بعد لقائه مع السلطات المدنية وأعضاء السلك الدبلوماسي توجه البابا فرنسيس عصر السبت بالتوقيت المحلي إلى كاتدرائية القديسين بطرس وبولس في أولانباتار، حيث كان له لقاء مع الأساقفة والكهنة والمرسلين والمكرسين والمكرسات والعاملين الرعويين ووجه لهم خطابا أكد فيه أن يسوع هو يسوع هو الخبر السار الموجَّه إلى جميع الشعوب، هو النبأ الذي لا يمكن للكنيسة أن تتوقف عن نشره.

استهل البابا كلمته متوقفا عند الآية التاسعة من المرموز الرابع والثلاثين "ذُوقُوا وَانظُرُوا مَا أَطيَبَ الرَّبَّ"، وقال إن فرح الرّبّ وصلاحه ليسا شيئًا عابرًا، بل يظلَّان في الداخل، ويعطيان معنى وطعمًا للحياة، ويُظهِران الأشياء بطريقة جديدة. أريد إذًا أن أتذوَّق طعم الإيمان في هذه الأرض، بالتّذكير بقصص ووجوه وحياة بُذِلَتْ هنا من أجل الإنجيل. بَذلُ الحياة من أجل الإنجيل: إنّه تعريف جميل لدعوة المــُرسَلين المسيحيّين، ولا سيّما الحياة التي يعيشها المسيحيّون هنا.

وذكّر البابا هنا بالأسقف وينشسلاوس سيلجا باديلا، قائلا إنه كان أوّل مدبر رسوليّ، ورائد المرحلة المعاصرة للكنيسة في منغوليا وهو باني هذه الكاتدرائيّة. ومع ذلك، فإنّ الإيمان هنا لا يعود فقط إلى التّسعينيات من القرن الماضي، بل له جذور قديمة جدًّا. هناك خبرات الألفيّة الأولى، التي بدأت بالحركة التّبشيرية للكنيسة ذات التّقليد السّرياني التي انتشرت على طول طريق الحرير. ثمّ أعقبها جهد إرسالي كبير.

بعدها أكد البابا أن حب الإنجيل عاد إلى الظّهور من جديد بطريقة خارقة في عام 1992، مع وصول المرسلين الأوائل من جمعية قلب مريم الطّاهر، ثمّ انضمّ إليهم ممثّلون لمؤسّسات أخرى، من الإكليروس الأبرشي والمتطوعين العلمانيّين. وقال: بين جميع هؤلاء، أريد أن أذكر العامل النّشيط والغيور، الأب ستيفانو كيم سيونغ هيون. ونذكر خدَّامًا أمناء كثيرين للإنجيل في منغوليا، وبعضهم معنا هنا الآن، وبعد أن قضوا حياتهم من أجل المسيح، يرون الآن ويتذوَّقون أعاجيب الله المستمرّة والعاملة فيكم ومن خلالكم.

هذا ثم تساءل البابا قائلا: لماذا تقضون الحياة من أجل الإنجيل؟ من أجل ما يقوله المزمور الرابع والثلاثون، لأنكم تذوَّقْتُم وأحسَسْتُم رائحة الرّبّ الطّيبة، واختبرتم في حياتكم حنان محبّة الله. الله الذي جعل نفسه مرئيًا وملموسًا والذي نلاقيه في يسوع. نَعَم، هو الخبر السّارّ الموجَّه إلى جميع الشّعوب، هو النّبأ الذي لا يمكن للكنيسة أن تتوقَّف عن نشره، والذي تجسِّدُه في الحياة وتهمسه في قلب الأفراد والثّقافات. اختبار محبّة الله في المسيح هو النّور النّقي الذي يبدِّل الوجه ويجعله هو أيضًا مُشِعًّا بالنّور. ولفت فرنسيس إلى أن الحياة المسيحيّة تولد من التّأمل في هذا الوجه. إنّها مسألة حبّ، ولقاء يومي مع الرّبّ في الكلمة وفي خبز الحياة، وفي وجه الآخر، وفي المحتاجين، الذين يكون يسوع حاضرًا فيهم.

تابع البابا خطابه متوجها إلى الحاضرين وقال: بحضوركم مدّة ثلاثين سنة في منغوليا، أنتم، أيّها الكهنة الأعزاء، والمكرّسون والعاملون الرّعويّون، قمتم بنشاطات كثيرة مختلفة في مجال أعمال المحبّة، التي تستنفد معظم طاقاتكم وتعكس وجه المسيح الصّالح، والسّامري الرّحيم. إنّه مثل بطاقتكم الشّخصيّة، التي جعلتكم محترمين ومقدَّرِين، بسبب الإحسانات الكثيرة التي صنعتموها لكثير من الناس في مختلف المجالات: المساعدة الاجتماعيّة، والتّربية، والرّعايّة الصّحية وتعزيز الثّقافة. أشجعكم للاستمرار في هذا الطّريق الخصب والمفيد للشّعب المنغولي الحبيب.

وفي الوقت نفسه، مضى البابا يقول، أدعوكم إلى أن تذوقوا وتنظروا الرّبّ، وأن تعودوا دائمًا ومن جديد إلى تلك النّظرة الأولى التي وُلِدَ منها كلّ شيء. بدون هذه النّظرة، تضعف القِوى، ويوشك الالتزام الرّعوي أن يصير تقديم خدمات عقيم، وسلسلة من الإجراءات الواجبة التي تنتهي في نهاية المطاف بأنّها لا تعطي شيئًا إلّا التّعب والإحباط. أمّا إن بقينا على اتصال بوجه المسيح، والبحث في الكتاب المقدس والتّأمل فيه في سجود وصمت أمام بيت القربان، سوف تتعرفون عليه في وجوه الذين تخدمونهم، وستشعرون بالفرح الحميم والذي يملأ قلوبكم بالسّلام حتّى في الأوقات الصّعبة. هذا ما نحتاج إليه، لا إلى أشخاص منشغلين ومشتتين ينفِّذون المشاريع، ويوشكون أحيانًا أن يشعروا بالمرارة لحياة ليست سهلة بالتّأكيد. يجب أن نعود إلى الينبوع، إلى وجه يسوع، وأن نتذوَّق حضوره: إنّه كنزنا، واللؤلؤة الثّمينة التي تستحق أن نبيع كلّ شيء من أجلها.  

توقف البابا بعدها عند كلمة "شركة" وقال إن الكنيسة لا تُفهم على أساس أنّها هيئة لها أداء وظيفي، والأسقف يقوم بإدارة مكوِّناتها المختلفة، بناءً على مبدأ الأكثريّة، بل يديرها وفقًا لمبدأ روحي، به يكون يسوع نفسه حاضرًا في شخص الأسقف، حتّى يضمن الشّركة في جسده السّرّي. ومن المهمّ أن تتحدّ جميع المكوِّنات الكنسية حول الأسقف الذي يمثّل المسيح الحيّ وسط شعبه، وكذلك تُبنَى الشّركة السّينوديّة التي هي بالفعل إعلان، وتساعد كثيرًا على غرس الإيمان.

هذا ثم توجه البابا إلى المرسلين والمرسلات وقال لهم: ذوقوا وانظروا الموهبة التي هي أنتم، وجمال عطائكم أنفسكم عطاء كاملًا للمسيح الذي دعاكم لتشهدوا لحُبِّهِ الخاصّ هنا في منغوليا. استمروا في شهادتكم له، بتقوية الشّركة بينكم. اشهدوا ببساطة حياة قانعة، مقتدين بالمسيح، وكونوا دائمًا قريبين من النّاس، اعتنوا بهم شخصيًّا، وتعلَّموا لغتهم، احترموا وأحِبُّوا ثقافتهم، ولا تسمحوا لأنفسكم بالانجرار إلى البحث عن ضمانات دنيويّة، بل ظلُّوا ثابتين في الإنجيل، بحياة روحيّة وأخلاقيّة مستقيمة ومثالية.

ختاماً قال البابا: أنا معكم ومن كلّ قلبي أقول لكم: شكرًا. أشكركم على شهادتكم، شكرًا على حياتكم التي تقضونها من أجل الإنجيل. استمِرّوا على هذا النحو، ثابتين في الصّلاة، وخلَّاقين في المحبّة، راسخين في الشّركة، فرحين وودعاء في كلّ شيء ومع الجميع. ثم منح الحاضرين بركته الرسولية طالباً منهم أن يصلوا من أجله.


 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: أقباط فی منغولیا ة التی

إقرأ أيضاً:

هل نعيش حقًا أم نُكرر الحياة؟

 

 

نورة الدرعية

في زحمة الحياة اليومية، نُخدع أحيانًا بفكرة أننا نملك زمام قراراتنا. نعيش وفق ما نظنه اختياراتنا، ونعتقد أننا أحرار في توجيه حياتنا، بينما نكون في الحقيقة مقيدين بأنماط مألوفة، وموروثات فكرية واجتماعية تشكل طريقة نظرنا إلى العالم. نحن نكرر، لا نختار، ونؤدي أدوارًا رسمها غيرنا دون أن نعي ذلك.
يميل الإنسان بطبيعته إلى الأمان، إلى التمسك بالمألوف وتجنب المجازفة. فنُغلق أبواب الاحتمالات التي لا نعرفها، ونفضل طرقًا اختبرها الآخرون، حتى لو لم تُشبهنا. وربما لهذا السبب، يعيش كثيرون حياة باهتة، نصف مكتملة، تفتقر إلى الشغف والمعنى، ويقضون أعمارهم وهم يسيرون في دوائر مألوفة، دون أن يجرّبوا السير في طريق جديد، فقط لأن المجهول يخيفهم.
الحياة، كما نعرفها، قصيرة جدًا. لكنها في قِصرها تمنحنا فرصة نادرة لنكون ما نريد، لا ما يُنتظر منا. ومع ذلك، لا نغتنم هذه الفرصة دائمًا. نُؤجل أحلامنا، نخشى التغيير، ونتردد في خوض المغامرات التي قد تقودنا إلى نسخ أكثر صدقًا من أنفسنا. وفي لحظة ما، قد نستيقظ لنجد أن العمر مرّ دون أن نعيش حقًا، دون أن نلمس المعنى الحقيقي للحياة.
إن أخطر ما قد يصيب الإنسان هو الاعتياد على حياة لا تليق به. أن يصبح نسخة باهتة من حلم قديم، أن يتنازل عن طموحه كي يرضي مقاييس النجاح الشائعة، أو أن يعيش على هامش الحياة فقط لأنه خائف من الفشل. هذه الحياة المؤجلة ليست حياة كاملة، بل استسلام ناعم يسرق منا أجمل ما فينا.
لكن الشجاعة لا تعني الكمال، بل تعني أن نملك الجرأة على السؤال: هل ما أعيشه يشبهني؟ هل أريد هذا الطريق؟ أن تكون شجاعًا يعني أن تعترف بأنك تستحق أكثر، وتملك الحق في المحاولة، حتى لو أخطأت. فالتجربة، لا السلامة، هي ما يمنح الحياة طعمها الحقيقي.
مؤسف أن نرى الكثيرين يحيون بلا شغف، يعملون في وظائف لا يحبونها، ويتخذون قراراتهم بناءً على توقعات الآخرين. إنهم يعيشون حياة مستعارة، ويخافون أن يخسروا ما لا يملكونه أصلًا. وما إن يفيقوا على حقيقة هذا الخوف، حتى يكون الأوان قد فات.
الحياة لا تكتمل وحدها، بل تحتاج من يقودها ويمنحها الاتجاه. والخسارة الحقيقية ليست في الفشل، بل في ألا نحاول أبدًا. أن نعيش بنصف قلب، ونخوض الأيام بلا روح، هو ما يجب أن نخافه، لا العثرات.
اختر أن تعيش حياة تُشبهك. حياة تُدهشك، وتعبّر عنك. فالحياة لا تعني أن تبقى، بل أن تُزهر، أن تخوض، أن تغامر، وأن تثبت أنك تستحق أكثر من البقاء: تستحق الحياة بكل احتمالاتها.

مقالات مشابهة

  • المتحدث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا في مؤتمر صحفي: بعد عملية أمنية استناداً إلى معلومات أولية وبتنسيق مشترك مع جهاز الاستخبارات العامة، نفذت وحداتنا الأمنية بريف دمشق عملية استهدفت مواقع الخلية الإرهابية التي نفذت تفجير كنيسة مار إلياس في حي الدو
  • فيضانات صرف صحي تشل الحياة في عدن
  • بحضور لفيف من الأساقفة.. حفل استقبال نيافة الأنبا أولوجيوس في قطاع كنائس عين شمس
  • تعاون مثمر بين الأزهر والكنيسة الأسقفية
  • البابا تواضروس يلتقي سفراء مصر الجدد في عدد من دول العالم
  • الأنبا عمانوئيل يترأس قداس المناولة الاحتفالية برعية القديس فرنسيس الآسيزي بالرزيقات
  • هل نعيش حقًا أم نُكرر الحياة؟
  • المتحدث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا: من بين الأوكار المستهدفة، وكر العصابة الذي اعتدى على كنيسة مار إلياس أمس، وسيتم نشر تفاصيل العملية عبر الحسابات الرسمية لوزارة الداخلية
  • مؤتمر صحفي للمتحدث باسم وزارة الداخلية نور الدين البابا حول التفجير الإرهابي الذي استهدف كنيسة مار إلياس بدمشق
  • رشدي المهدي.. «الشيخ عتمان» الذي غادر الحياة وبقي في الذاكرة