الإفتاء: أباح الله تعالى الكسبَ المبنيَّ على الرضا لَا على الغش
تاريخ النشر: 6th, November 2025 GMT
الغش.. قالت دار الإفتاء المصرية عبر صفحتها الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، إن الله سبحانه وتعالى أباح الكسبَ المبنيَّ على الرضا، لَا على الغش والخيانة، وحَرَّم اتخاذ الأسباب المحرَّمة في المكاسب، وأمر بالسعي في طلب الرزق الحلال والبعد عن الكسب الحرام؛ لأنه مسئول عن ذلك؛ فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: «لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ خَمْسٍ».
وأوضحت الإفتاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرنا من الغش، ورد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟» قَالَ أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنِّي» أخرجه مسلم.
الغش والكذب:
والغشُّ والكذبُ وكتمانُ العيب من الأمور التي يستحق بها صاحبها اللعن والمقت والطرد من رحمة الله سبحانه وتعالى؛ فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم، يَقُولُ: «مَنْ باع عيبًا لم يُبَيِّنْهُ لم يَزَلْ في مَقْتِ الله، ولم تَزَلِ الملائكة تلعنه»، أخرجه ابن ماجه.
مشروعية الغش:
وأكدت الإفتاء أن الغشُّ محرَّمٌ في كل صورة؛ وهو من الكبائر؛ لأنَّه كذبٌ وخيانةٌ وحصولٌ على مكاسب لا حقَّ لصاحبها فيها، وقد نهى الله سبحانه وتعالى عنه؛ فقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا﴾ [الأحزاب: 58]، والغش من أشد أنواع الإِيذاء.
دعاء التوبة بعد الغش:
قال رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم-: «اللَّهُمَّ أَنْتَ المَلِكُ لا إلَهَ إلَّا أَنْتَ أَنْتَ رَبِّي، وَأَنَا عَبْدُكَ، ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَاعْتَرَفْتُ بذَنْبِي، فَاغْفِرْ لي ذُنُوبِي جَمِيعًا، إنَّه لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلَّا أَنْتَ، وَاهْدِنِي لأَحْسَنِ الأخْلَاقِ لا يَهْدِي لأَحْسَنِهَا إلَّا أَنْتَ، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا لا يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إلَّا أَنْتَ، لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ كُلُّهُ في يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ ليسَ إلَيْكَ، أَنَا بكَ وإلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إلَيْك.
الغش:
ومن المؤكد أن الله تعالى رحيم بمن تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة، ودود ذو محبة للتائب يوده ويحبه، قال تعالى: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90].
التوبة من الغش:
كما أن الله تبارك وتعالى رحيم بعباده لطيف بهم؛ قال تبارك وتعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]؛ فالله تعالى واسع المغفرة، فإذا تاب العبد إلى ربه ورجع قبل الله تبارك وتعالى توبته حتى لو ارتكب أشنع الخبائث؛ لأن رحمته وسعت كل شيء في الأرض وفي السماء؛ قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [الشورى: 25].
الغش بالإسلام:
والكافر إذا تاب إلى ربه وأسلم قبل الله تعالى توبته؛ قال تعالى: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ﴾ [الأنفال: 38]؛ فمن باب أولى إذا ارتكب المسلم معصية كبيرةً أو صغيرة ثم تاب إلى ربه قبله الحق تباركت أسماؤه، وباب التوبة مفتوح لن يُغلق أبدًا إلا بعد أن تصل الروح إلى الحلقوم. قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ﴾ [النساء: 17 - 18].
وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إنَّ اللهَ يَقْبلُ تَوبةَ الْعَبدِ مَا لم يُغَرْغِر» رواه أبو داود وابن ماجه.
الغش:
وقَالَ ﷺ: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ، فَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ، وَأَسْتَغْفِرُهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ» [أخرجه أحمد في مُسنده]، وإذا كان هذا حال سيدنا رسول الله ﷺ مع التوبة وقد غُفِر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فنحن لها أحوج بلا شك.
عَنْ أَبِي ذَرٍ -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاؤُهُ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً». [أخرجه مسلم]
حكم الغش:
قال الله تعالى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ [الزمر: 53]، وقال جل شأنه: ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [آل عمران: 133-135]، وقال عز من قائل: ﴿إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 70].
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: الغش بيع الغش حكم الغش اعمال الغش صلى الله علیه ى الله علیه الله تعالى قال تعالى رسول الله ى الله ع ول الله ل ى الل
إقرأ أيضاً:
خليل الشكيلي: إبراهيم عليه السلام نموذج الوفاء المطلق في الطاعة دون تردد أو اعتراض
شهد جامع لزغ بولاية سمائل محاضرة دينية للداعية خليل الشكيلي بعنوان "التسليم على طريقة النبي إبراهيم"، تحدث فيها بأسلوب إيماني مؤثر عن مقام الخليل عليه السلام في القرآن الكريم، وما تضمنته سيرته من معاني الاستسلام الكامل لله تعالى والطاعة الخالصة التي رفعت قدره وجعلته إماما للناس ومثالا في الإيمان واليقين، استهل الشكيلي حديثه بالتأكيد على أن ذكر النبي إبراهيم عليه السلام في القرآن الكريم ليس مجرد استحضار لتاريخ نبي مضى، بل هو درس دائم لكل مؤمن يسعى إلى ترقية إيمانه وإصلاح علاقته بربه، فقال: "نجد ذكر النبي إبراهيم عليه الصلاة والسلام في مواضع كثيرة من كتاب الله، وقد أثنى الله تعالى عليه ثناء عظيما في أكثر من موضع، وهذا الثناء لم يأتِ إلا لمن بلغ الغاية في الصدق والاستسلام والطاعة"، ثم تلا قوله تعالى: "إِن إِبْرَاهِيمَ كَانَ أمة قَانِتا لِلهِ حَنِيفا وَلَمْ يَك مِنَ الْمشْرِكِينَ، شَاكِرا لِأَنْعمِهِ اجْتَبَاه وَهَدَاه إِلَى صِرَاط مسْتَقِيم"، مشيرا إلى أن الله سبحانه وتعالى جمع في هذه الآية وحدها أكثر من عشر صفات من صفات الكمال التي اجتمعت في إبراهيم عليه السلام، ليظهر مقامه الرفيع بين أنبياء الله، وقال الشيخ الشكيلي: "وحين يقول الله تعالى: واتخذ الله إبراهيم خليلا، ندرك أن هذا المقام لا ينال إلا بالعبودية الصادقة والتسليم الكامل لله عز وجل، ولذلك كانت سيرة إبراهيم عليه السلام مدرسة في الطاعة واليقين".
وتابع موضحا أن عظمة النبي إبراهيم لم تكن في كثرة أعماله فحسب، بل في نوعية طاعته لله، قائلا: "لقد كان استسلام إبراهيم استسلاما مطلقا، لا تردد فيه ولا اعتراض، بل تصديق وتسليم، فكلما أمره الله بأمر نفذه من غير تردد، وكلما ناداه الحق استجاب من غير حرج في صدره"، وأوضح أن هذا هو الفرق بين إسلام عامة الناس وإسلام الخليل، فالإسلام درجات، وأعلاها ما يكون على طريقة إبراهيم عليه السلام، حين يبلغ العبد مقام الرضا التام، فيسلم أمره كله لله، وأضاف قائلا: "لو شبهنا الإسلام بعمارة شاهقة لها طوابق كثيرة، فإن الطابق الأول هو طابق الذين أسلموا ولكنهم يقعون في التقصير، ثم يعلو من يحافظ على صلاته وصيامه واجتنابه المعاصي، أما إبراهيم عليه السلام فكان في قمة هذه العمارة، حيث لا يرى في الطاعة إلا وجه الله".
وانتقل الداعية إلى بيان أن هذا المقام الرفيع لا يتحقق إلا بصدق اليقين، مبينا أن الله تعالى حين قال: "إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين"، فإن هذه الكلمة وحدها تختصر معنى الإسلام الحق الذي يقوم على المبادرة إلى الطاعة دون تردد، فقال: "استسلم إبراهيم في لحظة الخطاب، لم يحتج إلى تفكير ولا مراجعة، لأن قلبه كان عامرا بالإيمان، وعقله مملوءا باليقين"، وأضاف متأملا: "وهذا ما نفتقده اليوم في كثير من الناس، إذ يختبرهم الله بأمر فيترددون، أو يبتليهم بنعمة فينسون الشكر، أما إبراهيم فكان يسارع إلى كل أمر إلهي وكأنه هدية من الله".
وأشار الشكيلي إلى أن الابتلاءات التي مر بها الخليل عليه السلام لم تكن إلا وسائل لرفع درجته عند الله، فقال: "لقد ابتلي إبراهيم بأن يلقى في النار، وأن يهاجر عن وطنه، وأن يؤمر بذبح ابنه، وكل ذلك قابله بالتسليم، فما اهتز قلبه ولا ضعف يقينه، بل قال لابنه: يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى، فجاء الرد الإيماني من الابن: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين"، وعلق الشيخ قائلا: "هنا نرى مشهدا من أعظم مشاهد الإيمان في تاريخ البشرية، فالأب مستسلم لأمر الله، والابن مستسلم مع أبيه، وكأنهما روحان اتحدتا في الطاعة، وبهذا التسليم تحقق الوعد العظيم وجاء الفداء".
ثم مضى ليربط هذه المواقف القرآنية بواقع المسلم اليوم، فقال: "ليس المقصود من قصص الأنبياء أن نتلوها في المصاحف فحسب، بل أن نحياها في حياتنا اليومية، فكل واحد منا له نصيب من امتحان إبراهيم، وإن اختلفت صوره، فربما ابتلاك الله بمرض أو فقد أو ضيق رزق، لينظر: هل تسلم أم تعترض؟ هل ترضى أم تجزع؟"، وأضاف بأسلوب تأملي: "المؤمن الحق لا ينظر إلى البلاء في صورته الظاهرة، بل يرى فيه لطف الله الخفي، لأن الله لا يبتلي عبده ليعذبه، بل ليصنع منه عبدا صادقا".
وبين أن محبة الله تعالى تتفاوت في القلوب، فمن الناس من يعبد الله طمعا في الجنة، ومنهم من يعبده خوفا من النار، وهؤلاء لهم أجرهم، "لكن هناك من يعبد الله حبا له سبحانه، لا طمعا ولا خوفا، بل لأن الله أهل لأن يعبد ويحب لذاته"، وأضاف: "هؤلاء هم الخاصة من عباد الله، بل الخاصة الخاصة، الذين لا تحركهم الرغبة في الثواب ولا الرهبة من العقاب، وإنما محبتهم لله محبة خالصة، فهم يعبدون الله بالله، أي يعبدونه كما يريد هو، لا كما يريدون هم".
ثم استشهد بقوله تعالى: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، مفسرا الآية بأنها دعوة للعبودية الخالصة التي لا يشوبها غرض دنيوي، وقال: "العبودية ليست أن نطلب من الله ما نريد، بل أن نرضى بما يريد، وهذا هو مقام التسليم، وهو سر المحبة التي ميزت إبراهيم عليه السلام"، وتابع حديثه قائلا: "كل من أراد أن يكون من ورثة إبراهيم في الإيمان فليتعلم هذا السر العظيم، سر العبودية بلا اعتراض، والطاعة بلا شرط".
وانتقل في محاضرته إلى الحديث عن مقام الصديقين والأبرار الذين وصفهم الله بقوله: "إن الذين هم من خشية ربهم مشفقون، والذين هم بآيات ربهم يؤمنون، والذين هم بربهم لا يشركون، والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون"، مبينا أن هؤلاء هم الذين وصفهم العلماء بأنهم "الأكياس الألباب"، أي أصحاب القلوب الصافية التي سمت فوق الشهوات والمخاوف، وقال: "إن استغفارهم ليس من ذنب ارتكبوه، وإنما استغفار على لحظة غفلة عن الله، لأنهم يشعرون أن كل لحظة تمر دون ذكر الله هي نقص في حق العبودية".
وأشار الشكيلي إلى أن إبراهيم عليه السلام كان نموذجا لهذه الحالة الإيمانية الرفيعة، "فهو الذي وفى، كما قال الله تعالى: وإبراهيم الذي وفى، أي أتم ما كلف به دون نقصان، ولم يجعل في طاعته لله لحظة تردد أو اعتراض"، وأضاف موضحا: "وهذا الوفاء هو ما جعل الله يرفعه في الدنيا والآخرة، فقال سبحانه: وآتَيْناه في الدنيا حسنة وإنه في الآخرة لمن الصالحين، فجمع له الحسنتين في الدارين".
وفي سياق تدبري عميق، تحدث خليل الشكيلي عن معنى اتخاذ الله لإبراهيم خليلا، فقال: "الخلة هي أعلى درجات المحبة، وهي التي تملأ القلب حتى لا يبقى فيه لغير الله مكان، فإبراهيم لم يترك شيئا من نفسه إلا لله، فاستحق أن يكون خليله"، ثم أضاف: "ولم يعط هذا المقام إلا لنبيين كريمين: إبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، كما قال النبي ﷺ: إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا".
وأكد أن مقام التسليم ليس مجرد شعار يرفع أو دعوى تقال باللسان، بل هو سلوك يترجم في لحظات الابتلاء، قائلا: "حين يأتي أمر الله فلا مجال للمساومة، لأن القلب المؤمن لا يختار على اختيار الله شيئا"، واستشهد بقوله تعالى: "وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم"، موضحا أن هذه الآية هي ميزان العبودية الحقيقي، فمن وجد في قلبه حرجا من أمر الله فليعلم أنه لم يحقق التسليم بعد، بعدها وجه خطابه للحاضرين بقوله: "يا أيها الإخوة، إن أعظم ما نحتاج إليه اليوم هو أن نتعلم من إبراهيم عليه السلام معنى الإسلام الحقيقي، لا الإسلام بالهوية أو العادة، بل الإسلام بالاستسلام والرضا، فالإيمان ليس كلمات تقال، وإنما مواقف تختبر"، وأضاف في نبرة مؤثرة: "لو علم الناس لذة التسليم لله لما اعترضوا على قدره يوما، ولما جزعوا عند البلاء، لأن القلب الذي ذاق طعم التسليم يعيش مطمئنا مهما تغيرت الأحوال"، ثم أعاد التأكيد على أن طريق التسليم يبدأ من المعرفة بالله، لأن من عرف الله أحبه، ومن أحبه سلم له، ومن سلم له رضي بكل ما يقضي، وقال: "حين يستقر في القلب أن الله حكيم رحيم، يسهل على الإنسان أن يقول كما قال إبراهيم: أسلمت لرب العالمين"، وأردف قائلا: "هذا هو جوهر الرسالة التي أراد القرآن أن يرسخها فينا من خلال قصة إبراهيم، أن نصل إلى مقام الرضا المطلق، فنقول بقلب مطمئن: اللهم لك الحمد في كل حال".