في قوله تعالى «أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير» ما هو الإعجاز في خلق الطير؟

من العجيب أن يُسأل عن وجه الإعجاز في خلق الطير على ما أجراه الله تبارك وتعالى بإذنه على يد نبيه عيسى عليه السلام، إذ وجه الإعجاز ظاهر، فليس في مقدور أحد من البشر أن يصنع ويقدر على هيئة طائر من الطين ثم ينفخ فيه، فتنفذ فيه الحياة ويطير، ويراه الناس طائرًا يطير، هذا ليس في مقدور أحد من البشر، ولذلك بيّن الله تبارك وتعالى بعض الآيات التي أجراها على يد نبيه عيسى عليه السلام حينما بشّر به أمه عليها السلام في سورة آل عمران، وأنه سيجري عليه آيات يؤمن بها أولئك الذين تنفعل قلوبهم ويستجيبون لداعي الإيمان من بني إسرائيل.

وكان من هذه الآيات التي نص الله عز وجل على ذكرها ما ورد هنا من أنه يخاطبهم أو يبيّن أو يفسّر بعض هذه الآيات بقوله: «أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير»، هذه هي المرحلة الأولى، لأنه لما ورد في المائدة بيان الآيات التي أجراها الله عز وجل على لسان عيسى عليه السلام، أفردت هذه الآية، ولذلك أُتبعت بالتعليق: «بإذن الله».

فـ«يخلق» هنا بمعنى يُقدّر ويصنع، فمن معاني الخلق في اللغة لا في الاصطلاح أنه التقدير أو التصوير، أما في الاصطلاح فقد اتجه الاستعمال في التراث الإسلامي إلى أن الخلق بمعنى الإيجاد من العدم، لكنه في أصل الوضع اللغوي، وتشهد له آيات كثيرة في كتاب الله عز وجل لا تقل عن أربع آيات يأتي بمعانٍ شتى، منها الصنع والتقدير.

قال تعالى: «أنّي أخلق لكم من الطين كهيئة الطير»، هذه هي الآية الأولى، ثم بيّن القرآن الكريم أنه ينفخ فيها فتكون طيرًا بإذن الله، وفي رواية عند نافع: «فتكون طائرًا بإذن الله»، تنبعث بهذه النفخة من عيسى عليه السلام الحياة في ذلك الطائر، فيطير وتُرى عليه آثار الحياة.

لا بيان في كتاب الله عز وجل لنوع هذا الطير، وإن كان المفسرون قد ذكروا بعض الروايات أو الآثار، لكن ليس شيء منها مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى هذا فلا يمكن التعويل على نوع هذا الطير ولا على مدة حياته، ويُذكر أنه طار حتى توارى عن الأنظار ثم سقط.

فهذه هي المعجزة، أو إحدى المعجزات التي أجراها الله تبارك وتعالى على يد عيسى عليه السلام بإذنه، لتأييده بأنه رسول من عنده، ولإقامة الحجة على بني إسرائيل الذين بُعث فيهم، ووجه الإعجاز فيها ظاهر، إذ هي أمر خارق للعادة، ليس في مقدور أحد من البشر أن يأتي بمثلها.

وقد اختلف أهل العلم: هل ذلك من طبع عيسى عليه السلام، لأنه تكوّن بما نفخه الملك في أمه عليها السلام الطاهرة العذراء، فاكتسب هذه الصفة، فصار يمكن له بإذن الله عز وجل لا بخلق من عنده أن ينفخ في الجماد فيصير حيًا ويحيي الموتى أيضًا؟  

 أم أن ذلك كان حينما يطلب قومه منه آية تدل على صدق رسالته ونبوته، فيأمره الله تبارك وتعالى أن يشكّل من الطين على هيئة الطير ثم ينفخ فيه، وفي تلك اللحظة يوجد الله تعالى الحياة في ذلك الطير.

إذ إن وصف الطير يصدق كما هو معلوم على المفرد والجمع، لكن مؤدى القولين واحد، والنتيجة أن ذلك إنما هو بأقدار الله عز وجل له بإذنه سبحانه وتعالى، ولذلك تكرر قوله تعالى: «بإذن الله» في سورة المائدة أربع مرات أو خمس مرات، وهنا في آل عمران أيضًا، حتى لا يُتوهم ما لا يصح أن يُوصف به عيسى عليه السلام، كما بالغت فيه النصارى ووصفته بما لا يليق، فيؤكد القرآن الكريم هذا المعنى، وفي ذلك دلالة على آية عظيمة ظاهرة، وفيها غُنية عن الخوض في تفاصيل لم تثبت بأدلة صحيحة في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا هو المعنى الظاهر، والله تعالى أعلم.

بعض العائلات تلجأ إلى مصلحين أو مشايخ ـ هكذا هو يقول ـ ممن لديهم كرامات في شؤون حياتهم، لكن أحيانًا يخبرهم هؤلاء بأفعال ينسبونها إلى أحد الأفراد مع أن ذلك الفرد لم يقم بها أصلًا، فيصدقه الأهل دون تثبت، لثقتهم بالمصلح، فما توجيهكم لمن يأخذ مثل هذه الأخبار؟ وهل يجوز شرعًا الاعتماد على قول هؤلاء؟

 هذه القضية مركبة من جملة مسائل، ويمكن أن نبدأ بآخرها، وهي محل السؤال عن الجواز وعدمه، محل السؤال هو أن ينسب من لجأ إليه المبتلى السبب في ما أصابه إلى معينين، وهذا مما حذر منه أهل العلم، لأن ذلك لا يصح إلا ببينة عادلة يمكن أن يُحتج بها شرعًا، ولا سبيل إلى ذلك، فلئن نُسب إلى أحد أنه هو الذي صنع ذلك السحر -على سبيل المثال- فما لم يكن هناك شهود رأوا الفاعل يأتي بالسحر ويصنعه، وثبت عندهم أنه قصد به أحدًا من الناس، فإن المغيبات التي لا يطلع عليها الناس لا تقوم بها الحجة.

وعلى هذا، فإن من يدّعي أنه يعرف المتسبب الذي ألحق الضرر أو الأذى بأحد الناس بطريق خفية، ليس له أن يكشف ذلك للناس، ولا أن يبني عليه أحكامًا، لأن هذا لا يخرج عن دائرة الظن، ولا يصح اتهام الناس بالظنون، وكم جرّ مثل هذا على المجتمع من فتن ورزايا بلغت حد ارتكاب الجرائم والعياذ بالله بناءً على تصديق الناس الذين يقصدون أمثال هؤلاء، فإذا بهم ينسبون الضرر والأذى إلى شخص بعينه، فتكون ردّة فعلهم الغضب البالغ والسعي إلى الثأر والانتقام، فيرتكبون جرائم وصلت إلى حد القتل.

ولذلك فالمسألة خطيرة، ويجب على هؤلاء أن يتفقهوا في دين الله تبارك وتعالى، إذ ليس لهم -حتى مع إحسان الظن بهم وأن عندهم من الوسائل ما يعرفون به المتسبب- أن يعلنوا ذلك، لأنه لا تقوم به حجة شرعية، ومع إحسان الظن، إن وُجد مثل هذا، فعليهم أن يحتفظوا به لأنفسهم، وألا يُبدوه لأحد، لئلا يكونوا سببًا في المنازعات والخصومات والمشاحنات بين الناس، أو في إلقاء التهم جزافًا دون أدلة صحيحة يمكن أن تُقبل شرعًا.

ولا يُفهم من هذا الجواب أن مسألة اللجوء إلى المعالجين كما يفهم من السؤال جائزة على إطلاقها، لأن كثيرًا من هؤلاء المعالجين على الصحيح إنما هم أدعياء يدخلون فيما ليس لهم، وهذا لا يعني أنه لا يصح أن يقوم بعض أهل العلم بالرقية الشرعية، لكن الأصل أن يقوم المسلم برقية نفسه بنفسه، بأن يأتي بالآيات والأذكار المعلومة مما فيها رقية وتحصين، وأن يحافظ عليها صباحًا ومساءً وأدبار الصلوات، وأن يُحصّن نفسه بالأذكار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولا مانع من أن يقصد غيره من أهل العلم والفضل ممن آتاهم الله تبارك وتعالى ملكات في هذا الباب لطلب التحصين والرقية الشرعية، لثبوت ذلك في سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، كما ورد في قصة النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذين مروا بقوم فاستضافوهم فلم يُضيّفوهم، فلما خرجوا عنهم، أتوهم لأن سيدهم كان سليمًا أي -لدغته عقرب أو عضته أفعى- فقالوا لهم: هل فيكم من راقٍ؟ فقالوا: نعم، ولكنهم اشترطوا جعلاً، فقام أحدهم برقيته بسورة الفاتحة، فأعطوهم غنمًا، فاختلفوا فيما بينهم هل تحل لهم أم لا، حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فبيّن لهم جواز ما فعلوا، فالرواية تدل على جواز أن يقوم أحد برقية آخر بما هو مشروع من الرقى الشرعية.

لكن البحث الآن في الجواز، والمشكلة أن الناس توسعوا كثيرًا في هذا الباب؛ فصاروا ينسبون كل ما يصيبهم إلى العين أو الحسد أو السحر، وهؤلاء الذين ينزلون أنفسهم منزلة الرقاة أو المعالجين منهم من يتكسب الأموال، ومنهم من ادعى هذه المنزلة، ومنهم من يخدع الناس -والعياذ بالله- دون تعميم، لكن كل ذلك موجود، ومع فشو الجهل وضعف الإيمان، انتشرت هذه التجارة للأسف الشديد، وأصبحت مربحة جدًا وتدر أموالًا طائلة، لاجتماع الأسباب من جهة: الناس المبتلون بالأمراض والمصائب، ومن جهة أخرى: الذين يتصدرون للعلاج، وكثير منهم جهلاء لا يعرفون أحكام الله المتعلقة بهذا الباب، ولا يفقهون شيئًا في الدين، ولا يشهد لهم الناس بحسن السيرة.

فمن قصد غيره ممن يبتغي منه رقية شرعية، فالأصل أن يكون هذا الراقي أولًا من أهل التقوى والصلاح، ولا يُقال إن ذلك أمر خفي، فسمات الناس تظهر في أخلاقهم ومعاملاتهم وعباداتهم وحرصهم على البعد عن الشبهات، والتنزه عما يخرم المروءات، وحرصهم على حفظ حدود الله، فتعرف عنهم سيرة حسنة، ولا يكفي ذلك، بل لا بد أن يكونوا من أهل العلم والدراية في هذا الباب، فمجرد الصلاح لا يكفي، أهل الخير والصلاح يُطلب منهم الدعاء، ولا حرج في ذلك، لكن في باب الرقية الشرعية والعلاج بالقرآن والأذكار الثابتة لا بد أن يجتمع الوصفان: العلم وحسن السيرة.

ولو كان الراقي من أهل العلم والفقه حقًا، فإنه لن يصنع مثل هذا الفعل، أي لن يدّعي أن الضرر من فلان، أو أن السبب فلان، أو أن الذي تسبب في آذاهم فلان من الناس، فهذه جملة من التنبيهات مع شيء من فقه هذه المسألة، نظرًا للخلط الكبير الحاصل في هذا النوع من القضايا، والحزم اليوم نظرًا لما تقدّم من انتشار هذه الظنون والأفكار بين الناس، وتصدر من لا يحسن هذا الباب هو الحذر والتشدد والحرص وسدّ الذرائع، والله تعالى المستعان.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: رسول الله صلى الله علیه وآله وسلم الله تبارک وتعالى عیسى علیه السلام الله عز وجل هذا الباب أهل العلم بإذن الله من الطین ینفخ فی أن ذلک من أهل ن الله فی هذا لا یصح فی ذلک

إقرأ أيضاً:

لماذا لا يستجيب الله لدعائي؟.. أمين الفتوى يجيب

أجاب الشيخ عويضة عثمان، أمين الفتوى بدار الإفتاء، على سؤال حول سبب عدم استجابة الدعاء لشخص يقول إنه لم يفعل ذنبًا في حياته ويتساءل: «لماذا لا يستجيب الله لي؟».

وأوضح الشيخ عويضة، في تصريحات تليفزيونية، أن كون الإنسان لم يفعل ذنبًا في حياته نعمة عظيمة بحد ذاتها، تستوجب الفرح والشكر، مشيرًا إلى ما ورد عن أيوب السختياني أحد كبار الصالحين إذ قال أحد تلامذته: «صحبت أيوب عشرين عامًا فما علمت أن الملائكة كتبت عليه سيئة واحدة»، مؤكدًا أن حفظ اللسان، وغض البصر، وأكل الحلال، وأداء حق الله كلها نعم جليلة قد تكون أعظم من قضاء حاجة دنيوية.

وأضاف أمين الفتوى، أن عدم استجابة الدعاء ليس دليلًا على الغضب أو البعد عن الله، بل قد يكون نوعًا من الابتلاء أو ادخارًا للثواب والأجر، لأن الله قد يمنع عن عبده أمرًا دنيويًا لحكمة، أو ليعوضه بما هو خير وأبقى.

وأشار الشيخ عويضة، إلى أن الدعاء له أربع حالات: «قد يُستجاب بنفس ما دعا به العبد، أو يُستجاب له بخيرٍ آخر، أو يُرفع به بلاء، أو يُدَّخر ثوابه للآخرة»، مبينًا أن هذه الأخيرة قد تكون أعظمها أجرًا، لأن الله يُفرح عبده يوم القيامة بثواب ما أحزنه في الدنيا بعدم القبول.

وأكد، أن من أنار الله بصيرته يرى الخير في كل حال، فـ«عدم الاستجابة الظاهرة ليست حرمانًا، بل عطاء في صورة أخرى»، داعيًا الناس إلى شكر الله على حفظهم من الذنوب، والنظر إلى المنع باعتباره وجهًا آخر من الرحمة الإلهية.

اقرأ أيضاًما حكم قراءة القرآن الكريم دون الحفظ؟.. أمين الفتوى يجيب

هل يجوز دفن النساء والرجال في قبر واحد؟.. أمين الفتوى يوضح

هل تجوز الصلاة خلف إمام ألدغ؟.. أمين الفتوى يجيب

مقالات مشابهة

  • المفتي والسديس يبحثان تعزيز الشراكة والتكامل بين «الإفتاء» و«كبار العلماء» ورئاسة الحرمين
  • أذكار الصباح كاملة.. رددها الآن ولا تتكاسل عنها
  • المفتي: العيد القومي لكفر الشيخ دعوة للتأمل في دروس التاريخ واستلهام قيم التضحية
  • المفتي يبحث مع محافظ كفر الشيخ إنشاء فرع لدار الإفتاء
  • المفتي ومحافظو الدقهلية والغربية والشرقية يشاركون محافظ كفر الشيخ الاحتفال بالعيد القومي
  • لماذا لا يستجيب الله لدعائي؟.. أمين الفتوى يجيب
  • هل تجسيد الأنبياء والصحابة في الدراما جائز؟.. أمين الفتوى يجيب
  • فتاوى وأحكام.. هل عمل الزوجة يوجب عليها المشاركة في نفقات البيت.. هل يجوز الصلاة على النبي أثناء اللعب على الهاتف..ما فضل الصدقة في رفع البلاء؟
  • ما فضل الصدقة في رفع البلاء؟ .. البحوث الإسلامية يجيب