذكاء الاصطناعي

مقالات مشابهة

  • ارتفاع صفقات الغاز الطبيعي الأمريكي في 2025 بفضل الطلب على الذكاء الاصطناعي
  • «الإمارات للمكتبات» تناقش تحديات الذكاء الاصطناعي وصون التراث في «الشارقة للكتاب 2025»
  • السودان يعلن عن “تطبيق” منصة رقمية جديدة لدفع المعاملات الحكومية وإطلاق الجنيه الرقمي.. تحركات بنك السودان والاتصالات
  • شركة ميتا تلغي مئات الوظائف في قسم الذكاء الاصطناعي
  • المنتدى العربي لتعزيز الشفافية يوصي باعتماد تقنيات البلوك تشين في المشتريات والعقود الحكومية بالدول العربية
  • الذكاء الاصطناعي يستقطب 22% من الاستثمارات العالمية خلال 2025
  • دعوات لتوظيف الذكاء الاصطناعي في خدمة الهوية المعمارية وإحياء الأصالة الثقافية
  • مصر تطرح رؤية جديدة لاستخدام الذكاء الاصطناعي في أعمال المراجعة خلال «الإنكوساي 25» بشرم الشيخ
  • حكم استخدام الذكاء الاصطناعي في مراقبة الموظفين