كمشتغل في الإعلام لسنوات طويلة، يشغلني كثيرا سلوك الجماهير، سواء على الأرض أو عبر الوسائط الإعلامية والرقمية. لذلك أحرص، كلما سنحت الفرصة، على مراقبة آراء الناس واتجاهاتهم وسلوكياتهم تجاه قضايا مختلفة. وغالبا ما أجد أن أفضل مختبر لهذا السلوك هو الجلوس إلى مجموعة من الأصدقاء أو متابعة ما يجري في وسائل الإعلام ومنصات التواصل، حيث تتدافع التعليقات وتتقاطع الآراء مع كل حدث يثير الاهتمام العام.
ولمحاولة فهم هذه الأسئلة، يبدو من الضروري العودة إلى أصل مفهوم «سيكولوجية الجماهير»، وهو ببساطة دراسة السلوك النفسي للجماعات، وكيف يتصرف الأفراد داخلها بطريقة تختلف تمامًا عن سلوكهم عندما يكونون منفردين. فالجماهير تتحرك غالبا بدافع العاطفة والانفعال أكثر مما تحركها الحسابات العقلية، وتتشكل مواقفها وفق المزاج العام لا وفق قناعة كل فرد.
وعند محاولة فهم هذه الظاهرة، تبرز قيمة كتاب «سيكولوجية الجماهير» لغوستاف لوبون، الذي كتبه عام 1895 عقب الثورة الفرنسية وما خلفته من اضطرابات. ورغم أن الكتاب كتب قبل أكثر من قرن، فإن القارئ يشعر بأن الكاتب يصف أحداث عصرنا. وهذا يكشف عن أن سلوك الجماهير تحكمه قوانين ثابتة تمتد عبر الأزمنة، وأن الظاهرة ليست نتاج الإعلام الحديث وحده، بل جزء من طبيعة بشرية تتكرر كلما اجتمع الناس حول فكرة أو خطاب.
ولفهم سيكولوجية الجماهير، لا بد من التوقف عند عنصرين أساسيين: الفرد والجماعة. فالجماعة تصل إلى رأي واحد عندما تتقارب مواقف أعضائها تدريجيا، ثم يتشكل اتجاه عام يبدو وكأنه رأي مشترك للجميع. وفي المقابل، يتراجع رأي الفرد عندما يدخل في الجماعة، فيميل إلى الاندماج مع الاتجاه السائد، حتى وإن كان رأيه الأول مختلفا. وهذه الحركة بين الفرد والجماعة هي لب الموضوع؛ إذ ترتفع مساحة العاطفة والانفعال عندما يقترب صوت الفرد من صوت الحشد، بينما يقل حضور التفكير الهادئ. فالآراء الفردية لا تختفي تمامًا، لكنها تفقد تأثيرها أمام قوة الجماعة التي تفرض إيقاعها.
وإذا طبقنا هذا على ما يجري في الواقع، نجد أن معظم الأحداث الكبرى من الثورات الكبرى إلى تشكل المواقف العامة في القضايا السياسية والاجتماعية نجد أنها تتحرك بالمنطق ذاته. فغالبًا ما تبدأ الفكرة عند مجموعة صغيرة تتقاسم قناعة أو انشغالًا معينًا، ثم تعمل هذه المجموعة على توسيع دائرتها وجذب مزيد من المؤيدين، إلى أن تتكون موجة واسعة من الرأي العام. وفي هذه المرحلة يبرز دور «القائد»، سواء كان شخصا أو خطابا، إذ تحتاج الجماهير إلى رمز يوجهها ويمنح الفكرة لغة مشتركة تتقاطع مع مشاعرهم.
ولا يمكن الحديث عن الجماهير دون التوقف عند العاطفة، فهي حجر الزاوية في كل قضية يتبناها الجمهور. فالعاطفة هي التي تحدد مزاج الجماهير، وتوجه قراراتها، وتحفزها على التحرك. وغالبًا ما تنبع هذه العاطفة من انتماءات مشتركة: عرق، لون، دين، لغة، أو حتى شعور بالظلم والمعاناة. ولهذا رأينا كيف لعبت الهوية العرقية دورا مركزيًا في حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة، وكيف تحركت جماهير واسعة في احتجاجات «حياة السود مهمة»، مدفوعة بغضب مرتبط باللون والتمييز.
هذه الأمثلة وغيرها تؤكد أن الهوية بكل امتداداتها تظل من أقوى مصادر العاطفة التي تشكل سلوك الجماهير.ويتجلى دور العاطفة أيضا في النزاعات والحروب، حيث يتحرك الناس دفاعًا عن هوية أو أرض أو معتقد، ويأخذ الانتماء معنى عميقًا يتجاوز حدود الفرد.
وفي هذه اللحظات تظهر قابلية الجماهير للاتحاد حول فكرة أو موقف، وتستمد قوتها من شعور جمعي يشبه «الذات المشتركة»، التي تجعل الفرد جزءًا من كلٍّ أكبر.وهذا كله يعيدنا إلى أن دراسة سلوك الجماهير ليست رفاها فكريا، بل ضرورة لفهم ما يجري حولنا في لحظات التحول السريع. فالجماهير، بحكم طبيعتها، تتأثر بسرعة، وتبني قناعاتها على مزيج من الانفعال والانتماء، وتتحرك في اتجاه واحد عندما تشعر أن صوتها جزء من قوة جماعية.
ومن دون فهم هذه الديناميكية، يصبح من الصعب قراءة المشهد العام وفهم أسباب تشكل بعض المواقف أو اختفاء أخرى.
إن سيكولوجية الجماهير تفتح لنا بابا مهما لفهم الإنسان حين يتحرك ضمن الجماعة، وحين تتحرك الجماعة كلها في اتجاه قادر على تغيير مواقف كثيرة. وما نحتاجه اليوم هو قراءة واعية لهذه الظاهرة، لا للحكم على الجماهير، بل لفهم طريقتها في التفكير، وكيف تنشأ المواقف، وكيف يمكن لروح الجماعة أن تصنع رأيًا عاما قد يغيّر مجرى الأحداث، وكيف يمكن التصدي لكثير من الأفكار الدخيلة ووأدها قبل استفحالها وانتشارها.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
مهرجان البحر الأحمر السينمائي يفتح أبوابه لعشاق السينما في منطقة الجماهير
أطلق مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي الإعلان، "منطقة الجماهير"، ضمن فعاليات الدورة الخامسة للمهرجان، لتكون منصة حصرية فريدة تجمع عشاق السينما مع نجومهم المفضلين على السجادة الحمراء، وذلك خلال عروض السجادة الحمراء التي ستجمع نخبة من النجوم من جميع أنحاء العالم خلال الدورة الرابعة المقرر انعقادها من 4 إلى 13 ديسمبر في مقر المهرجان النابض بالحياة في جدة التاريخية.
توفر "منطقة الجماهير" فرصة استثنائية للتفاعل المباشر مع أبرز نجوم السينما، حيث يمكن للجماهير وعُشاق السينما حضور لحظات وصول النجوم، وصناع الأفلام وتبادل الحديث معهم، والتقاط الصور التذكارية، وحتى الحصول على توقيعات حصرية تُوثق هذه اللحظات المميزة.
تهدف هذه المبادرة إلى تعزيز التواصل بين الجمهور وصنّاع الأفلام في أجواء احتفالية تفيض بالحماس تحت أضواء المهرجان الساحرة. إنها دعوة مفتوحة لجميع عشاق السينما للانضمام إلى أجواء المهرجان والاحتفاء بجمال الفن السابع ورموزه. وذلك في ساحة الثقافة.
تحتضن عروض السجادة الحمراء أكثر من 20 فيمًا مختلفًا بحضور نخبة من النجوم والممثلين، ويحتفي مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي بعرض أفضل إنتاجات السينما العربية والعالمية في مدينة جدة؛ عروس البحر الأحمر. حيث ينطوي البرنامج السينمائي للمهرجان على فئات وأقسام متنوعة من الأفلام من جميع أنحاء العالم، تبدأ من الكنوز السينمائية الدفينة المرمّمة بأحدث تقنيات العرض، وتنتهي بأفلام المواهب الواعدة.
كما يستضيف المهرجان نخبة من المواهب الفنّية وصنّاع الأفلام ومحترفي الصناعة من العالم العربي وباقي أرجاء العالم عبر منصّته، جنبًا إلى العديد من مسابقات الأفلام في الفئات الطويلة والقصيرة، مع احتضان الحفلات الموسيقيّة، واستضافة العديد من الندوات وورش العمل التي تهدف إلى دعم وتنمية وتشجيع المواهب الصاعدة.