على امتداد رحلتي مع اليونيسف، قابلتُ عددًا لا يحصى من الأطفال والأسر الذين مزّقت الكوارث حياتهم تمزيقًا. في فيتنام، وخلال زياراتي الأخيرة، شاهدتُ ما خلّفته الأعاصير المدمّرة. في أماكن كثيرة، لم يبقَ سوى مسارات طويلة من الطين؛ طبقة من الغرين الناعم، جفّت وتحولت إلى خطوط باهتة تمتد بعيدًا، ترسم بقايا الأماكن التي كانت تقوم فيها البيوت وأرزاق الناس.
كل شيء جرفته المياه. اختفى الوصول إلى مياه الشرب النظيفة، وتعطلت خدمات الغذاء والصحة والتعليم والحماية لأيام وربما لأسابيع.
على الأسوار والأغصان العارية التي تركتها العواصف خلفها، كان الآباء يفرشون بعناية كتب أطفالهم المدرسية لتجف؛ صفحات مبللة، ممزقة، ملتصقة بالطين. في عيون الأطفال، تلك العيون التي بدت خاوية حائرة، رأيت من جديد الذهول والخوف اللذين تخلّفهما الكوارث وراءها.
في الأشهر الأخيرة، شهد شمال ووسط فيتنام فيضانات عنيفة متواصلة. انهارت الممرات الجبلية، وتحولت سفوح كاملة إلى طين. البيوت والمركبات لم تبقَ منها سوى أسطح طافية هنا وهناك. وكما يحدث دائمًا، كان الأطفال من بين الأكثر تضررًا؛ ومع ذلك ما زالوا لا يحظون بالاعتراف الكافي ولا بالدعم الذي يستحقونه. حين تُدمَّر المنازل، وتُلحِق الأضرار بالمدارس، وتشل المستشفيات، تُجرف الأسس ذاتها التي يقوم عليها عيش الأطفال وتعلمهم ونموهم. وقد يستغرق التعافي سنوات طويلة. والأشد إيلامًا أن وتيرة تأثيرات المناخ باتت أسرع من قدرة النظم الاجتماعية على التكيّف.
في هذا العام وحده، ضربت البلاد 13 عاصفة، وتعرّض أكثر من 200 ألف منزل للغرق أو التلف أو الدمار، وفقد نحو 1.2 مليون شخص إمكانية الوصول إلى المياه النظيفة وخدمات الصرف الصحي. وتعرّضت خدمات التعليم والرعاية الصحية والتغذية والحماية للاضطراب بالنسبة لمئات الآلاف، وهو ما يقوّض الأسس التي يحتاجها الأطفال كي يبقوا على قيد الحياة وينموا.
هذه ليست مجرد أرقام؛ إنها فتيات وفتيان وعائلات. وهذه ليست حكاية فيتنام وحدها.
يُظهر «مؤشر اليونيسف لمخاطر المناخ على الأطفال» أن ما يقرب من مليار طفل حول العالم يعيشون في بلدان تواجه مخاطر مناخية مرتفعة للغاية. وقد حدّدت الأمم المتحدة تغيّر المناخ واحدًا من أكثر التهديدات المباشرة لصحة الأطفال، من المياه والصرف الصحي الآمنين إلى الرعاية الصحية الأولية.
تُبيّن التجارب الدولية أن البلدان تتعافى بشكل أسرع عندما تتعامل مع تغيّر المناخ بوصفه تحديًا يطال النُّظم ككل، لا مجرد ظاهرة جوية عابرة. فهي تعيد بناء المدارس وفق معايير قادرة على تحمّل الأعاصير، بما يتيح للأطفال العودة إلى صفوفهم بسرعة.
وتستثمر في خدمات صحية مجتمعية ونُظم إنذار مبكر، ما يقلل من مخاطر تفشّي الأمراض والخسائر في الأرواح والممتلكات. وتؤكد هذه الأمثلة حقيقة واضحة: لا شيء يحمي الأطفال مثل النُّظم القوية. فالإغاثة السريعة وحدها لا تكفي.
إن بناء نُظم قوية بما يكفي لضمان ألا يظل الأطفال يكبرون وسط بقايا العواصف والفيضانات يتطلب مقاربة شاملة. يجب تصميم الخدمات الأساسية بحيث لا تنهار تحت صدمات المناخ: مدارس قادرة على تحمّل العواصف وموجات الحر الشديد؛ نقاط صحية مزوّدة بمصادر طاقة احتياطية، وإمدادات مستقلة من المياه النظيفة، وطرق وصول تبقى مفتوحة في الأزمات؛ وأنظمة مياه مرفوعة فوق مستويات الفيضانات، مزوّدة بآليات لمنع رجوع المياه الملوّثة، وبنماذج لامركزية تضمن استمرارية إمدادات المياه الآمنة.
لكن البنية الأساسية وحدها لا تكفي. فالمعلّمون والعاملون الصحيون والأخصائيون الاجتماعيون بحاجة إلى امتلاك مهارات الدعم النفسي-الاجتماعي، لأن الجروح التي يحملها الأطفال لا تكمن فقط في الطين الذي تخلّفه العواصف وراءها، بل في ذاكرتهم ومشاعرهم. ومع ذلك، لا يزال أمامنا الكثير لنقوم به.
هذه ليست مشكلة «الجيل القادم»؛ إنها مشكلتنا الآن. فالأطفال اليوم يواجهون بيئة أكثر تقلبًا وخطورة من أي جيل سبقهم. وتُصان حقوق الطفل عبر قدرة الخدمات الأساسية المحيطة بهم على الصمود كل يوم. لأصواتهم قيمة. فالقضية هنا هي كوكبهم؛ البيت الذي سيرثونه، وهم مستعدون للإسهام في صياغة الحلول.
في مؤتمر الأمم المتحدة لتغيّر المناخ «كوب 30»، الذي عُقد في البرازيل هذا الشهر، علت أصوات قادة العالم والخبراء والأطفال والشباب – ومن بينهم شباب من فيتنام – مطالبةً بحلول مناخية تمكّن الشباب وتعبّر عن تنوّعهم.
المناخ يتغيّر بوتيرة أسرع من قدرة نُظمنا على التكيّف. الفيضانات تجتاح وتنسحب فلا تخلّف وراءها سوى طبقة جديدة من الطين. والأطفال – أولئك الذين يسهمون بأقل قدر في تغيّر المناخ – هم الذين يتحمّلون العبء الأكبر.
لكل طفل حق في أن ينشأ على كوكب صالح للحياة. حماية هذا الحق تعني بناء مدارس تقف ثابتة، ونقاط صحية تظل قادرة على العمل، وأنظمة مياه تبقى صامدة، ومجتمعات تمتلك القدرة على تحمّل العواصف. لا ينبغي أن يكون الطين هو الإرث الذي تخلّفه الطفولة. الإرث يجب أن يكون القدرة على الصمود.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ر المناخ
إقرأ أيضاً:
سويسرا تدرس فرض ضريبة على المليارديرات لمواجهة أزمة المناخ
سويسرا، المعروفة بأنها ملاذ لفاحشي الثراء، ستصوت قريباً على ما إذا كانت ستفرض ضريبة مرتفعة على الميراث.
لا تُعرف سويسرا بضرائب مرتفعة؛ فبلد القمم الشاهقة المغطاة بالثلوج و"ساعات الوقواق" يرتبط في الأذهان بالحفاظ على الثروة أكثر من السياسات التوزيعية. ومع ذلك، شرع ناشطون سياسيون من الجناح الشبابي للحزب الاشتراكي الديمقراطي "Jeunesse Socialiste" في حملة تغيير جذري دفعت بقضية ضريبة الميراث إلى اقتراع وطني. يوم الأحد، 30 نوفمبر، سيقرر الناخبون السويسريون ما إذا كانوا سيفرضون ضريبة ميراث بنسبة 50% على الوصايا والمواريث التي تتجاوز 50 مليون فرنك سويسري (53.57 مليون يورو). فرص نجاح المبادرة ضئيلة إلى معدومة؛ فحسب استطلاع حديث أجرته Tamedia/20 Minuten، من المتوقع أن يرفض 75% من الناخبين في سويسرا الضريبة على فاحشي الثراء، ارتفاعا من 67% في أكتوبر. ورغم أن الاقتراح يتجه إلى الفشل، يخشى البعض أن يضر الاستفتاء المقبل بسمعة سويسرا كملاذ ضريبي. تمتلك البلاد أكبر صناعة لإدارة الثروات وأكثرها تنافسية في العالم، بأصول دولية قيمتها 2.2 تريليون دولار (1.9 تريليون يورو)، وفق "ديلويت"، لكن ريادتها تواجه منافسة من سنغافورة والمملكة المتحدة. وقالت إيزابيل مارتينيز، الباحثة الرئيسية في "المعهد الاقتصادي السويسري KOF" التابع لـ"المعهد التقني الفدرالي في زيورخ" (ETH Zürich): "أفادت تقارير بأن بعض الأثرياء أجّلوا خطط الانتقال إلى سويسرا بسبب المبادرة، لكن هذه الأدلة تأتي في الغالب من روايات استشارية ضريبية، ما يجعل من الصعب تقييم حجم الظاهرة أو أهميتها".
حشد من أجل العمل المناخييقترح مشروع الضريبة بعنوان "من أجل سياسة مناخية اجتماعية وعادلة ماليا" تخصيص الإيرادات لتمويل مبادرات مواجهة تغيّر المناخ. وقالت مجموعة "Jeunesse Socialiste" في بيان: "سويسرا لا تفعل ما يكفي لحماية المناخ. ستكون هناك حاجة إلى عدة مليارات إضافية كل عام لتحقيق أهداف الكونفدرالية... ومع مبادرة المستقبل، ينبغي لأولئك المسؤولين بالدرجة الأولى عن تدهور المناخ أن يسهموا بشكل أكبر في حمايته".
بعد أن جمعت بالفعل 100.000 مؤيد لإيصال المبادرة إلى صناديق الاقتراع، ستصبح ضريبة الميراث قانونا إذا أيّدها أكثر من 50% من الناخبين السويسريين وصوّتت غالبية الكانتونات الـ26 لصالحها.
مخاطر على الأعمالهذا الاحتمال لا يثير استياء فاحشي الثراء فحسب، بل أيضا أصحاب الشركات السويسرية الصغيرة. فقد اعتبرت Swissmem، وهي الصوت الممثل لصناعات الميكانيك والكهرباء والهندسة المعدنية والقطاع التكنولوجي في سويسرا، أن الضريبة "ستؤدي عمليا إلى مصادرة عدد كبير من المؤسسات الصغيرة والمتوسطة العائلية". وأضافت المجموعة: "لقد بُني عدد كبير من هذه المؤسسات على مدى أجيال من قبل العائلات المالكة، وتوفر عشرات الآلاف من الوظائف، وتدفع الضرائب بانتظام". وأشارت إيزابيل مارتينيز إلى أن مخاوف مماثلة طُرحت عندما رفض الناخبون السويسريون في 2015 مبادرة أكثر اعتدالا كانت تقترح ضريبة بنسبة 20% على التركات التي تتجاوز مليوني فرنك سويسري (2.14 مليون يورو). وقالت لـ"يورونيوز": "أقل من اثنين في المئة من السكان كانوا سيتأثرون مباشرة، ومع ذلك صوّت 71% ضدها. كانت المخاوف الرئيسية أن كثيرا من الشركات العائلية والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة سيتضرر، ما قد يضر بالاقتصاد السويسري ويهدد الوظائف". وأضافت أن بعض المعارضين لا يحبذون أيضا كون الضريبة مفروضة اتحاديا، بما يقوّض استقلالية الكانتونات في السياسة الضريبية.
عوائد محدودةفي معظم البلدان التي تفرض ضرائب ميراث، تكون هذه الإجراءات عموما غير شعبية لدى الناخبين رغم أن أقلية صغيرة فقط من الناس تنتهي بدفعها. ورغم أن هذه التدابير قد تساعد في تقليص عدم المساواة، فإن قدرتها على جمع الإيرادات تبقى محدودة؛ ففي 2023 شكّلت ضرائب الميراث والتركات والهبات ما نسبته 0.41% فقط من إجمالي إيرادات الضرائب لدى دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وفي أوروبا بلغت 0.40% من الإجمالي. وفي وقت تتزايد فيه الضغوط المالية على الحكومات وتشتد أزمة المناخ، بات على سويسرا أن تقرر أفضل سبيل للمضي قدما.
انتقل إلى اختصارات الوصول شارك محادثة