حسن على سنهوري*

مقدمة: مفارقة السودان العميقة

تقع في صميم قصة السودان مفارقة عميقة ومؤلمة: كيف أن القطاع المفترض أن يكون مصدر الحياة – الزراعة – هو ذاته المحرك الأساسي للصراعات الممتدة والعميقة التي عانى منها البلد لعقود. ففي بلد يعتمد فيه غالبية السكان على زراعة المحاصيل أو تربية الماشية لكسب العيش، اختارت السياسات الحكومية بشكل منهجي إعطاء الأولوية للمشاريع الكبرى الموجهة للتصدير، وذلك على حساب تلبية احتياجات صغار المنتجين.

وقد أدى هذا التفضيل إلى ترسيخ مظالم عميقة غذّت التمردات والحروب الأهلية. وعليه، لم يكن هذا النموذج الزراعي القديم مجرد سياسة غير فعالة، بل كان عاملاً فاعلاً ومباشراً في تأجيج الصراع والظلم.

يقدم هذا المقال الافتتاحي رؤية مغايرة للزراعة، لا تنظر إليها كأداة اقتصادية فحسب، بل كأقوى محرك لبناء السلام والعدالة والازدهار لجميع السودانيين. إنه بمثابة دعوة إلى الاختيار بين مسارين: إما الاستمرار في طريق التدمير الذاتي الذي أثبت فشله بجلاء، أو الشروع في مسار جديد للشفاء والبقاء الوطني. ولكن لكي نتمكن من بناء مستقبل أفضل، علينا أولاً أن نفهم الأسباب الجذرية لفشل الأساليب القديمة.

متلازمة مشروع الجزيرة

يمكن وصف السياسات الزراعية التاريخية في السودان بـ “متلازمة مشروع الجزيرة”. هذا المصطلح لا يشير إلى المشروع نفسه، بل يصف تحيزًا سياسيًا واقتصاديًا متأصلًا، موروثًا من الحقبة الاستعمارية، وتبنته الحكومات المتعاقبة دون مراجعة. لقد أفضى هذا الإرث إلى تفضيل المشاريع المروية الكبرى، باعتبارها المحرك الأوحد للتنمية وكان لهذه” المتلازمة، عواقب وخيمة، أبرزها الإهمال المنهجي ونقص الصرف الحكومي على الزراعة التقليدية المطرية. ورغم أن هذه الزراعة تمثل المصدر الأساسي لسبل عيش الفئات الأكثر فقرًا في البلاد، إلا أنها لم تحصل إلا على جزء ضئيل من الاستثمار العام. حيث استحوذت الزراعة المروية على الحصة الأكبر (حوالي 60%) من الصرف الحكومي، بينما حصلت الزراعة المطرية الآلية على 30%، في حين كانت حصة الزراعة المطرية التقليدية الأقل، بنسبة 10% فقط، رغم أنها تعيل غالبية سكان الريف، الأمر الذي أدى إلى ركود الإنتاجية وترسيخ الفقر.

حقل أحلام شخص آخر: كيف شكلت المصالح الأجنبية الزراعة في السودان

تاريخياً، تشكلت الاستراتيجية الزراعية في السودان بفعل أجندات قوى خارجية، مما حوّل الأراضي الخصبة للبلاد إلى حقل لأحلام الآخرين. فالمستعمر هو من وضع الاستراتيجية الأولية، وكان هدفه الأساسي استخلاص القطن لمصانع النسيج الخاصة به. وبعد الاستقلال، دفعت مؤسسات مالية دولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، السودان نحو التركيز على محاصيل التصدير بموجب مبدأ “الميزة النسبية”، الذي أغفل الأمن الغذائي المحلي لصالح تأمين العملات الأجنبية. ثم، منذ سبعينيات القرن الماضي، نظرت دول الخليج إلى السودان باعتباره “سلة غذائية محتملة للعالم العربي”، مما أدى إلى استثمارات تركز على احتياجاتها الخاصة، لا سيما في وسط السودان لإنتاج الأعلاف الحيوانية لصناعاتها في الإقليم الشمالي. إن هذه الضغوط الخارجية المتتالية تعني أن التخطيط الزراعي في السودان قد انحرف باستمرار عن هدفه الجوهري المتمثل في ضمان ازدهار واستقرار سكان الريف.

عواقب المنهج التقليدي في التخطيط الزراعي

رغم أن النهج التقليدي حقق نموًا اقتصاديًا ما، فقد ترتبت عليه عواقب سلبية وخيمة ودائمة على البلاد. فقد أدى التركيز المنهجي للسياسات على المشاريع المروية في وسط السودان والمخططات المطرية الآلية في مناطق مثل القضارف إلى تهميش صغار المزارعين، مع إهمال شديد للمناطق الزراعية التقليدية، خاصة في دارفور وكردفان. ونتيجة لذلك، ظلت متوسطات معدلات الفقر مرتفعة خلال الفترة من 1956 إلى 2018 (64.17% و54.17% على التوالي). وقد أفرز هذا الواقع بيئة خصبة للنزاعات القبلية حول الموارد الشحيحة، وتعميق الشعور بالتهميش والظلم وعدم التوزيع العادل للتنمية بين مناطق السودان المختلفة، مما أسفر عن نشوء الحركات المسلحة والحروب الأهلية التي طبعت جزءًا كبيرًا من تاريخ السودان..

زرع بذور السلام

نحن اليوم بأمس الحاجة إلى رؤية جديدة تُحوّل القطاع الزراعي من مصدر للصراعات وانعدام المساواة إلى ركيزة أساسية لتحقيق السلام الوطني، والعدالة الاجتماعية، والتنمية المستدامة، وتعزيز صمود جميع السودانيين. يجب أن تحقق هذه الرؤية أهدافاً تعالج جذور التهميش الممنهج، وتضمن تنمية شاملة ومتوازنة تسهم مباشرة في إحلال سلام دائم. يجب أن تركز على إيجاد سبل عيش مستدامة وزيادة دخل الأسر لصغار المزارعين والنساء والشباب في المناطق الريفية والمتأثرة بالنزاعات، مع إعطاء الأولوية لإنتاج الغذاء المحلي لضمان حصول جميع المواطنين على غذاء كافٍ ومغذٍ، وتعزيز الاكتفاء الذاتي الوطني. كما يجب أن تعالج الاختلالات التاريخية من خلال ضمان استثمارات عادلة وتخصيص متوازن للموارد في جميع المناطق، خاصة تلك التي عانت تاريخياً من التهميش، وذلك عبر تمكين الفئات المهمشة، وضمان حقوقها في الأراضي والموارد، وإنشاء مؤسسات شاملة تمنح جميع الأطراف المعنية صوتاً في رسم مستقبلهم.

لتجسيد هذه الرؤية على أرض الواقع، يجب ربط الزراعة ببناء السلام ورأس المال الاجتماعي عبر استخدام المبادرات الزراعية كأداة فعالة لتحقيق السلام. يتم ذلك بتعزيز المشاريع المشتركة التي تجمع الفئات المتنازعة (كالمزارعين والرعاة)، وإحياء آليات حل النزاعات المجتمعية لإدارة الموارد، وضمان التنسيق بين جميع الجهات المعنية. كما يجب تطبيق مبدأ “السلام أولاً” على جميع التدخلات الزراعية لضمان مساهمة التنمية بشكل مباشر في تعزيز التماسك الاجتماعي.

ينبغي العمل على تطوير المناطق الزراعية المطرية التقليدية لمعالجة الإهمال التاريخي للمناطق الأكثر ضعفاً في السودان، وإعطاء الأولوية لدعم صغار المزارعين في مناطق مثل دارفور وكردفان. يتم الدعم من خلال توفير الوصول إلى البذور والأدوات عالية الجودة، وتأمين حقوق حيازة الأراضي، وتعزيز التقنيات الزراعية الذكية مناخياً، وتصميم خدمات مالية ميسرة. بالتوازي، يجب تطوير الأسواق الداخلية بالاستثمار في البنية التحتية الريفية الحيوية كالطرق ومرافق التخزين، وإنشاء أنظمة سوق شفافة بقيادة المجتمع المحلي لضمان أسعار عادلة للمنتجين، ودعم صناعات التصنيع الزراعي صغيرة النطاق لإضافة قيمة محلية.

نحتاج إعادة النظر في سياسات الصادرات بالتحول من تصدير المواد الخام إلى تطوير منتجات ذات قيمة مضافة، مثل اللحوم المصنعة والمنتجات البستانية المعبأة. ينبغي التركيز على مبادرات التصدير التي تقودها التعاونيات لضمان احتفاظ المجتمعات المنتجة بالأرباح بدلاً من استحواذ الوسطاء عليها.

ولن يتحقق ذلك إلا بتعزيز الحوكمة والأطر المؤسسية، وذلك عبر إصلاحات شاملة في السياسات والقوانين للقضاء على التحيزات ضد صغار المزارعين، وتنفيذ أنظمة تضمن الاستثمار الإقليمي المتوازن، وإنشاء نظام قوي للبيانات والإحصاءات الزراعية للتخطيط المبني على الأدلة، ومكافحة الفساد لتعزيز الشفافية والفعالية.

هل يستطيع السودان تحويل المجالات ذاتها التي شهدت أعمق صراعاته إلى أسس لسلام دائم؟

ترتبط التنمية الزراعية في السودان ارتباطاً وثيقاً باحتمالات السلام والاستقرار والتعافي الوطني. لا بد من كسر الحلقة المفرغة تاريخياً، حيث أصبح مصدر الحياة محركاً للصراع. أظهر هذا التحليل أن مجرد إعادة تشغيل المحرك الاقتصادي القديم ليس خياراً، بل هو حتمي. إن ذلك لن يؤدي إلا إلى إعادة تهيئة الظروف للعنف في المستقبل. يجب أن ترتكز استراتيجية تنمية زراعية ناجحة للسودان على مبادئ العدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، والتنمية الإقليمية المتوازنة. وبالنسبة للمستثمرين وشركاء التنمية، فإن دعم هذا التحول هو أكثر من مجرد استثمار في قطاع اقتصادي واحد؛ إنه استثمار مباشر وضروري في بناء مستقبل أكثر استقراراً وعدلاً وازدهاراً للأمة بأكملها.

*رئيس فريق عمل دعم تكوين آلية التحول الزراعي بمجلس وزراء الحكومة الانتقالية 2021، مستشار التنمية الزراعية

بريد إلكتروني: [email protected]

الوسومحسن على سنهوري

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: صغار المزارعین فی السودان یجب أن

إقرأ أيضاً:

تحذيرات من خطورته على المحاصيل الزراعية.. ما هو موسم «الخريف المتلون»؟

بدأت مصر في استقبال ما يُعرف بـ «موسم الحريف المتلون»، منذ بدء فصل الخريف، وفيه تشهد البلاد تغيرات مفاجئة في الطقس بين الحرارة والبرودة، والرياح المحملة بالأتربة، ما يثير مخاوف المزارعين، إذ يؤثر بشكل مباشر على المحاصيل الزراعية ويُعرّضها لأمراض فطرية وحشرية خطيرة، الأمر الذي دفع الخبراء إلى إطلاق تحذيرات بضرورة الاستعداد لهذا الموسم.

ما هو موسم الخريف المتلون؟

وفي هذا الصدد، قال الدكتور محمد علي فهيم، رئيس المعمل المركزي للتغيرات المناخية بوزارة الزراعة: «إن موسم 2025 / 2026 دخل فعليًا في مرحلة «الخريف المتلون»، وهي الفترة التي تشهد تذبذبًا واضحًا في درجات الحرارة بين النهار والليل، حيث يميل النهار إلى الصيف بينما تذكّر الليالي بقرب حلول الشتاء»، مؤكدًا أن هذه المرحلة تُعد من أكثر الفترات تأثيرًا على المحاصيل الزراعية.

تأثير موسم الخريف المتلون على المحاصيل

وتتسبب هذه الفترة في تذبذب امتصاص العناصر الغذائية خاصة في الزراعات الجديدة التي لم يتجاوز عمرها 25 يومًا مثل البطاطس والبنجر والثوم والبصل المقوّر والفراولة والخرشوف والبسلة وطماطم العروة الجديدة وبساتين الفاكهة الصغيرة، و وفقًا لـ رئيس المعمل المركزي للتغيرات المناخية، فإن أعراض نقص الفسفور والبوتاسيوم والماغنسيوم والمنجنيز أمر طبيعي، لكنه يتطلب التدخل السريع باستخدام الفولفيك ومركبات الفسفور العالية والعناصر الصغرى، مع دعم التحجيم بمركبات بوتاسيوم وسيتوكينين بتركيزات خفيفة.

وأضاف أن المحاصيل التي تجاوزت الشهر من الزراعة مثل البطاطس البدرية والطماطم والفلفل تحتاج إلى توازن في التسميد بزيادة تدريجية في البوتاسيوم والفسفور والكالسيوم مع تقليل الأزوت خاصة من مصدر اليوريا.

وأشار رئيس المعمل المركزي للتغيرات المناخية إلى أن الجو الحالي رغم أنه مناسب للنمو النباتي، إلا أنه مثالي أيضًا لانتشار الأمراض الفطرية التي تنشط مع الرطوبة والدفء مثل الأنثراكنوز والتبقعات واللفحات، وهي من أخطر الأمراض على الفراولة والبطاطس والطماطم والخضر النيلية.

نصائح لمواجهة خطورة موسم الخريف المتلون

وشدد على ضرورة تقليل الرطوبة حول النباتات من خلال الري على الحامي في الغمر، أو تقليل زمن الري في التنقيط مع تقارب الفترات «مثل 45 دقيقة يوميًا بدل ساعة كل يومين»، إلى جانب الاستعداد للرش الوقائي باستخدام المبيدات الآمنة مثل أزوكسي ستروبين، فوستيل أمونيوم، ميتالكسيل، بوسكاليد، بلوكلوراز، واستخدام فوسفيت بوتاسيوم أو كالسيوم في مشاتل الفراولة والبصل والخضر.

وفيما يتعلق بالزراعات الحالية، أوضح فهيم أن نهاية شهر بابه وبداية هاتور تُعد فترة حساسة للغاية: البطاطس النيلية والشتوية والبنجر بدأت في مرحلة التحجيم وتحتاج إلى بوتاسيوم «0-0-50» بمعدلات 10-15 كجم/فدان في الغمر و5-6 كجم/فدان في التنقيط. الثوم والبصل السبعاوي والمقوّر في مرحلة بناء الهيكل الخضري وتحتاج إلى تغذية متوازنة وفولفيك وأحماض أمينية ومحفزات نمو. الفاصوليا والطماطم والباذنجان والفراولة البدرية تبدأ مرحلة التزهير، ما يستلزم متابعة دقيقة للتسميد، الموالح والبرتقال تمر بمرحلة التحجيم والتلوين الطبيعي، لكن التذبذب الحراري قد يؤخر العملية قليلًا، لذا يُنصح باستخدام مركبات بوتاسيوم آمنة مثل نترات أو سترات البوتاسيوم، القصب والموز يحتاجان إلى دعم عالٍ بالفسفور وحامض الفوسفوريك أسبوعيًا قبل انخفاض درجات الحرارة.

وأكد فهيم ضرورة عدم التسرع في زراعة القمح والفول خصوصًا في الصعيد، والالتزام بالخريطة الصنفية الرسمية، مع إضافة حمض فوسفوريك «8- 10 لتر/فدان»في أول رية للمحاصيل الدرنية، والحذر من ذبابة الفاصوليا وديدان القرعيات والبياض الزغبي ولفحات الفاصوليا والبسلة، إلى جانب مراقبة تربس البصل والثوم وذبابة الفاكهة ودودة براعم الزيتون.

وحذّر من زيادة معدلات الأزوت في البطاطس والطماطم والفلفل والخيار لتجنب التشقق والأمراض الفسيولوجية، مؤكدًا قرب نهاية موسم زراعة الفاصوليا والثوم والخرشوف والفراولة.

وشدد على أهمية الاستعداد المبكر للخدمة الشتوية في بساتين المانجو والزيتون والمتساقطات بإضافة الكبريت الزراعي والسوبر فوسفات، وتنفيذ التقليم والتطهير بالنحاس قبل دخول البرد الشديد، مضيفًا أن الجو الحالي خادع ويفرض توخي الحذر في الملابس ونظام العمل لتجنب نزلات البرد بين المزارعين والعمال.

اقرأ أيضاًوزير الزراعة يلتقي عددًا من باحثي «البحوث الزراعية» ويوجه بتذليل العقبات أمامهم

وزير الزراعة: «فاو» شريك أساسي لمصر في تحقيق الأمن الغذائي

مقالات مشابهة

  • نشأت الديهي: لا يمكن السكوت على ما يجري في السودان.. وأمننا القومي لا يتوقف عند الحدود
  • نشأت الديهي: لا يمكن السكوت على ما يجري في السودان
  • عباد يدشن مشروع إعادة تأهيل وتعميق أربع آبار مياه للزراعة في العاصمة
  • كاتب صحفي سوداني: ما يحدث فى مدينة الفاشر لا يمكن وصفه
  • “أونروا” تنفذ برامج تدريبية للزراعة المنزلية في غزة
  • جعجع: أدعو جميع النواب إلى عدم حضور الجلسة التي دعا إليها بري
  • تحذيرات من خطورته على المحاصيل الزراعية.. ما هو موسم «الخريف المتلون»؟
  • 50 مليار دولار لإعادة تأهيل البنية التحتية..و 200 مليون فدان صالحة للزراعة
  • وزير الثقافة يؤكد مواصلة دعم جميع المبادرات والفعاليات التي تسهم في صون الهوية المصرية