بوابة الوفد:
2025-12-15@04:01:25 GMT

أدب الاختلاف

تاريخ النشر: 30th, October 2025 GMT

يقول نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم: «أَرْبَعٌ مَن كُنَّ فيه كانَ مُنَافِقًا خَالِصًا ومَن كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ منهنَّ كَانَتْ فيه خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حتَّى يَدَعَهَا: «إذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وإذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وإذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وإذَا خَاصَمَ فَجَرَ» (أخرجه البخارى)، فالفُجْرُ فى الخصومة من أخص صفات المنافقين.

 

وقد علمنا ديننا الكريم الصفح والعفو والإعراض عن الجاهلين فقال سبحانه: «وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ» (الحجر: ٨٥)، وقال سبحانه: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ» (الأعراف: ١٩٩)، وحتى فى حالة الاضطرار إلى الهجر فليكن هجرا جميلا بلا أذى، حيث يقول الحق سبحانه: «وَاصْبِرْ عَلَىمَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا» (المزمل: ١٠). 

ولم يكن نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم سبابا ولا لعانا ولا فاحشا فى قول أو فعل، فقد أخرج الإمام البخارى عن أنس بن مالك رضى الله عنه أنه قال: «لَمْ يَكُنِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ سَبَّابًا، ولَا فَحَّاشًا، ولَا لَعَّانًا»، وأخرج عن عبدالله بن عمرو رضى اللّه عنهما أنه قال: «لَمْ يَكُنِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَاحِشًا ولَا مُتَفَحِّشًا، وكانَ يقولُ: إنَّ مِن خِيَارِكُمْ أحْسَنَكُمْ أخْلَاقًا»، وأخرج الإمام مسلم فى صحيحه عن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالَ: «إنِّى لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَةً»، فمن أحبّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اتّبع هديه وعمل بسنته. 

ثم إن القرآن الكريم يبين لنا أننا محاسبون على كل لفظ وكلمة، يقول سبحانه: «مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ»(ق: ٢٨)، ولما سأل سيدنا معاذ بن جبل سيدنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «يا نبيَّ اللهِ، إِنَّا لمؤاخَذونَ بما نتَكلَّمُ بِه؟» قال نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم:»ثَكلتكَ أمُّكَ يا معاذُ، وَهل يَكبُّ النَّاسَ فى النَّارِ على وجوهِهِم، أوعلَى مناخرِهم، إلَّا حصائدُ ألسنتِهم» (أخرجه الترمذى والنسائى)، ويقول الشاعر: 

احفظ لسانك أيها الإنسان 

لا يلدغنك إنه ثعبان 

كم فى المقابر من قتيل لسانه 

كانت تهابه لقاءه الشجعان 

ويقول نبينا صلى الله عليه وسلم: «إنَّ العَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بالكَلِمَةِ مِن سَخَطِ اللَّهِ لا يُلْقِى لها بالًا يَهْوِى بها فى جَهَنَّمَ» (اخرجه البخارى).

فما أحوجنا إلى العفة فى القول، وفهم أدب الاختلاف دينيا كان أم سياسيا، والتعامل مع الأمور بعقلانية وموضوعية، بعيدا عن الشتم والسباب وقذف الأعراض، والخروج عن نقد القول إلى ازداء قائله أو إرهابه، أو تسليط كتائب المخالفين له لنهش عرضه وربما سفك دمه، فالحجة تواجه بالحجة لا السباب، والفكر يواجه بالفكر لا سفك الدماء طالما أن صاحبه لم يحمل سلاحا ولم يروع آمنا. 

لقد دعانا ديننا الحنيف إلى استخدام العقل واحترامه ونهانا عن العصبية المقيتة العمياء وعلمنا أدب الحوار فى مواضع كثيرة من كتاب الله عز وجل وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأمرنا أن ندعو إلى الله عز وجل على بصيرة بالحكمة والموعظة الحسنة وإذا اضطررنا إلى المحاججة، فبالتى هى أحسن، يقول الحق سبحانه: «ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِى هِيَ أَحْسَن ُإِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ» (النحل: ١٢٥)، ويقول سبحانه: «قُلْ هذِهِ سَبِيلِى أَدْعُو إِلَى اللَّه ِعَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِى وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (يوسف: ١٠٨).

 

الأستاذ بجامعة الأزهر

المصدر: بوابة الوفد

كلمات دلالية: رؤية أدب الاختلاف نبينا الكريم صلى الله عليه وسلم ذ ا ح د ث ك ذ ب وإذ ا صلى الله علیه وسلم

إقرأ أيضاً:

«لِنَتَسِعْ بَعْضُنَا بَعْضًا… ونُعَلِّم قلوبنا فنّ احترام الرأي الآخر»

في كل مجتمع حيّ، يظل الاختلاف علامة صحة لا علامة خلاف، ودليل نضج لا دليل صدام. فالآراء المتعددة مثل الألوان، لا يكتمل الجمال إلا بتجاورها، ولا تكتمل الصورة إلا بتكاملها. 

ومع ذلك، لا تزال بعض العقول – للأسف – تنظر إلى الرأي المخالف على أنه غزوٌ لفكرتها، أو تهديدٌ لهيبتها، أو مساسٌ بمكانتها، بينما الحقيقة أن الاختلاف لا يجرح إلا القلب الضيق، ولا يزعج إلا العقل المغلق، أما الصدور الواسعة فتتعامل مع التنوع باعتباره غنى للفكر ومساحة للتعلم.

إننا اليوم في حاجة إلى أن ننقل ثقافة احترام الاختلاف من كونها شعارات مثالية، إلى كونها ممارسة يومية في بيوتنا، ومساجدنا، ومؤسساتنا، ومدارسنا، ووسائل إعلامنا. لأن المجتمعات لا تُبنى بالاتفاق الكامل، وإنما تُبنى بإدارة الاختلاف إدارة راقية.

■ القرآن الكريم… مدرسة الاحترام قبل الحوار

حين نفتح كتاب الله تعالى، نجد قيمة احترام الرأي والحوار الحضاري راسخة منذ أول يوم.
يقول سبحانه وتعالى:
﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾.
لم يقل: "جادلهم بالعنف"، ولم يقل: "بالغلظة"، بل قال: بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ… أي بأفضل وأرقى ما يمكن.

وهذا دليل عظيم على أن الحوار لا بد أن يكون قائمًا على الأدب قبل الفكرة، وعلى الهدوء قبل الحدة، وعلى الفهم قبل الرد. فكيف إذا كان القرآن يأمرنا بذلك مع المخالف في العقيدة؟ فكيف بمن يخالفنا في الرأي داخل الوطن الواحد والبيت الواحد؟

والله سبحانه يعلّمنا كذلك أدب الاختلاف في قوله:
﴿قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾،
وهذا إقرار صريح بحق الآخرين في عرض ما لديهم، وحقنا في مناقشته دون تسفيه أو تجريح.

■ السنّة النبوية… قمة الأخلاق في إدارة الاختلاف

لقد قدّم النبي ﷺ نموذجًا راقيًا في احترام الرأي حتى مع أصحابه وهم في قمة الخلاف.
ولنا في موقفه يوم غزوة بدر خير شاهد، حين قال للصحابة:
"أشيروا عليّ أيها الناس"،
فأخذ برأي الحباب بن المنذر، وهو رأيٌ عسكري يخالف رأي النبي الأول، ومع ذلك قبله النبي بكل صدر رحب.
هذا هو الأدب النبوي… وهذا هو احترام العقول.

وفي حديث آخر قال ﷺ:
«رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا اقتضى»،
والسماحة خلق لا يولد إلا من صدر واسع يقبل الآخر ولا يتضايق من اختلافه.

بل إن النبي ﷺ علّمنا ألا نُقصي المخالف ما دام لا يخالف الثوابت، فقال:
«إنما بُعثتم مُيسرين ولم تُبعثوا مُعسرين».

■ أدب الاختلاف… مسؤولية مجتمع كامل

إن احترام الرأي الآخر ليس وظيفة المثقفين وحدهم، ولا واجب الدعاة وحدهم، بل هو مسؤولية مجتمع بأكمله.
فالأب في بيته حين يفرض رأيه بالقوة يخسر الحوار مع أبنائه، والمعلم حين يسخر من رأي تلميذه يخسر احترامه، والمسؤول حين يضيق بالنقد يخسر ثقة الناس.

والحقيقة أن قوتنا لا تُبنى من خلال الصوت الأعلى، بل من خلال القدرة على الاستماع، ولا من خلال الإقصاء، بل من خلال الاحتواء.
فنحن أمة جعلها الله أمة وسطًا، والوسطية ليست رأيًا واحدًا جامدًا، بل فضاء واسع يتسع للجميع.

■ لماذا نخاف من الاختلاف؟

نخاف لأننا لم نتربَّ على ثقافة السؤال.
نخاف لأننا نتصور أن اختلاف الآخر يعني ضعف موقفنا.
نخاف لأننا نخلط بين الرأي والفكرة… وبين الشخص والفكرة.
بينما الحقيقة أن الفكرة التي لا تتحمل النقد هي فكرة لم تُبنَ جيدًا من البداية.

إن المجتمعات التي تتسع قلوب أفرادها للآراء المختلفة هي المجتمعات التي تطور نفسها، وتتعلم من بعضها، وتبني جسورًا لا جدرانًا.

■ فلنتسع لبعضنا… ولنربِّي في قلوبنا أدب الاختلاف

علينا أن نؤمن بأن الاستماع للآخر لا يعني التراجع، وأن قبول اختلافه لا يعني التنازل، وأن احترام رأيه لا يعني الانسحاب.
بل يعني أننا نملك وعيًا وإيمانًا بأن الحقيقة أكبر منّا جميعًا.

وفي الختام…
إن احترام الرأي الآخر ليس مجرد خُلق، بل هو مشروع حضاري يعيد للمجتمع توازنه، وللإنسان قيمته، وللنقاش روحه.
فدعونا نتسع لبعضنا، ونسمع لبعضنا، ونقترب من بعضنا…
فالوطن لا يبنيه رأي واحد… وإنما تبنيه قلوب تتسع للجميع.

مقالات مشابهة

  • د. عادل القليعي يكتب: دعونا نعمل .. لا تلتفتوا للشائعات!
  • نور على نور
  • قصر النهار.. أسباب سهولة العبادات في الشتاء
  • ما هي صحة حديث شاوروهن وخالفوهن؟.. عالم أزهري يوضح
  • حكم الدعاء بقول: «اللهم بحق نبيك» .. يسري جبر يوضح
  • مش عارف تدعي بإية؟.. كلمات بسيطة علمها النبي للسيدة عائشة
  • «لِنَتَسِعْ بَعْضُنَا بَعْضًا… ونُعَلِّم قلوبنا فنّ احترام الرأي الآخر»
  • هل حرم الإسلام التعصب بكل أشكاله وصوره
  • بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من رحاب الجامع الأزهر الشريف
  • هل يستجاب الدعاء وقت نزول الأمطار؟.. الإفتاء تجيب