الدعاة الإنفلونسر: بضاعة مزجاة وأجندات معادية للإسلام
تاريخ النشر: 5th, November 2025 GMT
في زمنٍ أصبحت فيه الصورة هي المهيمنة، والانتشار الرقمي هو مقياس النجاح، لم يسلم حتى الخطاب الديني من رياح التغيير التي طالت كل شيء. لقد برزت ظاهرة جديدة، مقلقة في جوهرها، يمكن أن نطلق عليها "تسليع الدين"، حيث تناسى هؤلاء قول الله تعالى: "وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنا قَلِيلا"، وحوّلوا الدين من رسالة سماوية هادية إلى منتج يُسوَّق، ومن دعوة خالصة إلى "بيزنس" يخضع لقوانين العرض والطلب.
من البلاغ المبين إلى تسويق التفاهة
كانت الدعوة إلى الله في أصلها قائمة على مبدأ البلاغ الخالص، كما حكى القرآن في قوله تعالى: "وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ". كانت الرسالة تُقدَّم كرحمة للعالمين، لا تطلب مقابلا دنيويا، لأن قيمتها أسمى من أن تُسعَّر. أما اليوم، فنشهد تحولا جذريا في هذا المفهوم.
لقد ظهر نمط من الدعاة حوّلوا الدعوة إلى مهنة تدر أرباحا طائلة، أصبح المحتوى الديني يُصمَّم في قوالب براقة، ويُقدَّم في "كورسات" باهظة الثمن، ويُروَّج له عبر حملات إعلانية مدفوعة، تماما كما تُسوَّق أي سلعة استهلاكية. هنا، لم يعد المعيار هو عمق المحتوى أو أثره الروحي، بل قدرته على جذب أكبر عدد من "العملاء" وتحقيق أعلى عائد مادي.
ويُقدَّم هذا النموذج غالبا تحت غطاء التريندات و"مواكبة العصر"، بحجة أن الدعوة تحتاج إلى أدوات حديثة للوصول إلى الشباب. وفي حين أن استخدام الوسائل العصرية أمر محمود، إلا أن المشكلة تكمن في انحراف الهدف. فعندما يصبح الربح هو المحرك، فإن المحتوى نفسه يتأثر لا محالة من عدة جوانب:
1- تسطيح المعرفة: بدلا من تقديم العلوم الشرعية العميقة التي تبني عقلا نقديا ونفسا سوية، يتم التركيز على الموضوعات العاطفية البسيطة والحلول السريعة لمشاكل الحياة. يُقدَّم الدين كجرعات من "التنمية البشرية الساذجة" المغلفة بغلاف ديني سطحي، وهو ما يفرغ الرسالة من مضمونها الحقيقي الذي يهدف إلى تزكية النفس وبناء الإنسان.
2- صناعة الداعية "الإنفلونسر": يتحول الداعية من كونه مُبلِّغا متواضعا إلى "مؤثر" أو "نجم" له مدير أعمال وفريق تسويق، يصبح الاهتمام بمظهره وأسلوبه وعدد متابعيه يفوق الاهتمام بإخلاصه وعلمه. هذا التحول يضرب مصداقية الدعوة في مقتل، ويجعل الداعية قدوة في الاستهلاك والبحث عن الشهرة، لا في الزهد والتقوى.
3- خلق جمهور استهلاكي: يعتاد الجمهور على تلقي الدين كمنتج جاهز وسريع الاستهلاك. العلاقة بين المتلقي والدين تصبح علاقة "زبون" يبحث عن حلول سحرية، لا علاقة طالب علم وباحث عن الحقيقة. هذا النموذج لا يبني وعيا حقيقيا، بل يخلق حالة من التدين السطحي والهش الذي لا يصمد أمام التحديات الفكرية والأخلاقية.
مثل الذي بال في بئر زمزم
حين تفلس البضاعة العلمية، وتجف ينابيع الحكمة، لا يتبقى لجذب الانتباه سوى الصدمة والغرابة. هذا هو المنطق الذي يحكم عقلية "التريند"، والذي بدأنا نرى أسوأ تجلياته لدى بعض هؤلاء "الدعاة الانفلونسر". لقد وصل بهم الإفلاس إلى حد الظهور في مقاطع فيديو لا تليق بشخص عادي، فضلا عمن يتصدر للحديث باسم الدين. نراهم يأكلون بطريقة مقززة تثير الغثيان، أو يؤدون مشاهد تمثيلية هزلية تتسم بالميوعة المصطنعة، وكل ذلك في سباق محموم للفت الانتباه وحصد المشاهدات.
إنهم بذلك يشبهون تماما قصة الأعرابي الذي لم يجد طريقة ليشتهر بها سوى أن يبول في بئر زمزم؛ فلا يُذكر اسمه إلا مقترنا باللعنة والفعلة الشنيعة. هؤلاء، في سعيهم للشهرة بأي ثمن، يدنسون بأفعالهم صورة الداعية ومكانة الدين نفسه. إنهم يقدمون للشباب نموذجا منحرفا للقدوة، حيث لا بأس من التخلي عن المروءة والحياء والوقار في سبيل "التريند". وبهذا، لا يبيعون الوهم باسم الدين فحسب، بل يبيعون أخلاقهم وقيمهم مقابل "لايكات" زائلة، مثبتين أن الغاية عندهم تبرر كل وسيلة، مهما كانت ساقطة.
بين الضرورة والمغالاة
لا بد من التوقف أمام الحجج التي يسوقها المدافعون عن هذا النهج التجاري، فهم يقولون إن "الإنتاج عالي الجودة يتطلب تكاليف"، وإن "الداعية المتفرغ يحتاج إلى مصدر دخل"، وإن "أخذ الأجر على التعليم جائز شرعا". هذه الحجج، وإن بدت منطقية في ظاهرها، إلا أنها تُستخدم كغطاء لمغالاة وانحراف خطير.
أما حجة التكاليف: فصحيح أن الإنتاج الجيد له تكلفة، ولكن هل هذه التكلفة تبرر الأسعار الباهظة للكورسات التي تتجاوز قدرة الشريحة الأكبر من المجتمع؟ وهل تبرر تحويل كل محتوى إلى فرصة للربح؟ لقد رأينا نماذج ناجحة تقدم محتوى عالي الجودة بشكل مجاني أو بتكلفة رمزية، مما يثبت أن الهدف يمكن تحقيقه دون جشع تجاري.
وأما حجة التفرغ: فهناك فرق شاسع بين من يأخذ أجرا يكفيه ليعيش حياة كريمة ويتفرغ لرسالته، وبين من يجعل الدعوة وسيلة للثراء الفاحش والتنافس في المظاهر المادية. إن الانتقاد ليس موجها لمن يأخذ ما يسد حاجته، بل لمن يحول الدعوة إلى "بيزنس" يدر الملايين، ويصبح نمط حياته الباذخ هو الإعلان الأكثر تأثيرا، وهو ما يتناقض مع روح الزهد التي هي من صميم الرسالة.
وأما حجة الجواز الشرعي: فالقول بجواز أخذ الأجر لا يعني إطلاقا جواز تحويل الدين إلى سلعة تخضع لمنطق السوق الرأسمالي. الجواز الشرعي له ضوابط، أهمها ألا يتحول الفرع (الأجر) إلى أصل (الهدف)، وألا يؤدي ذلك إلى حرمان غير القادرين من العلم، وألا يمس ذلك بإخلاص النية. النموذج التجاري الحالي يتجاوز هذه الضوابط، ويجعل الربح هو المحرك الأساسي، وهذا هو جوهر المشكلة.
إن أخطر ما في هذه الظاهرة هو أنها تضع الدين في موضع التنافس مع سلع أخرى، وتجعل قيمته مرتبطة بسعره في السوق. وهذا يشوه صورة الدين نفسه، الذي جاء ليحرر الإنسان من عبودية المادة، لا ليصبح هو نفسه سلعة مادية.
بضاعة مزجاة
يزداد الأمر خطورة حين ندرك أن الكثير من المتصدرين لهذا "البيزنس الديني" هم في حقيقة الأمر قليلو البضاعة في العلم الشرعي. إنهم لم يقضوا سنوات في دراسة العلوم الأصيلة على أيدي العلماء الراسخين، ولم يرسخوا أقدامهم في فهم الأصول والفروع ومقاصد الشريعة، بل على العكس، فإن رأس مالهم الحقيقي هو قدرتهم على "التسويق" و"العرض" الجذاب، وليس العلم.
هم يعرفون من الدين قشورا سطحية، وينتقون من القصص والمواعظ ما يسهل تسويقه ويلامس العاطفة السطحية للجمهور. هذا الضحالة العلمية تجعلهم غير قادرين على التعامل مع القضايا المعقدة أو بناء تصورات متكاملة، فيلجأون إلى تبسيط مخلّ يضر أكثر مما ينفع. إنهم يبيعون ما يتقنون، وهم يتقنون فن البيع لا فن التعليم. وهكذا، يصبح "الداعية" مجرد بائع ماهر، والدين هو السلعة الأسهل للترويج لأنها تخاطب حاجة فطرية في قلوب الناس.
وهذا الطرح السطحي هو في النهاية "طرح آمن" على صاحبه، فهو يبتعد عمدا عن الموضوعات الشائكة التي يحتاجها المجتمع، والتي الأصل أن يكون حلها عن طريق الدين والتحاكم له. إنه خطاب لا يمثل أي تهديد لصاحبه، فهو يتماشى مع توجهات الدولة، حسنها وقبيحها، ومع هوى الجمهور، صوابه وخطئه، فلا يغضب أحدا ولا يصلح شيئا.
توافق الأهداف أم خدمة أجندات معادية
الأخطر من كل ما سبق، هو أن هذا النموذج من التدين السطحي والاستهلاكي يتوافق تماما، سواء بقصد أو بغير قصد، مع أهداف أجهزة استخباراتية معادية تستهدف بنية المجتمعات المسلمة المؤثرة في العالم، وعلى رأسها المجتمع المصري الذي يبلغ تعداده 28 في المئة تقريبا من الناطقين بالعربية، بالإضافة إلى تأثيرهم الكبير بسبب الأزهر الشريف أكبر مؤسسة ومرجعية إسلامية في العالم. إن هذه الأجهزة تدرك أن عقيدة الأمة وقيمها الدينية الراسخة هي صمام الأمان الأساسي لاستقرارها، لذلك فإن ضرب هذه العقيدة وتفريغها من مضمونها هو هدف استراتيجي.
هذا النموذج "التجاري" للدعوة يخدم هذا الهدف من عدة زوايا:
1- تحويل مفاهيم القوة إلى استهلاك: بدلا من أن يكون الدين دافعا لبناء الدولة بالعلم والعمل والقوة المادية، وبدلا من ترسيخ مفاهيم العزة والجهاد بمعناه الشامل (جهاد النفس وجهاد بناء الأمة وجهاد أعداء الإسلام)، يتم تحويل الدين إلى طقوس فردية وشكلية، وإلى سباق نحو الاستهلاك والترف.
2- تشويه قدوات الشباب: يتم إزاحة العلماء الحقيقيين ورجال الدولة المخلصين من دائرة التأثير، ليحل محلهم "الإنفلونسرز" و"اليوتيوبرز" الذين يقدمون نماذج مشوهة للنجاح. يصبح الشباب، وهم مصدر حيوية الأمة، أسرى لمتابعة التريندات التافهة، وتقليد أنماط حياة استهلاكية فارغة، بعيدا عن أي مشروع جاد لبناء الذات أو الأمة.
3- تفكيك الهوية الجامعة: عندما يتحول الدين إلى مجرد خيارات فردية في سوق استهلاكي، يفقد قدرته على أن يكون هوية جامعة وقوة دافعة للمجتمع، يصبح مجرد "لايف ستايل" شخصي، مما يسهل اختراق المجتمع وتفكيكه من الداخل.
بهذا المعنى، فإن ظاهرة "تسليع الدين" ليست مجرد انحراف دعوي أو مشكلة تجارية، بل هي ثغرة أمنية وثقافية خطيرة، تساهم في تحقيق أهداف من يريدون إضعاف الأمة الإسلامية وتفريغ مجتمعاتها من قيمها الصلبة.
بين دعاة التريند والعلماء الراسخين
ولكي لا يكون نقدنا هدما، نضع هؤلاء في مقارنة مع النموذج الأصيل: وهو علماء الأزهر الشريف، ولكي تكون المقارنة عادلة فلن نقارنهم بأئمة المذاهب الفقهية أو علماء الحديث والتفسير، بل سنقارنهم بمن هم في نفس الحقل وهو مجال الدعوة. وهنا ليس أمامنا إلا كلية الدعوة الإسلامية بالأزهر الشريف، تلك المدرسة التي تخصصت في تخريج الدعاة الراسخين في العلم. فبينما يقدم الإنفلونسر بضاعة مزجاة هدفها التريند والربح، ويتميز بسمتٍ يفتقر للمروءة، نجد العالم الأزهري يقدم علما راسخا ومنهجيا غايته بناء وعي الأمة؛ الأول مرجعيته خوارزميات "السوشيال ميديا" ومنهجه "الطرح الآمن"، والثاني مرجعيته الكتاب والسنة ومنهجه تلبية حاجات المجتمع الحقيقية. وعلى هذا فإن تجاهل هذه القامات العلمية الأزهرية التي يشار إليها بالبنان حول العالم، واللهاث وراء هؤلاء الفقاعات، هو الخسارة الحقيقية للأمة.
العودة إلى جوهر الرسالة
إن الدين رسالة خالدة، غايتها هداية الإنسان وتزكية روحه، وهي أسمى من أن تُباع وتُشترى. إن مواجهة ظاهرة "تسليع الدين" تبدأ من وعي الجمهور نفسه، بقدرته على التمييز بين الداعية المخلص الذي يحمل همَّ الرسالة، والتاجر الذي يبيع الوهم باسم الدين. فالمعركة الحقيقية اليوم هي بين دينٍ يُبلَّغ كرسالة نور، ودينٍ يُعرَض كسلعة في سوقٍ مظلم. والانتصار في هذه المعركة يبدأ من كل فرد، بالعودة إلى العلماء الراسخين، ودعم المحتوى الجاد والهادف، ورفض أن تتحول علاقتنا بالله إلى مجرد صفقة تجارية.
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء دعوة التواصل الاجتماعي دعوة قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مدونات سياسة رياضة سياسة رياضة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة هذا النموذج م الدین
إقرأ أيضاً:
ما الذي يمكن معرفته عن مؤتمر المناخ كوب 30″؟
تبدو مؤتمرات الأطراف بالنسبة للكثيرين مجرد خطابات ووعود، لكنها أيضا إحدى الأدوات الرئيسية وربما الوحيدة التي نمتلكها لمواجهة أزمة المناخ العالمية. ومع اقتراب انعقاد مؤتمر الأطراف الـ30 في البرازيل، تبرز الأسئلة حول المؤتمر وجدواه، وما يمكن أن يقدمه في ظل تفاقم أزمة المناخ العالمية.
وستعقد قمة في مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ "كوب 30" (COP30) في الفترة من 6 إلى 21 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري في مدينة بيليم الأمازونية، وأكد نحو 60 زعيما فقط مشاركتهم.
اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4بين الوعود والتنفيذ.. هل يكسر "كوب 30" جمود العمل المناخي؟list 2 of 4الأمم المتحدة: خطط الدول لخفض الانبعاثات مشجعة ولكنها غير كافيةlist 3 of 4رئاسة مؤتمر المناخ بالبرازيل تدعو لتسريع تنفيذ اتفاق باريسlist 4 of 4ترامب يغلق مكتب دبلوماسية المناخ ويبعد واشنطن عن "كوب 30"end of listوفي مؤتمر الأطراف الـ29 في العاصمة الأذربيجانية باكو العام الماضي، حضر أكثر من 80 زعيما، فيما لن تشارك الولايات المتحدة بوفد رسمي في قمة بيليم، وهو ما يشير إلى أن "كوب 30" قد تكون الأقل حضورا على مستوى القادة في تاريخ مؤتمرات الأطراف.
تعني "كوب" (COP) مؤتمر الأطراف، أي قمة المناخ السنوية التي تعقدها الأمم المتحدة بموجب اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، وهي المعاهدة الدولية التي أنشئت عام 1992.
وتشارك حاليا 198 دولة في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ، مما يجعلها واحدة من كبرى الهيئات المتعددة الأطراف في منظومة عمل الأمم المتحدة.
وتجتمع هذه الدول في مؤتمرات الأطراف السنوية للتفاوض حول كيفية الحد من الاحتباس الحراري، وخفض انبعاثات غازات الدفيئة، ودعم المجتمعات المتضررة بالفعل من آثار المناخ.
وإلى جانب قادة العالم، يحضر المؤتمر أيضا مفاوضون حكوميون، وعلماء، وقادة من السكان الأصليين، ونشطاء شباب، وصحفيون، وجماعات ضغط، ومنظمات بيئية. وهو من أكبر المنتديات، إن لم يكن الوحيد الذي تجتمع فيه أصغر الدول الجزرية وأكبر اقتصادات العالم على طاولة واحدة للتوصل إلى اتفاقيات.
يعد تغير المناخ هاجسا عالميا، ففوضى الطقس المتطرف لا تتوقف عند الحدود، فالجفاف في منطقة واحدة قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الغذاء العالمية. ويهدد ذوبان الأنهار الجليدية في جبال الهيمالايا مثلا مجتمعات تبعد عنه آلاف الكيلومترات. وتودي موجات الحر في جنوب آسيا بحياة أشخاص لم يكن لهم دور يُذكر في التسبب في الأزمة.
إعلانوتعد مؤتمرات الأطراف عمليا المكان الوحيد الذي يُمكن للحكومات فيه، نظريا على الأقل، التعاون لحل مشكلة لا تستطيع أي دولة بمفردها حلها. ورغم أوجه القصور العديدة، فعندما يتعلق الأمر بالمناخ، فإن المشاكل العالمية وبقطع النظر عن المتسبب فيها، تحتاج إلى حلول عالمية.
ومع تفاقم أزمة المناخ، يشعر الخبراء ونشطاء البيئة بالكثير من الخيبة والتشاؤم، لكن التاريخ يظهر أن مؤتمرات الأطراف قادرة عمليا على تحقيق النتائج، ولو بشكل نسبي، عندما يتزايد الضغط.
ففي مؤتمر الأطراف الـ21 في باريس عام 2015 أنجز اتفاق باريس للمناخ، حيث اتفقت الحكومات على إبقاء الاحتباس الحراري العالمي أقل بكثير من درجتين مئويتين، والسعي إلى بلوغ 1.5 درجة مئوية، وهو حد عالمي لا يجب تجاوزه لتجنب نقطة تحول خطيرة.
وفي مؤتمر الأطراف الـ27 في شرم الشيخ المصرية عام 2022، أُنشئ صندوق الخسائر والأضرار، الذي كان قد طال انتظاره، وسعى النشطاء إلى تحقيقه لعقود لمساعدة الدول الأكثر تضررا من الكوارث المناخية.
أما في مؤتمر الأطراف الـ28 في دبي عام 2023، فقد أشار قرار لأول مرة إلى الوقود الأحفوري على أنه سبب أزمة المناخ. وقد وصفت المنظمات البيئية بما فيها غرينبيس هذا القرار بالتاريخي، لكنها حذرت من أنه "يجب على القادة الآن الالتزام بالتخلص التدريجي الكامل والسريع والعادل والممول من الوقود الأحفوري".
وفي مؤتمر الأطراف الـ29 في باكو عام 2024، طرحت قضية تمويل المناخ، إذ تعهدت الحكومات بتمويل جديد، لكن المنظمات غير الحكومية والمعنية بشؤون البيئة والمناخ، انتقدت النتيجة ووصفتها بأنها غير كافية على الإطلاق بالنظر إلى حجم آثار المناخ.
ورغم أوجه القصور، لم تأت أيٌّ من هذه المنجزات صدفة، بل جاءت من إدراك عميق بخطورة التغير المناخي أولا، ومن قوة ضغوط الشعوب الأصلية والنشطاء، ودول صغيرة معرضة لتغير المناخ، وملايين من المؤيدين يطالبون بالتحرك لإنقاذ الكوكب.
غالبًا ما تُنتقد مؤتمرات الأطراف باعتبارها مجرد منابر كلامية، حيث يفوق عدد جماعات الضغط من الشركات عدد الدول المعرضة لتغير المناخ. ففي مؤتمر الأطراف الـ28 تجاوز عدد جماعات الضغط من أجل الوقود الأحفوري عدد جميع الوفود الوطنية تقريبا، حسب منظمة غرينبيس.
لهذا السبب، يؤكد الخبراء أنه يجب على الناشطين وممثلي المجتمع المدني والشعوب الأصلية والشباب أن يكونوا حاضرين في هذه المؤتمرات من أجل مزيد من الضغط. فهم موجودون لمحاسبة الحكومات والتصدي للتضليل البيئي وإسماع الأصوات التي غالبًا ما تُهمل، مما يجعل التغيير ممكنًا.
وفقا للأمم المتحدة، لا تزال التعهدات الوطنية الحالية بشأن المناخ تُشير إلى ارتفاعٍ في درجة الحرارة العالمية يصل 3.1 درجات مئوية هذا القرن، ولتحقيق حدّ 1.5 درجة مئوية، يتعيّن على الدول تنفيذ تعهداتها بالكامل وتعزيزها.
ويتطلب ذلك خفض الانبعاثات بنحو 43% بحلول عام 2030، مقارنةً بمستويات عام 2019، بل أكثر من ذلك بحلول عام 2035، مما قد يحول دون انهيار واسع النطاق للأنظمة البيئية ويتيح فرصة واعدة لاستقرار المناخ.
إعلانويُظهر كل ذلك أهمية مؤتمرات الأطراف، فالقرارات المتخذة فيها حتى وإن كانت قد تُضيف أو تُزيل غيغاطن واحدا من تلوث الكربون من الغلاف الجوي قد تغير حياة ملايين البشر والغابات والمحيطات والتنوع البيولوجي، وكل جيل قادم.
ويكتسي انعقاد مؤتمر الأطراف لهذا العام في بيليم بالبرازيل، عند مدخل غابات الأمازون المطيرة، أهمية بالغة، فالأمازون لكونها "رئة الأرض" تعد موطنا لتنوع بيولوجي استثنائي، ولملايين البشر، بمن فيهم العديد من مجتمعات السكان الأصليين.
وتعد الغابات المطيرة أحد أهم مخازن الكربون على كوكب الأرض، إذ تمتص مليارات الأطنان من ثاني أكسيد الكربون سنويًا. ويحذر العلماء من أن غابات الأمازون تقترب من نقطة تحول، حيث قد تبدأ في إطلاق كميات من الكربون تفوق ما يخزنه.
كما سيُعقد مؤتمر الأطراف الـ30 أيضًا بعد مرور 10 سنوات على التوصل إلى اتفاق باريس، ونحو 3 عقود من قمة الأرض التي نظمتها الأمم المتحدة في ريو دي جانيرو بالبرازيل من أجل البيئة والتقدم، مما يجعل "كوب 30" لحظة تقييمية وعملية حاسمة للعمل المناخي الدولي.
ومن المتوقع أن تُقدم الحكومات تعهدات مناخية أقوى تتوافق مع حد 1.5 درجة مئوية، وهو الحد الخطير الذي يُحذر العلماء من تجاوزه، فهذا المؤتمر يوجب على القادة فيه مواجهة التحدي الذي وضعه اتفاق باريس، وفقا للخبراء.
ويشير الخبراء إلى أن مؤتمر الأطراف الـ30 هو الوقت المناسب للحكومات لإظهار الشجاعة بدلًا من الفشل في وجه المخاطر الكبيرة التي يسببها التغير المناخي، وهو يمثل فرصة للانتقال من التفاوض والوعود إلى التنفيذ.