في الأسبوع الأول من شهر سبتمبر/أيلول الحالي، أعلن (1) وزير الدفاع البولندي ماريوس بلاشتشاك إبرام صفقة لشراء 486 قطعة من وحدات الإطلاق والتحميل لأنظمة الصواريخ المدفعية عالية الحركة والشهيرة باسم "هيمارس" (HIMARS) التي تُنتجها شركة "لوكهيد مارتن" الأميركية، على أن تبدأ عمليات التسليم عام 2025. الجدير بالذكر أن هذه ليست الاتفاقية الأولى من هذا النوع، فقد تسلمت بولندا في مايو/أيار الماضي الدفعة الأولى من صفقة سابقة تخص "هيمارس" كذلك، حيث اشترت البلاد 18 راجمة في صفقة قُدِّرت بنحو 414 مليون دولار.

"هيمارس" هي راجمة صواريخ مثبتة على شاحنة تزن خمسة أطنان، ويمكنها إطلاق ستة صواريخ موجَّهة دقيقة في تتابع سريع، مع فترة إعادة تحميل تصل إلى 5 دقائق فقط، وفي حين يصل مدى الصواريخ المعتاد إلى نحو 80 كم، فإن بإمكان المنظومة أيضا إطلاق صواريخ تكتيكية من النوع "إم جي إم-140 أتاكمز" يصل مداها إلى 300 كم.

وقد بيَّنت وزارة الدفاع البولندية أن الصفقة تشمل ربما ما هو أهم من ذلك، وهو الاستحواذ على تكنولوجيا الصاروخ الذي تستخدمه أنظمة "هيمارس"، ما يعني نية مستقبلية لإنتاج تلك المنظومة، وهذا التصريح وحده يستحق بعضا من التأمل، إذ يُعَدُّ "هيمارس" واحدا من أنظمة المدفعية الصاروخية الأكثر تقدما في العالم.

يكفي أن نعرف مثلا أن الأوكرانيين امتلكوا منها 18 قطعة فقط حتى الآن، وكان هذا العدد فعالا في التصدي للهجوم الروسي في دونباس، وساهم في إجبار موسكو على الانسحاب من خيرسون، وتمكنت هذه المنظومة في عدة أشهر فقط بداية من يونيو/حزيران 2022 من ضرب أكثر من مئة موقع روسي مهم، ونجحت في تعطيل خطوط الإمداد الروسية، ودمرت المخازن وقوات المدفعية المتمركزة على بُعد نحو 50 كيلومترا خلف الخطوط الروسية (2).

إنفاق تاريخي

لكن ما سبق ليس إلا قمة الجبل الثلجي فقط. في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وبينما كانت البلاد تحتفل باستقلالها عن الاتحاد السوفيتي، قال (3) رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي: "يجب أن يكون الجيش البولندي قويا بحيث لا يضطر إلى القتال بسبب تلك القوة"، مشيرا إلى خطة تقودها البلاد بينما تُكتب هذه الكلمات لتصبح القوة العسكرية رقم واحد في كل أوروبا بحلول نهاية هذا العقد.

في الواقع، إن خطة بولندا طموحة لدرجة أن الرجل نفسه كان قد صرح في مطلع العام الحالي أن بلاده ستزيد إنفاقها العسكري (4) إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي، في قفزة يظنها البعض خطيرة بالنسبة للاقتصاد البولندي، ويظن البعض الآخر أنها ضرورية خاصة مع النمو الاقتصادي البولندي المرتفع مؤخرا مقارنة بكل دول أوروبا التي واجهت أقوى الاقتصادات بها أزمات كبرى بعد الوباء والحرب.

صرح رئيس الوزراء البولندي ماتيوش مورافيتسكي أن بلاده ستزيد إنفاقها العسكري إلى 4% من الناتج المحلي الإجمالي، في قفزة يظنها البعض خطيرة بالنسبة للاقتصاد البولندي. (غيتي)

وإلى جانب ذلك فإن حاجة بولندا إلى الأمن على الحدود الأوكرانية بعد الغزو الروسي لا تحتاج إلى الكثير من التفكير، والواقع أن المشهد الأوروبي بل والعالمي يتغير في سياق الغزو الروسي لأوكرانيا، وقد غيرت كثير من الدول مثل سويسرا وألمانيا واليابان بل ونيوزيلندا من عقيدتها العسكرية لتصبح في المجمل أكثر تحفزا لعدو قادم، وبالتبعية أكثر احتياجا إلى تطوير قواتها المسلحة.

لكن بولندا تمضي كما يبدو إلى ما هو أعمق من ذلك، أنفقت البلاد ما يعادل 2.4% من الناتج المحلي الإجمالي على الجيش في عام 2022، وهي في هذا الوضع كانت ثالث أعلى نسبة بين دول حلف الناتو، بعد اليونان بنسبة 3.76%، والولايات المتحدة بنسبة 3.47%، بعد هذه القفزة ستصبح بولندا لا شك في المركز الأول، وستظل عند هذا المركز لفترة ليست بقصيرة، خاصة أن هناك نية لدى البولنديين لزيادة الإنفاق العسكري إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد في العقد المقبل.

سادة السماء

يتضح ما سبق في نية بولندا شراء أهم وأقوى القطع التقنية العسكرية على الإطلاق وضمها لقواتها، مثلا ستحصل البلاد إلى جانب "هيمارس" على نحو 600-700 بطارية من نوع "كي 9 ثاندر" (K9 Thunder) بموجب اتفاقية أعلن عنها في مارس/آذار 2023 (5)، وهي مدافع هاوتزر كورية الصنع بعيار 155 ملم، توفر قوة نيران ومدى فائقين مقارنة بأنظمة المدفعية الأخرى، ويمكنها إطلاق أنواع مختلفة من الذخيرة، بما في ذلك الذخائر شديدة الانفجار والذخائر العنقودية.

مدفع هاوتزر "كي 9 ثاندر" الكوري الجنوبي عيار 155 ملم (شترستوك)

أضف إلى ذلك أن هذه المدافع يكون تركيبها على هياكل مجنزرة، مما يسمح لها باجتياز التضاريس الصعبة والمناورة بفعالية في ساحة المعركة، وبسرعة قصوى تصل إلى 67 كم/ساعة، ومع تقنيات متقدمة مثل أنظمة التحكم الرقمية في الحرائق ومساعدات الملاحة وأنظمة الاتصالات، حازت هذه القطعة التقنية على قبول واسع على مستوى العالم، حيث صُدِّرت إلى العديد من البلدان نظرا لأدائها وموثوقيتها.

ولا يقف الأمر عند المدفعية فقط، فقد طلبت بولندا 32 مقاتلة متعددة المهام من طراز "إف 35 أ" (F-35A) بموجب صفقة قيمتها 4.6 مليارات دولار مع الولايات المتحدة، تمتلك بولندا حاليا 48 طائرة مقاتلة من طراز "إف-16″، لكن وزير الدفاع البولندي قال في سبتمبر/أيلول الحالي إن القوات المسلحة البولندية بحاجة إلى سربين إضافيين على الأقل من الطائرات المقاتلة متعددة المهام.

من المقرر (6) تسليم أول دفعة طائرات "إف-35" إلى القوات الجوية البولندية في عام 2024. نتحدث هنا عن مقاتلة جيل خامس متعددة المهام ذات المقعد الواحد والمحرك الواحد مخصصة لأداء مهام التفوق الجوي والهجوم في جميع أحوال الطقس، وتُعَدُّ واحدة من أفضل المقاتلات في العالم كله بهذا النطاق، إلى جانب أنها قادرة على خوض الحرب الإلكترونية عبر إمكاناتها الواعدة في الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع.

مقاتلة من طراز "إف 35 أ" (F-35A) (الأناضول)

تمتلك طائرات الجيل الخامس ميزتين أساسيتين في مقابل طائرات الجيل الرابع، وهما القدرة العالية على التخفي، والقدرة التقنية الدقيقة على تحسس محيطها واستشعار أوامر الطيار القابع داخلها بدقة شديدة، وإعطائه البيانات عن محيط الطائرة لحظيا، الأمر الذي يُسهِّل المناورة بها إلى حدٍّ كبير، إلى جانب قدرات حاسوبية متقدمة تتدخل فيها آليات الذكاء الاصطناعي. في مواجهة مباشرة، من المرجح بشكل كبير أن تنتصر "إف 35 أ" على أيٍّ من رفيقاتها في الجيل الرابع، وهي بالطبع كابوس طائر بالنسبة إلى الأهداف البحرية والبرية.

وإلى جانب ما سبق فإن الطائرة تتمكن بسهولة من جمع ودمج وتوزيع المعلومات أكثر من أي مقاتلة في التاريخ، مما يمنح المشغلين ميزة حاسمة على جميع الخصوم، خاصة أنها تتمكن من العمل بشكل تعاضدي مع أية منظومة قتالية دون عوائق.

الأقوى من كل شيء

وعلى الأرض، فإن بولندا قد تسلمت في يونيو/حزيران 2023 الدفعة الأولى من دبابات أبرامز التي طلبتها من الولايات المتحدة (7)، لتصبح أول دولة أوروبية تقوم بتشغيل هذه المركبات. وفي يوليو/تموز 2021، أعلنت بولندا عن شراء 250 دبابة أبرامز مقابل 4.7 مليارات دولار، وبعد عام واحد في أعقاب الغزو الروسي لأوكرانيا وافقت بولندا على شراء إضافي لـ116 دبابة مستعملة من طراز أبرامز والمعدات المصاحبة لها في عقد بقيمة 1.4 مليار دولار. (إلى جانب ما يمتلكه البولنديون بالفعل من دبابات ليوبارد الألمانية الشبيهة ويصل عددها إلى 200).

"أبرامز إم 1" (M1 Abrams) هي الآن واحدة من أثقل الدبابات في الخدمة، حيث تزن نحو 62 طنا متريا (ثقل الدبابة علامة تميز)، وهي حاليا الدبابة القتالية الرئيسية لجيش الولايات المتحدة، تستخدم الدبابة مدفعا رئيسيا أملس من نوع "راينميتال" (Rheinmetall) بعيار 120 ملم، وتحمل أكثر من 40 طلقة للبندقية الرئيسية، وتستخدم عادة نوعين رئيسيين من الذخيرة: طلقات خارقة للدروع، وأخرى متعددة الأغراض.

"أبرامز إم 1" هي واحدة من أثقل الدبابات في الخدمة (غيتي)

جُهِّزت أبرامز بدرع "شوبهام" متطور يوفر دفاعا قويا ضد الطلقات الخارقة للدروع والأسلحة المضادة للدبابات، ما يعطيها نقطة تفوق في المعارك على الأرض. أضف إلى ذلك أن خزانات الوقود والذخيرة تكون في حجرات منفصلة لحماية الطاقم من خطر انفجار ذخيرة الدبابة في حالة تلف الخزان.

وإلى جانب ذلك كان وزير الدفاع البولندي قد وقَّع ثلاثة عقود في أغسطس/آب الماضي مع المجموعة البولندية للأسلحة المملوكة للدولة لشراء 700 مركبة مدرعة من أنواع مختلفة، بقيمة نحو 250 مليون دولار (8)، عادة ما تنتشر المركبات المدرعة مع الدبابات على الأرض لتتعامل مع المشاة وتحيّد صواريخهم المضادة للدبابات والخارقة للدروع، والدبابات تخترق الثغرات في خطوط العدو لدعم دخول المدرعات في المقام الأول. كل هذا ولم نتحدث عن إعلان بولندا في مارس/آذار الماضي عن نيتها للحصول على 1400 من مركبات المشاة القتالية البرمائية من طراز "بورسوك" محلية الصنع.

وبالطبع فإن ما سبق يحتاج الجنود إلى إدارته، وتمتلك بولندا خطة لذلك أيضا، حيث ترغب البلاد في تجنيد نحو 150 ألف جندي إضافي خلال العقد المقبل، الأمر الذي سيرفع عدد الجنود الكلي للجيش البولندي (9) إلى 300 ألف جندي بحلول عام 2035، من خلالهم ستتمكن البلاد من بناء 6 فرق مدرعة، وهي وحدات عسكرية قائمة بذاتها ومجهزة بمزيج من دبابات أبرامز والمدرعات السالف ذكرها والمشاة والمدفعية والمهندسين ووحدات الدعم الأخرى، ومُصمَّمة للعمل في مجموعة متنوعة من البيئات القتالية، وهي قادرة على المشاركة في العمليات الهجومية والدفاعية.

ولدعم تلك الفرق تنوي بولندا الحصول على 8 بطاريات باتريوت (10) ضمن صفقة مع الولايات المتحدة بقيمة 15 مليار دولار أُعلن عنها في يونيو/حزيران 2023، وهو نظام الدفاع الجوي والصاروخي الأساسي للجيش الأميركي، صُمِّم في البداية بوصفه نظاما مضادا للطائرات، لكن النسخ الأحدث منه قادرة على الاشتباك مع الصواريخ الباليستية وصواريخ كروز والذخائر المتسكعة (الدرون الانتحارية) وحتى الطائرات المقاتلة.

يُعَدُّ باتريوت واحدا من أكثر أنظمة الدفاع الجوي الأميركية تقدما، تصل صواريخه إلى ارتفاع أقصاه 24200 متر، ويسير بسرعة 5022 كيلومتر/ساعة، وإلى جانب ذلك توفر مجموعة الرادار الخاصة بمنظومة باتريوت القدرة الدقيقة للكشف عن الأهداف وتتبعها، يصل مدى نظام الرادار إلى 100 كيلومتر، ويمتلك القدرة على تتبع ما يصل إلى 100 هدف في وقت واحد، ويمكن أن يوفر بيانات توجيه لما يصل إلى تسعة صواريخ في آنٍ واحد.

عملاق أوروبا العسكري القادم؟

ولغرض المقارنة، فإن دولا مثل فرنسا وألمانيا تمتلك فقط فرقتين مدرعتين، أما بريطانيا فتمتلك واحدة فقط، في مقابل 6 فرق من هذا النوع تطمح بولندا لبنائها كما أسلفنا، ستجد أن هذا الفارق واضح في كل التجهيزات البولندية على كل المستويات، وما تحدثنا عنه في هذا التقرير ليس إلا أمثلة عن بعض العلامات المميزة في سيل من الصفقات البولندية لتحديث كل وحدات الجيش بقيمة إجمالية تجاوزت 130 مليار دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى ثلاثة أضعاف هذا الرقم، يجري الأمر بسرعة شديدة وعجيبة لدرجة أن بحثا قصيرا ستُجريه في أي وقت عن أخبار بولندا لا بد أن يخرج بصفقة عسكرية تمت خلال الأيام القليلة السابقة لهذا التاريخ!

ومع كل هذا التطوير العسكري المتعجل ما زال السؤال قائما لا شك: هل حقا نحن أمام مارد أوروبا الجديد؟ رغم أن بولندا لا تمتلك الكثير من القوة الناعمة في أوروبا، فإنها تعمل حاليا إلى جانب التطوير العسكري على تقوية تحالفاتها الموجودة بالفعل إلى جانب كونها عضوا بالاتحاد الأوروبي، فمثلا تُمثِّل مجموعة فيشغراد، وهي تحالف ثقافي وسياسي وعسكري لأربع دول في وسط أوروبا، وهي التشيك والمجر وبولندا وسلوفاكيا، فرصة كبيرة للبولنديين لخلق مكانة في المنطقة.

أما مبادرة البحار الثلاثة، وهي منتدى يضم ثلاث عشرة دولة في الاتحاد الأوروبي تمتد على طول المحور الشمالي الجنوبي من بحر البلطيق إلى البحر الأدرياتيكي والبحر الأسود في وسط وشرق أوروبا، تنظر بولندا إلى مبادرة البحار الثلاثة على أنها منظمة سياسية وليست مجرد منتدى اقتصادي، وتتوقع أن تكون كتلة موحدة لدول أوروبا الوسطى والشرقية تُمثِّل رادعا واعدا ضد أي محاولات للتوغل الروسي (11).

كل هذا ولم نتحدث بعد عن الفيل الوحيد الكبير في الغرفة، وهو غزو روسيا لأوكرانيا، الأمر الذي بشَّر فور حدوثه بتحوُّل (12) جيوسياسي كبير في أوروبا ينقل مركز ثقل حلف شمال الأطلسي من فرنسا وألمانيا إلى دول مثل بولندا وجيرانها في منطقة البلطيق، والواقع أن التحركات البولندية لتطوير قدراتها العسكرية لا بد أنها مرتكزة على تلك النقطة بشكل رئيس، بل ربما كانت بولندا تنتظر تلك اللحظة!

في الحقيقة، إن خطط بولندا لتطوير جيشها سابقة للغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها تسارعت وتضخمت بسببه لا شك إلى مستوى قياسي، وكانت الحكومة تطمح بقوة إلى تعزيز المكانة العسكرية للبلاد بأي ثمن رغم كل الانتقادات، وبالتالي فإن ما فعله الغزو الروسي هو أنه بشكل أو بآخر برَّر كل ما فعلته بولندا وما ستفعله مستقبلا.

نتحدث هنا عن دولة قُمعت على مدى مئات الأعوام وتغيرت حدودها بكثافة نادرا ما يمكن أن تراها في هذا العالم، احتُلَّت وقُسِّمت أكثر من مرة وسقط اقتصادها مرات متتالية، وأخيرا باتت تمتلك واحدا من أقوى الاقتصادات في العالم مع حكومة قومية متشددة وعدو هائل بات واقفا الآن على حدودها الشرقية، فما الذي يمكن أن ننتظره من هذه التركيبة الفريدة؟

__________________________________________________

مصادر

1- Poland to buy 486 HIMARS launchers from Lockheed Martin 2- Ukraine: What are Himars missiles and are they changing the war? 3- Meet Europe’s coming military superpower: Poland 4- Poland to ramp up defense budget to 4% of GDP 5- Polish Army Receives 12 Additional K9 Thunder Self-Propelled Howitzers 6- Once Inspired By F-35, Now Korean KF-21 Boramae ‘Challenges’ US Stealth Fighter For Polish Air Force Deal 7- Poland receives first Abrams tanks from US 8- Poland inks deals for armored vehicles 9- Poland said its army will soon be the strongest in Europe. But is that possible? 10- US approves $15 billion in Patriot and missile defense upgrades for Poland 11- Poland’s Perspective on the Three-Seas-Initiative 12- How Poland became the new ‘center of gravity’ in Europe

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: من الناتج المحلی الإجمالی الولایات المتحدة الدفاع البولندی الغزو الروسی إلى جانب من طراز أکثر من

إقرأ أيضاً:

في رحاب سلطنة عُمان.. عندما تصبح المذاهب مدارس وليست متاريس

 

عبدالنبي الشعلة **

قضيت ثلاثة أيام ممتعة، مؤخرًا، في سلطنة عُمان الشقيقة، منها يوم الأحد الذي كان مقررًا له أن يكون اليوم الذي ستعقد فيه الجولة السادسة من المفاوضات النووية الأميركية الإيرانية، التي تعقد تحت الرعاية العمانية، والتي تم إلغاؤها بعد أن نشبت الحرب بين إيران وإسرائيل قبلها بيومين.
ومنذ منتصف السبعينات من القرن الماضي وأنا أزور عُمان بشكل منتظم، أو بين فترة وأخرى، وأستطيع أن أدعي أنني، من بين الملايين، من شهود العيان على ما شهدته عمان من تطور ونمو مطرد على كافة الأصعدة والمحاور، في مسيرة زاخرة أرسى قواعدها وقادها، لما يقرب من نصف قرن، السلطان الراحل قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- الذي سلم رايتها، بعد أن اختاره الله إلى جواره في العام 2020، إلى صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق - حفظه الله ووفقه وسدد خطاه.
نعم، كل شيء في عُمان ينمو ويتطور ويتغير بوتائر متسارعة، باستثناء شيء واحد ظل ثابتًا لا يتبدل: طبيعة الإنسان العُماني. فقد ظل هذا الإنسان وفيًّا لجوهره، متمسكًا بصفاته الأصيلة من طيبة وتواضع ودماثة خُلق وكرم وأريحية قلّ نظيرها. ويمكنني، دون تردد أو مبالغة، أن أقول إن هذه الخصال الحميدة تكاد تكون سمة عامة لدى جميع العُمانيين، من الوزير إلى الموظف البسيط، ومن الغني إلى الفقير، ومن المدير إلى سائق التاكسي، وفي كل زاوية من زوايا السلطنة الرحبة.
وإضافة إلى التعرف على بعض جوانب التطور الصناعي في صحار، فقد حرصت هذه المرة على التعرف والاطلاع بشكل أقرب على المزيد من المعلومات والحقائق عن المذهب الإباضي، الذي يُعرف أتباعه أيضًا باسم “أهل الحق والاستقامة”، والذي تعتبر سلطنة عمان، حاضنته أو حاضرته، وإن شئت أن تقول هو مذهب الدولة، رغم أن العمانيين لا يحبذون ادعاء ذلك، ولا يهتمون بالإجابة حتى عن نسبة الإباضية بين السكان. 
ولطالما رغبت، ولا أزال، في التعرّف بشكل أعمق على هذا المذهب الإسلامي، انطلاقًا من اهتمامي بقضايا الحوار، والتفاهم، والتعايش، والتواصل، والتقريب بين المذاهب والمعتقدات، على قاعدة الاحترام المتبادل. وهو هدف نبيل لا يتحقق إلا من خلال تعزيز المعرفة، وتكثيف الجهود للتعريف بحقائق هذه المذاهب بعيدًا عن الصور النمطية أو الأحكام المسبقة.
فالجهل بالآخر هو البوابة الكبرى لسوء الفهم، وللاختلاف الممزِّق، وربما للتنافر والكراهية والبغضاء. ومن هنا، فإن أفضل السبل للتعرف على أي مذهب أو معتقد إنما تكون عبر العودة إلى مصادره الأصلية، والاستماع إلى علمائه ومثقفيه، أي أن نعرف “منهم” لا “عنهم”.
وقد قرأت كثيرًا عن المذهب الإباضي، مستفيدًا من مصادر متنوعة، بعضها من داخل المذهب ذاته، وبعضها من مناوئيه الذين كثيرًا ما ينظرون إليه بعدسة الخلاف العقائدي أو السياسي. وفي زيارتي الأخيرة إلى مسقط، واستجابة لرغبة شخصية في فهم أعمق، رتّب لي أحد الأصدقاء المقربين لقاءً مع مجموعة من المثقفين والمطلعين من أتباع هذا المذهب، فدار بيننا حوار ممتد وصريح. بدأت الحديث بسؤال مباشر قد يُعدّ استفزازيًا: ما حقيقة ما يُشاع عنكم من أنكم امتداد للتيار الخارجي؟ وهل صحيح أنكم تكفّرون بعض كبار الصحابة، وعلى رأسهم الخليفة الراشد عثمان بن عفّان، والإمام علي بن أبي طالب، إلى جانب الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان؟
جاءت الإجابات هادئة وعميقة، عكست حرصًا على التوضيح لا التبرير. أكد الحضور أن المذهب الإباضي يرفض الوصم بالخارجية، رغم الجذور التاريخية المشتركة في المراحل المبكرة، وأنهم لا يكفّرون أحدًا من الصحابة، بل يميزون بين الموقف السياسي والاجتهادي، وبين الانتماء العقدي. كما أوضحوا أن الإباضية يتعاملون مع سيرة الخلفاء والصحابة من منظور “الولاية والبراءة” لا من منظور التكفير أو التفسيق، ويؤمنون بأن لكل مرحلة ظروفها، ولكل اجتهاد مآله.
وبعد نقاش علمي، عقلاني ورصين، وتعزيزًا لما كنت قد اطّلعت عليه من قبل، وصلتُ في نهاية الحوار إلى خلاصة راسخة بأن المذهب الإباضي اليوم يُعد من المذاهب الإسلامية المنتمية بصفاء وصدق إلى بوتقة الإسلام الحنيف، بل ومن أكثر المذاهب جنوحًا نحو التسامح، والتعايش، والسلم، والاعتدال. ولعل أبلغ دليل على ذلك هو ما يتمتع به المجتمع العُماني من حالة متميزة من الانسجام والوئام، حيث يتعايش أتباع المذاهب الإسلامية المختلفة، من إباضية وسُنة وشيعة، في نسيج اجتماعي متماسك، تحكمه روح الاحترام المتبادل وتظلله مظلة المواطنة الجامعة.
صحيحٌ أن الجذور التاريخية للمذهب الإباضي تعود إلى الفترة التي أعقبت معركة صفّين، حين خرجت جماعة من جيش الإمام علي بن أبي طالب احتجاجًا على القبول بالتحكيم بعد أن رفع جيش معاوية المصاحف على أسنّة الرماح، فرفعت المجموعة الخارجة حينها شعار “إنِ الحكمُ إلا لله”، وهي العبارة التي وصفها الإمام علي بأنها “كلمة حق يُراد بها باطل”. لكن بينما انجرت معظم فرق الخوارج لاحقًا إلى العنف وسفك الدماء، كالأزارقة والصفرية وغيرهم، ظهرت فرقة منهم رفضت هذا النهج الدموي، وكان على رأسها أبو بلال مرداس بن حدير، الذي دعا إلى عدم استحلال دماء المسلمين، واتبعه مناصروه فيما عُرف لاحقًا بفرقة “القَعَدة”، وهو وصف استخفّ به بهم الخوارج الآخرون، لقعودهم عن استخدام السيف ضد مخالفيهم.
ومن هذا التيار السلمي نشأ لاحقًا المذهب الإباضي، نسبة إلى عبد الله بن إباض التميمي، الذي عُرف كأحد أبرز المنظّرين والدعاة، بينما يرى الإباضيون أن المؤسس الحقيقي لمذهبهم هو التابعي الجليل جابر بن زيد الأزدي، الذي يُعد من كبار علماء التابعين، وقد نهل من علم ابن عباس، وروى الحديث عن عدد من الصحابة، وتميّز بعقلانية منهجه واتزانه الفقهي.
لم يكن المذهب الإباضي مجرد منظومة عقدية وفقهية، بل كان عاملًا أساسيًا في تشكيل ملامح الشخصية العُمانية، وبناء الدولة الحديثة التي تميزت بخصوصية واضحة في نهجها السياسي والاجتماعي. فالإباضية، بما يحملونه من قيم الشورى، والزهد، والعمل، والمسؤولية الجماعية، أسهموا في ترسيخ ثقافة سياسية تقوم على التوازن والاعتدال، وتنبذ الغلو والتطرف.
وقد تجلّت هذه الروح في التاريخ السياسي العُماني، لاسيما في تجربة “الإمامة” التي قامت على مبدأ اختيار الإمام بالشورى لا بالوراثة، وما رافقها من نظام حكم أقرب إلى فكرة التعاقد الاجتماعي. كما أن الفكر الإباضي طوّر منظومة فقهية أصيلة، ركزت على الاجتهاد والمصلحة العامة، وأسهم علماؤه، مثل نور الدين السالمي، ومحمد بن يوسف أطفيش، وغيرهم، في إثراء الفكر الإسلامي بكتابات تجمع بين عمق الفقه ونقاء الروح.
وفي الحاضر، تتجلى هذه القيم في سياسة سلطنة عُمان التي تتسم بالحياد الإيجابي، والدبلوماسية الهادئة، والانفتاح على الجميع دون الوقوع في الاستقطابات المذهبية أو السياسية. وهو ما جعل عُمان نموذجًا فريدًا في المنطقة، يجسّد الإمكانات الكامنة للتعدد المذهبي حين يُدار بالحكمة، ويُحاط بالثقة والتقدير المتبادل.
إن التجربة العُمانية، بما تحمله من تراث إباضي عريق وروح وطنية جامعة، تقدّم للعالم الإسلامي نموذجًا جديرًا بالتأمل والاحتذاء. عُمان نموذجٌ يثبت أن التعددية المذهبية ليست عبئًا على وحدة الأمة، بل هي مصدر ثراء فكري وروحي، متى ما أحسنّا إدارتها، وأخلصنا النية في تحويل الخلاف إلى اختلاف بنّاء، لا إلى شقاق مدمّر.
لقد آن الأوان لأن نخرج من أسر التصنيفات الضيقة، وننفض عن وعينا غبار القرون التي اجترّت الخلاف وأوغلت في الاتهام والإقصاء. فالإسلام الذي وسِع الصحابة باختلاف اجتهاداتهم، وأئمة المذاهب بتباين آرائهم، هو الإسلام نفسه الذي لا يزال يتسع لكل مخلص في عقيدته، صادق في إنسانيته.
 

** كاتب بحريني 
** نقلًا عن صحيفة البلاد البحرينية 

رابط مختصر

مقالات مشابهة

  • روسيا تصبح أول دولة تعترف بحكومة طالبان منذ توليها السلطة في 2021.. ما السبب؟
  • هل يمكن أن تصبح دبي عاصمة الويب 3 العالمية؟
  • في رحاب سلطنة عُمان.. عندما تصبح المذاهب مدارس وليست متاريس
  • بسعر مفاجأة .. عملاق الألعاب هاتف Infinix Hot 60i يغزو الأسواق إليك أهم مواصفاته
  • روسيا: السجن 13 عامًا لنائب وزير الدفاع السابق في واحدة من أكبر قضايا الفساد العسكري
  • عملاق ألماني لصناعة مقود السيارات يفتتح مصنعاً جديداً له بطنجة
  • عطاف يتلقى مكالمة من نظيره البولندي.. هذا مادار بينهما
  • روسيا تضاعف إنتاجها من الأسلحة والمعدات العسكرية استعدادا لتوسيع قدرات المجمع الصناعي العسكري
  • إنزاجي.. كابوس «الحمض النووي البرشلوني»!
  • إفلاس عملاق النسيج التركي.. زمرت تكستيل تُغادر السوقا