لجريدة عمان:
2025-11-05@19:55:53 GMT

من التشظي إلى الكينونة

تاريخ النشر: 5th, November 2025 GMT

فـي اليوم كما فـي السنة، تمر على المرء أحداث كثيرة يدقق في بعضها تدقيقا طويلا، وتمر عليه أخرى دون أن تحرك فيه شعرة أو تزحزح فكرة عندة أو معتقدا.

تبدو الأيام الحالية أكثر امتلاء من السابق، لكنها أقل تركيزا بكثير، فكما أن الماء الذي يكون سائبا سائحا في غيرما وجهة أو نفع، يُنظر إليه كشيء عَرَضي غير مؤذ، فإن ذلك الماء ذاته يمكن أن تقطع به قطع الألماس شديدة الصلابة التي لا تستطيع قطعها أي مادة أخرى.

كذلك يحدث لعقلنا، فإن التشتت العقلي لا يستنزف الطاقة وحدها، أو يستهلك الذهن وحده، بل يُذيب الجسد مع الروح. يتخيل كثير من الناس أن الأمراض التي تصيبهم جراء الطعام أو الوراثة أو الفيروسات، لكننا نصيب أنفسنا بالمرض من حيث لا ندري في غالب الأحايين، بل ونفعل ذلك بشغف ودون أن نتنبه إلى الثقب الذي تتسرب منه أرواحنا إلى غير رجعة.

إننا نعيش مرحلة غير مسبوقة في تاريخ البشرية، ففي الوقت الذي كانت فيه الكتب -على سبيل المثال، وليست وحدها وسيلة المعرفة- نادرة ويأخذ المرء وقته في قراءة الكتاب الواحد منها إما للهيئة التي كانت الكتب عليها، أو لعدم توفر القراءة في الليل، أو لعدم وجود غيره من الكتب أو لأي سبب آخر متعلق بذلك العصر؛ فإننا على النقيض تماما من ذلك، إننا نعيش وفرة لا نستطيع معها اللحاق بكل شيء، ونريد كل شيء في الآن ذاته.

الإنسانُ عقلُهُ؛ وباستعمال ذلك العقل إما أن يكون أداة ارتقاء وتطور وعلاج وأمان، أو أن يكون مطية للأهواء والرغبات والصراعات الجانبية التي لا طائل منها، فالعقل أداة، وكما أن السكين يمكن أن تقطع الفاكهة التي تمنحنا الغذاء والطاقة، فيمكن أن تتحول في طرفة عين إلى أداة قاتلة، فالأدوات محايدة ونحن من يحدد استعمالها والكيفية التي نستعملها بها.

«شيءٌ آخر سيساعدك وهو أن تشغل عقلك بأفكارٍ أخرى وبذلك تنجو من معاناتك. تذكر في عقلك أشياء فعلتها كانت قويمةً أو شجاعة، ومُرَّ في عقلك على أفضل الأدوار التي أدّيتها.

وارجع بذاكرتك إلى الأشياء التي كانت محط إعجابك الأعظم، هذا وقتٌ لتذكر كل الأفراد الاستثنائيين في شجاعتهم الذين انتصروا على الألم: ذلك الرجل الذي قرأ بتؤدة كتاباً في أثناء استئصال عروق الدوالي عنده. الرجل الذي لم يتوقف أبدا عن الابتسام تحت التعذيب على الرغم من أن هذا أغضب جلاديه وجعلهم يجربون فيه كل أداة وحشية عندهم.

إذا كانت ابتسامة غلبت الألم، ألا يغلبه العقل؟ وهنا يمكنك أن تذكر ما شئت: البلغمَ، نوبة سعال لا ينقطع عنيفةً حدَّ أنها تلفظ أجزاءً من الأعضاء الداخلية، الحمى التي تكوي أمعاء المرء، العطش، تهشيم الأطراف في اتجاهات مختلفة وخلع المفاصل، أو - أسوأ من هذه - أن يمط المرء على مشد التعذيب أو يُحرق حيا، أو يعرَّض لصفائح محمرة من السخونة وأدوات مصممة لتعيد فتح الجروح المنتفخة وتعميقها».

ليست هذه قطعة من كتاب حديث أو كتاب تفاؤلي جديد؛ بل هي من كتاب الفيلسوف الرواقي سينيكا التي كتبها قبل ألفي عام، في الفترة التي اعتزل فيها السياسة خوفا من القتل، وذلك في رسالته «قدرة العقل على تخفيف المرض» وهي الرسالة XXX في تعداد رسائله التي طبعتها دار «صفحة٧».

يعاني كثير من الناس من لحظات التشتت وعدم القدرة على التركيز لا في الأمور الهامشية فحسب، بل في أمور حياتهم المفصلية التي تحدد أسباب بقائهم ومعيشتهم.

ليس الأمر أن الإنسان يحتاج إلى العلاج النفسي فحسب، بل يتعلق بكون العلاج الأول يجب وينبغي أن ينبع من ذات الشخص.

في الزيارة التي قام بها المؤلف الأرجنتيني الكبير ألبرتو مانغويل إلى سلطنة عمان في فبراير الماضي، قمنا بجولة في مسقط وضواحيها وتحدثنا عن أشياء كثيرة جدا، ومما لفتنا جميعا قدرته الهائلة على استحضار الأفكار والكلمات المرتبطة بالمكان أو بشبيهات.

ففي مسقط القديمة تحدثنا عن النخلة وما تمثله للعماني وكيف طبّق عبرها مفهوم الاستفادة القصوى منها واعتماده في حياته عليها، وإعادة تدويره لها بعد وفاتها.

فلم يتلعثم في استحضار القصيدة التي قال بأنه يحبها، وكانت لعبدالرحمن الداخل وهي التي مطلعها « تبدت لنا وسط الرصافة نخلة * تناءت بأرض الغرب». في اللوبي وقبل توديعه الوداع الأخير، سألني عن المؤلفين العمانيين الذين أرى أن القراءة لهم مهمة وأنهم منسيون أو لا يحظون بالتقدير الذي يستحقونه، وحين ذكرت له مجموعة من الأسماء التي ينطبق عليها الوصف، أبدى تلهفه ودون تلك الأسماء في تلك المفكرة.

قلت لعله لا يستعمل هاتفه في هذه الأمور!، ثم طلب منا أن نرسل الصور التي التقطناها له ومعه في الأمكنة الأثيرة الجميلة التي زرناها، فطلبت منه تزويدي برقم هاتفه، لأكتشف أنه لا يستعمل الهاتف أصلا!، والتواصل الوحيد معه عبر البريد الإلكتروني فحسب.

من الصعب العيش مثل مانغويل لظروف كثيرة في حياة اليوم، وقد يرى البعض بأن ذلك تطرف لا يمكن العيش وفقا له. لكن المسألة ليست في الإفراط أو التفريط، بل في الموازنة التي تمنحنا الطمأنينة اللازمة لتغيير أفكارنا وحياتنا وتمنحنا المساحة التي تتيح لنا الرؤية والنظر بعين بصيرة ثاقبة في أنفسنا ودواخلنا، فكيف ننتظر أن نرى بوضوح ونحن من يغبّش الرؤية على أنفسنا؟.

إن مشكلة الضبابية تكمن في ثلاثة أمور رئيسة، العمل، المحيط -أسرة، أصدقاء، معارف-، وفي ذواتنا ونمونا الخاص. فليست المعرفة هي الغاية في الحقيقة، بل العيش والانتفاع بتلك المعرفة. ومن هذا المنطلق بالذات، أتساءل عن السبب الذي يجعل المرء يحدق في سقف غرفته أو الفضاء، سادرا عينيه لا يلوي على شيء، رغم أن إمساكه قلما وورقة وكتابته لكل ما يدور في ذهنه، يزيل تلك الضبابية التي تعميه وتشل حركته.

وكذلك ممارسة الرياضة بالمثل، فإن المرء الذي يكتوي بنار الكآبة والضجر -خصوصا الشباب- يحزن ويدور في فلك الحزن مسدلا جسده كله على سريره أو متسمرا في مكان دون أن يتحرك قيد أنملة لساعات طويلة تُعمّق مشاعره ومآسيه.

ولو أنه استجمع طاقته وركّز قوته للخروج من ذلك المكان المتسمر فيه، ولو بالمشي القريب لمدة يسيرة؛ لوجد في ذلك المشي استشفاء وترتيبا لأفكاره. تبدو مسألة التركيز وغيابه مسألة بريئة تحدث للإنسان هكذا دون وعي منه أو مقدرة، لكنها في الحقيقة من الأشياء التي تستثمر فيها الشركات والحكومات المعادية طاقتها وعملها في جعلها مركزا لاقتناص الأفكار وتوجيهها.

فمن يعرف كيفية استعمال الخوارزميات التي تعمل بها وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت كله، يستطيع أن يوجه تلك الخوارزميات الاتجاه الذي ينفعه، بتشكيل عقول الشباب، وضربهم في مناطق قوتهم، وتعميق الهوة بين ما يرغبون به وما ينبغي أن يكون منهم.

في الرسالة X «تمرين الجسد، وترويض الرغبة» من رسائل سينيكا، يقول « كان لدى أجدادنا عادة بقيت ساريةً في حياتي، وهي أن يضيفوا إلى افتتاحية الرسالة: (أتمنى أن تجدك هذه الرسالة كما تركتني بصحة جيدة) حريّ بنا أن نقول: (أتمنى أن تجدك هذه الرسالة باحثاً عن الحكمة).

لأن هذا تماما ما تعنيه الصحة الجيدة. إذ من دون الحكمة يمرضُ العقل، والجسدُ نفسه - مهما كان قوياً - لا يمتلك سوى القوة نفسها التي تجدها لدى من يعانون الجنون والهلوسة. هذا إذا نوع الصحة الذي يجب أن تجعله همَّك الرئيسي.. أنا لا أقول لك أن تبقى منحنيًا فوق الكتاب أو ألواح الكتابة.

فالعقل يجب أن يُمنح وقتاً للراحة، ولكن بطريقة تجدده، ولا ترخيه بحيث يتشتت». هكذا الأمر إذن منذ ألفي عام وحتى تفنى البشرية، فالإنسان كائن له مطلق الحرية فيما يختار ويفعل، وعنده مطلق الموارد -اليوم خصوصا- ليكون إنسانا أعلى، لا على أخيه الإنسان؛ بل على ذاته ورغباته ونزواته.

فلمعرفة ما ينبغي، وتطبيق ما ينبغي، يجب أن نتخلص من المشتتات التي تشوش الرؤية، ونختار ما يبصّرنا ولو كان مُرًّا، هكذا يغدو التركيز طوقا لنجاتنا ووعينا ويقظتنا وكينونتنا الكاملة، لا رفاهية أو محض فكرة فحسب.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

سعد الدين الهلالي: الدولة المصرية القديمة كانت دولة موحدة

قال الدكتور سعد الدين الهلالي، أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إن الدولة المصرية القديمة كانت دولة موحدة، وما فعله المصريون هو رد اعتبار لأجدادنا في عقيدتهم، وعندما يخرج شيخ الأزهر وتخصصه عقيدة، ووزير الأوقاف، وتخصصه الحديث، وهما أصعب تخصصين، فنحن أمام مباركة دينية لهذه الآثار.

"السياحة": أغطية المتحف الكبير البلاستيكية مخلفات مؤقتة لحفل الافتتاح.. والشركة بدأت إزالتهابعد افتتاح المتحف المصري الكبير.. زاهي حواس يدعو لتغيير قوانين اليونسكو واستعادة نفرتيتي وحجر رشيد

وأضاف سعد الدين الهلالي، في برنامج "الحكاية" مع الإعلامي عمرو أديب، على فضائية "ام بي سي مصر"، أن رموز المصريين القدماء ليست وثنية، لأن هذه الرموز موجودة في الإسلام، ولهذا شعار الهلال يرمز للإسلام، وهو ليس موجود على عهد النبي ولا في أي عهد آخر، ولهذا لا يمكن أن نقول أن رمز الهلال وثنية.

وأشار إلى أن الشعب المصري لأول مرة يجتمع بعد انتصار 73 على فرحة، وهذا ما جعل الاتجاه السلفي والإخواني يحتضرون، لأنهم بذلوا جهد كبير في استقطاب الشعب واختطافه في الإسلام الضيق، لأنهم يتاجرون بالدين ويسعون إلى الحكم.

طباعة شارك سعد الدين الهلالي المتحف الآثار الإخوان السلفيين المصريين

مقالات مشابهة

  • وزير الخارجية الإيراني: قدراتنا الصاروخية والدفاعية أقوى مما كانت عليه
  • القسام: مشاهد الاحتلال لاستخراج جثة كانت تضليلا
  • إذا كانت لك حاجة عند الله.. «الإفتاء»: بهذا العمل تجد مطلبك
  • عمرو درويش: قانون الإدارة المحلية أولوية.. والتنسيقية كانت دائما حاضرة
  • عادل حقي: موسيقى "المنبر" كانت تحديًا كبيرًا
  • سعد الدين الهلالي: الدولة المصرية القديمة كانت دولة موحدة
  • والي سنار يدعو لتوحيد الصف ونبذ خطاب الكراهية
  • هل كانت حضارة مصر وثنية؟ عالم أزهري يرد على المُتشددين بالأدلة القرآنية
  • ما فوائد المشي في المناطق الحضرية؟