من حُسن الحظّ، أن المآسي والمحن، والصراعات التي مرّت بها بلداننا العربيّة، لم تجعل ثقافتنا ثقيلة الدم، ففيها نجد النكتة حاضرة، مثلما نجدها في ثقافات شعوب العالم التي تتبختر بالرفاهيّة، وحتى تلك التي تعيش تحت خطّ الفقر، ومنها الجماعات الإفريقية التي نجد الابتسامة لا تفارق وجوه أفرادها، وربما جاء حضور النكتة لدى بعض الشعوب التي عانت من الويلات والحروب والنكبات من باب السخرية أو «ضحك كالبكا»، ورغم ذلك، فهو في النهاية ضحك، وفيه ترويح عن النفس الأمّارة بالحزن.
وقد حفظتْ لنا الكتب التراثية العديد من النوادر، وكنتُ كلما أشعر بالضيق ألجأ إلى كتاب» المستطرف في كلّ فن مستظرف» لشهاب الدين الأبشيهي(ت 1448م)، والمستظرف تعني الممتع والطريف، ففيه الكثير مما يبهج النفس ويروّح عنها، فقد جمع به الأبشيهي الكثير من القصص والأشعار والنكت الطريفة مازجا بين الجدّ والهزل، ولا يقف كتاب (المستطرف) بمفرده في المكتبة العربية، ففي تراثنا توجد كتب أخرى تحتوي على أخبار طريفة، ومن بينها كتاب (أخبار الحمقى والمغفّلين) لابن الجوزي، و(البخلاء) للجاحظ.
ومما أذكر، فإنّ أوّل كتاب وقعت عيني عليه، بعد أن تعلّمت القراءة والكتابة كان عنوانه (100 نكتة ونكتة)، وقد وضع الناشر تحت العنوان عبارة (اضحكْ تضحك لك الدنيا)، وجاءت صورة الغلاف على هيئة وجه ضاحك في كتاب منشور بطبعة شعبية، وورق أسمر، فالنكتة بضاعة رائجة، ولها جمهور واسع، متعطّش للضحك، والمرح، ومن هنا، فالمسارح التي تعرض مسرحيات هزلية تجد إقبالا كبيرا من الجمهور، ويضطرّ مرتادوها إلى الحجز المسبق، بينما يستهوي المسرح الجاد قلّة من المهتمّين، فهو مسرح نخبوي، يتوجّه للنخب المثقّفة، لذا انحسر هذا النوع من العروض، واقتصر على المهرجانات، وقد رمز الإغريق للكوميديا بالقناع الأبيض الضاحك، فيما رمزوا للتراجيديا بالقناع الأسود، لذا اعتاد مصمّمو الإعلانات المسرحيّة على وضع قناعين؛ الأبيض المبتسم، والأسود المتجهّم، في دلالة إلى عنصري الخير والشر، والفرح والحزن، وهما الدعامتان اللتان تقوم عليهما الدراما، فللحياة وجهان، وجه سعيد ووجه حزين ودراما الحياة فيها السعادة والحزن معا.
وفي عقود مضت كانت تصدر مجلات متخصّصة بنشر النوادر، والقصائد الساخرة، ومن أقدمها، مجلة (التنكيت والتبكيت) التي أصدرها عبدالله النديم في مصر عام 1881م، وجريدة (الكرخ) التي أصدرها الملا عبود الكرخي عام 1927 وهي جريدة هزلية، و(حبزبوز) لصاحبها نوري ثابت الصادرة عام 1931م، ومن المجلات المتخصّصة بالنكت والرسوم الكاريكاتيرية والشعر الهزلي مجلة ( الفكاهة) ويعود تاريخ صدورها إلى عام 1950 م في الكويت، وواصلت صدورها حتى عام 1985م وهناك مجلة (الفكاهة) العراقية التي كانت تصدر في الستينيات، و(المتفرّج) ومجلّات فكاهيّة أخرى.
ولكنّ الكثير من الحكايات الطريفة لم يدوّن، وبقي شفاهيّا، يروى في المجالس، فالضحك يزدهر مع الجماعة، فهو طقس جماعي، ففقدناها بفعل النسيان، وتبدّل الأحوال، ورحيل نجوم الكوميديا.
والنكتة، كما يعرّفها الباحث طالب الأحمد (النكتة في مجتمع حزين) في كتابه الصادر عن دار (السرد للطباعة والنشر) في بغداد 2024م، «سرديّة شفويّة، أو مكتوبة تقترب في الشكل من الأقصوصة، وتطرح مضمونا مثيرا للإضحاك ينطوي على رمزية لا يمكن فهمها خارج سياق الثقافة الشعبية التي تمنحها المعنى»، وهي ليست فقط للتسلية، فلها أهداف وغايات، وتعطي مؤشرا «إلى حيوية المجتمع ونباهته، وحدّة ذكائه وقدرته على الصبر وتحمل الصعاب والأهم من كل ذلك قوة إيمانه وحبه للحياة»، كما يرى الباحث (طالب الأحمد)، ولها أبعاد فكرية، فهي تحمل الكثير من المضامين، فخضعت في النقد الثقافي للتحليل أسوة بالإعلان، والفولكلور، والطقوس الشعبية، مثلما خضعت لدراسات المتخصّصين بعلم النفس، ويذكر (طالب الأحمد) في كتابه أن الدكتور قاسم حسين صالح قام بتحليل النكات من الناحية النفسية، فوجد أن النكت البذيئة «تقلُّ في شعوب البلدان المتطوّرة وتكثر في الشعوب المتخلّفة لاسيّما بين الشرائح الاجتماعية الشعبية» واعتبر أن النكتة البذيئة عنف لفظي لعدوان مكبوت ضد آخر بهدف النيل من مكانته الاعتبارية، ولهذا، فإنها تعدُّ مادة علمية لعلماء النفس والاجتماع يستطيعون الكشف من خلالها عن الأفكار والميول العدوانية لدى الطوائف والمكونات الاجتماعية.
وحين أتذكّر كتاب (100 نكتة ونكتة) أستحضر عبارة بقيت راسخة في ذهني هي «إذا أردت أن تضحك، فاضحكْ مع الناس وإذا أردتَ أن تبكي، فابكِ وحدك» ومن يومها عرفتُ أنّ الضحك حين يخرج من الفرد إلى الجماعة، يكون كفيلا بإشاعة الفرح، والبهجة في المجتمع، ويستطيع الإنسان السيطرة على الحزن عندما لا يجاهر به، فالحزن ينتشر بالعدوى، ضمن متوالية عدديّة، وكذلك الفرح، ومن يومها وأنا أضحك مع الجميع وأحزن وحدي.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
"الشعبية" تحمّل الاحتلال المسؤولية عن حياة القائد أبو غلمى
غزة - صفا حمّلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الاحتلال الإسرائيلي وحكومته الفاشية المسؤولية الكاملة عن سلامة القائد عاهد أبو غلمى عضو المكتب السياسي ومسؤول فرع الجبهة في سجون الاحتلال. وأوضحت الجبهة في بيان وصل وكالة "صفا"، يوم الاثنين، أن القائد أبو غلمى يواجه سياسة إعدام بطيء ممنهجة تمارسها إدارة سجون الاحتلال بحقّه وبحق جميع الأسيرات والأسرى الفلسطينيين، تنفيذًا لقرارات مجرم الحرب الفاشي والعنصري بن غفير. وأكدت أن ما يتعرض له الرفيق القائد عاهد أبو غلمى من إهمال طبي متعمّد وتجويع وتنكيل مستمر يُشكّل جريمة حرب مركّبة تهدف إلى كسر إرادة الأسرى، غير أن هذه السياسات لن تفلح في كسر إرادتهم الصلبة أو ثنيهم عن مواصلة صمودهم ونضالهم. وقالت: "إننا نعاهد القائد، وجماهير شعبنا، وأسرانا البواسل، وعائلاتهم، بأننا لن ندّخر وسيلة من أجل تحرير جميع الأسيرات والأسرى، وستبقى قضيتهم في صدارة أولوياتنا الوطنية". وأكدت أنه لا استقرار ولا حلول سياسية دون تحريرهم جميعًا، وأن قضيتهم ستبقى حاضرة في وجدان شعبنا وفي مسار نضاله الوطني. وأضافت "نحن مستعدون دومًا لتقديم المزيدٍ من التضحيات الجِسام وبذل الغالي والنفيس، حتى يتنسموا عبير الحرية؛ فهذا واجب علينا، ولا يمكن أن ننسى تضحياتهم. إن حريتهم جميعاً أمانة في أعناقنا، رغم الظروف المجافية وطغيان العدو الصهيوني المجرم".