ماجد عرمان

في قلب الحرب اللعينة، حيث تتشظي البلاد بين الخوف والنجاة، وبين الدعاية والدم، تبدو أفكار مدرسة فرانكفورت كأنها كتبت لهذا الزمن تحديدا، زمن تتداخل فيه السلطة بالسلاح، والحقيقة بالإعلام، والإنسان بغريزة البقاء المحض. فهؤلاء المفكرون الذين شهدوا صعود الفاشيات في أوروبا، ورأوا كيف يعاد تشكيل الوعي تحت القمع والدعاية، لم يقدموا نظريات بعيدة، بل مرايا تكشف آليات الخراب حين يتحول المجتمع إلى ساحة مفتوحة للهيمنة.

وفي سودان اليوم، تظهر صناعة الوعي كما وصفها أدرونو وهوركهايمر في أوضح تجلياتها، فالحرب لا تدار على الأرض فقط، بل تدار أيضا في العقول. تتوالد حقائق جاهزة عبر الفيديوهات والصفحات الممولة والتسجيلات الصوتية، ويتحول الرأي العام إلى مادة تصنع، لا موقف يفكر فيه. كل طرف يقدم روايته بوصفها قدرا لا جدال فيه، حتى يحاصر الناس داخل سرديات مغلقة، يرون العالم بعيون من يحملون السلاح، لا من تجربة الألم اليومية التي يعيشونها. وهكذا تتآكل القدرة على الحكم الأخلاقي الحر، لتحل محلها طاعة غير واعية، شبيهة بما وصفه ماركوز حين تحدث عن الإنسان الحديث الذي يختزل إلى بعد واحد لا يرى إلا ما فرض عليه أن يراه.
ومع تعمق العنف، تتحول السياسة نفسها إلى امتداد للمعركة، ويفقد الحوار قيمته، وهو ما يجعل أفكار هابرماس حول التواصل العقلاني تبدو بعيدة المنال. فلا طاولة يمكن أن تجمع أطرافا تحرّكها الحسابات الميدانية والاقتصادية أكثر مما تحركها فكرة العيش المشترك. ومع تراكم الانهيارات، يصبح المواطن أقرب إلى نموذج الاغتراب الذي تحدث عنه إريك فروم، فرد محاصر بين فقدان المكان وفقدان المعنى. يعيش الناس اليوم واقعا لا يشبههم، ووطنا منقوصا، وحاضرا بلا يقين، ومستقبلا بلا وعد، فينزلقون نحو أشكال من الولاء لا تُمنح لأنها عقلانية، بل لأنها تمنح وهم الأمان. ومع كل يوم تتباعد فيه البلاد عن سلمها الداخلي، يتآكل الحد الأدنى من الأخلاق الذي تحدث عنه أدرونو، ذلك الحد الذي يطرح السؤال المر،كيف نحتفظ بإنسانيتنا حين تنهار كل البُنى من حولنا؟ فالحرب لا تسلب الأرض فقط، بل تسلب القدرة على رؤية الآخر كإنسان لا كتهديد.
تبدو الحرب حين تُقرأ بعيون مدرسة فرانكفورت، ليست عبارة عن نزاع على السلطة، بل اختبارا قاسيا للوعي نفسه، اختبارا يكشف كيف يمكن للدعاية أن تسبق الحقيقة، وللعنف أن يطغى على العقل، وللخوف أن يخنق الأخلاق، وكيف يمكن لمجتمع بأكمله أن يقاد إلى الهاوية حين تضيع المسافة بين الواقع وما يراد له أن يصدق. ومع ذلك، يبقى الرهان الأخير كما قال أدرونو، أن نبحث عن فتات من الإنسانية وسط الخراب، وأن نعيد بناء الوعي قبل أن نعيد بناء البلاد، لأن الخراب الحقيقي يبدأ حين تهزم الروح قبل أن تهزم المدن.

الوسومماجد عرمان

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

إقرأ أيضاً:

الأمم المتحدة: القوات الديمقراطية المتحالفة الكونغولية قتلت 89 مدنيا

أعلنت بعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في الكونغو الديمقراطية اليوم الجمعة أن تحالف "القوات الديمقراطية المتحالفة" المرتبط بتنظيم الدولة الإسلامية قتل 89 مدنيا في هجمات شنها خلال أسبوع بإقليم لوبيرو شرقي البلاد.

وقالت البعثة الأممية (مونوسكو) -في بيان- إن الهجمات التي وصفتها بأنها شديدة الدموية وقعت في الفترة بين 13 و19 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري في عدة مناطق من إقليم لوبيرو الواقع شمال مقاطعة شمال كيفو.

وأضافت أن الهجمات استهدفت منطقتي بابيري وبلدة باسواجا، مشيرة إلى أن بين القتلى 20 امرأة وعددا غير محدد من الأطفال.

وأوضحت أن مسلحي تحالف القوات الديمقراطية قتلوا ما لا يقل عن 17 مدنيا بينهم نساء في هجوم على مركز صحي تديره الكنيسة الكاثوليكية في بلدة بيامبوي، وأضرموا النار في 4 أجنحة تضم مرضى.

وأشار بيان البعثة الأممية إلى أن الانتهاكات الأخرى التي ارتكبها المتمردون شملت عمليات اختطاف ونهب للإمدادات الطبية.

تحقيقات مستقلة

وطالبت بعثة مونوسكو سلطات كينشاسا بالشروع فورا في إجراء تحقيقات مستقلة لتحديد هوية مرتكبي هذه المجازر وشركائهم وتقديمهم للعدالة، وفق ما ورد في البيان نفسه.

وفي يوليو/تموز الماضي، هاجمت القوات الديمقراطية المتحالفة كنيسة كاثوليكية في مدينة كوماندا بمقاطعة إيتوري شمال شرقي الكونغو الديمقراطية وقتلت 38 شخصا، بحسب ما ذكره مسؤولون حينها.

ومنذ 2019، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية مسؤوليته عن عدد من هجمات هذا الفصيل الذي يطلق عليه "الدولة الإسلامية- ولاية وسط أفريقيا"، وكانت القوات الديمقراطية المتحالفة في البداية قوة متمردة في أوغندا، لكنها تتمركز في غابات الكونغو المجاورة منذ أواخر التسعينيات.

وتشهد الكونغو الديمقراطية منذ عقود صراعات مسلحة، خاصة في شرق البلاد، الذي سيطرت حركة "إم 23" المتمردة على أجزاء واسعة منه.

إعلان

والسبت الماضي، شهدت العاصمة القطرية توقيع اتفاقية سلام بين حكومة الكونغو الديقراطية وحركة إم 23، في خطوة وُصفت بأنها فرصة تاريخية لإنهاء الصراع المسلح في البلاد.

مقالات مشابهة

  • محمد دياب يكتب: عودة المحليات.. المفتاح الذي يعيد للنائب هيبته وللبرلمان وظيفته
  • التايمز البريطانية: اليمن السعيد الذي عرف لعصور أصبح أبعد ما يمكن عن السعادة (ترجمة خاصة)
  • ابراهيم الميرغني، هذا الذي في سبيل مقعد مزيف ومال حرام باع نفسه
  • الإمارات والكونغو: مستقبل السودان لا يمكن أن تُمليه الجماعات المتطرفة
  • الحب والاحترام: من الذات إلى الدولة
  • الأمم المتحدة: القوات الديمقراطية المتحالفة الكونغولية قتلت 89 مدنيا
  • تطورات تتطلب التحرك السريع
  • روسيا التي صنعها بوتين.. كيف أُعيد تشكيل البلاد ؟
  • حديث ترامب الذي قال انه سيفعل شيئاً بخصوص الأزمة في السودان