حياة البشر كما أرادها الله، هي من حيث الأصل ابتلاء واختبار للإنسان من حيث كونه إنسانا؛ فالله سبحانه وتعالى هو «الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا» وهذا الاختبار يعني أن من مقتضيات هذه الحياة البشرية في كل مكان وزمان، أن تكون حياةً لبشر منحهم الله الإرادة والحرية من ناحية، وركب فيهم كذلك غرائز وعواطف مختلفة تنعكس عبرها أعمالهم في توظيف الخير والشر، من ناحية ثانية.
وهكذا فإن حدث خلق الإنسان الأول (آدم) كان قد جر معه حديثا عن أمرين هما من لوازم حياة البشر في هذه الأرض، وهو ما ذكر في القرآن في قول الملائكة قبل خلق آدم: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» فالفساد وسفك الدماء هما ظاهرتان ملازمتان لطبيعة الحياة الإنسانية، وهنا يكمن اختبار الإنسان وإرادته الحرة عبر العقل الذي منحه له الخالق، فالابتلاء هدفه جعل الإنسان مختارا في فعل الخير والشر مع إمكان القدرة على فعل الخير والشر في الوقت ذاته.
وسنجد كذلك في آية أخرى من القرآن قوله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ». ولعل من الغريب في تفسير هذه الآية أن مفسري القرآن الأوائل من أمثال الطبري، خرجوا في تفسيرها بتأويلات وآراء بدت غريبةً نوعًا ما، كقول بعض المفسرين أن معنى هذه الآية يندرج فيما كان من فساد قبل بعثة النبي، فيما قال آخرون كالمفسر مجاهد «أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماء جار فهو بحر».
صحيح أن كلمة بحر في اللغة العربية تشمل كذلك الأنهار، لكننا اليوم وفي ظل التطور المعرفي والعلمي الكبير للبشرية ندرك تمامًا أن ثمة علاقة مباشرة بين التغيرات المناخية كذوبان الثلوج وفيضانات المحيطات والبحار وبين الاعتداء الجائر أو الاستغلال المبالغ فيه لموارد البيئة الطبيعية.
لقد أدرك البشر اليوم بوضوح خطورة التغير المناخي وتقلباته وما ينتج عنها من كوارث بيئية لم تشهدها البشرية من قبل، كظاهرة «التسونامي» وغيرها من الظواهر، كما أدركوا تمامًا أن لتلك المتغيرات المناخية الخطيرة على حياة البشر في الأرض علاقة عضوية بما يفعله البشر وخصوصا في العالم الصناعي.
وهكذا فإن كيفية نسبة ظهور الفساد في البحر اليوم يمكن فهمها بوضوح في منطوق الآية القرآنية في كونها تدل على أن هناك علاقة مباشرة بين كسب أيدي الناس أي تدخل الإرادة الإنسانية، وبين الفساد في البحر.
إن ظهور الكوارث التي تنتج عن الاستخدام الضار لموارد البيئة الطبيعية أصبحت اليوم من هواجس البشرية المشتركة، فاليوم بات واضحًا أن اهتمام العالم الحديث بقمم المناخ وضرورة الالتزام بالنسب المعقولة في الاستخدام العادل لموارد البيئة الطبيعية، أصبح اهتمامًا يدق ناقوس الخطر؛ لأن نتاج الاستمرار في التجريف الجائر للمجمعات الصناعية على تدمير الطبيعة سينتهي بكوارث عامة للبشر جميعًا.
وما شهدناه مؤخرًا في مدينة درنه الليبية عبر (إعصار دانيال) والكارثة التي أودت بحياة الآلاف هناك نجمت عن انهيار سدين مع موجة الإعصار؛ يجسد بوضوح الكيفية التي تجمع بين الأمرين؛ أي الفساد المباشر الناتج عن الخلل في إحكام بناء السدين وصيانتهما، وكذلك الفساد غير المباشر الناتج عن التغيير المناخي وأثره.
نلاحظ في الآية القرآنية الكريمة أن كلمة الناس فيها دلالة واضحة بأن المقصود في معنى الفساد هو فساد عام وكبير يشترك فيه الناس، فهو ليس فسادًا تقوم به فئة من البشر بل هو فساد نتج لفعل كسب الناس. وهنا سنجد أنه قد يدخل في فعل هذا الفساد المكتسب؛ الأفعال غير المباشرة والتي قد لا يظن الإنسان وهو يزاولها بطريقة مباشرة أنه يفعل شيئًا فاسدًا، فيما الحقيقة التي بدت واضحة اليوم بفعل التطور العلمي والصناعي للبشرية؛ أقرت بأن للإنسان الحديث أثرًا واضحًا ومباشرًا وخطيرًا على التغيرات المناخية عبر المجمعات الصناعية للعالم الحديث.
هكذا فيما أدرك المفسرون القدامى معنى ومراد الآية من فساد البشر في البر بوضوح، استشكل عليهم معنى فساد البحر، مع أن الآية الكريمة نسبت فساد البحر أيضًا للناس، ليدركه الإنسان الحديث اليوم بوضوح في المعنى العام التي بات معروفًا اليوم في كون فساد البحر هو من نتائج الاستنزاف الجائر لموارد البيئة الطبيعية الذي ينتج الكوارث المناخية كذوبان الثلوج والفيضانات والأعاصير.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: حیاة البشر فساد ا
إقرأ أيضاً:
عتاب صديق!
وقف صديقى يعاتبنى على تحوير مقالاتى إلى قضايا عامة ودولية تتناول الحرب العالمية والإشارة إلى التغييرات التى يمر بها العالم تمهيداً لإحلال دول مكان دول الآن تدير العالم منذ انتصارها فى الحرب العالمية الثانية. إن السبب فى زوال نفوذ الدول القديمة سببه غياب العدالة وازدواج المعايير، ويذكرنى بما كنت أكتبه من سلوك البشر وإننى مغالى بتلك العبارة الرشيقة اللذيذة «لم أقصد أحد» فقلت له يا صديقى إن العلاقات الدولية من صنع البشر، وكثيراً ما تناولت بعد مرحلة «لم أقصد أحد» إلى تناول يربط بين سقوط الدول والفساد وتدهور الأخلاق والتفاوت الاجتماعى، فقلت أحكام وآراء فقهاء فى التحليل الاجتماعى والاقتصادى والسياسى، على رأسهم «ابن خلدون» فى «مقدمته»، وأيضاً «ميكافيلى» فى كتابه المشهور «الأمير» وأيضاً حكايات «كليلة ودمنة» وآخرون، كل ذلك وأنا أعلم أن هذه الأيام المؤذية بالإسفاف والهيافة ولا يكاد الناس يقرأون حتى يجدوا اللذة الفنية التى تخرجهم من هذه البيئة الثقيلة البغيضة التى يكرهها الناس رغم صبرهم عليها. من ثم فالمقال يا صديقى منفذ يتخلصون به من السذاجة التى لا تليق بهم، ويكفى لمن يقرأ ما أكتبه أنه سيجد إحاطة دقيقة بكل الذى يحدث حوله، وأعتقد يا صديقى بأنها جهد صادق رغم يسر كلماتها لمعنى سامٍ يطمئن النفوس، فلا فرق بين انتقاد البشر وانتقاد الدول، وسكت صديقى وسكت أنا.. والرأى لكم.