سؤال قَدْ تكُونُ الإجابة عَلَيْه في ظلِّ التوسُّع الحاصل في المنصَّات الاجتماعيَّة ودخولها لكُلِّ بيت، بل وتعمُّقها في قناعات وفكر واهتمامات كُلِّ فرد، الأطفال والمراهقين، والصغار والكبار، والرجال والنساء؛ بحاجة إلى أدوات وآليَّات واستراتيجيَّات أكثر تقنينًا وعُمقًا لإثباته، والوصول إليه يتطلب امتلاك فرص التغيير والتصحيح في العادات اليوميَّة للفرد والمُجتمع في استخدام التقنيَّة، حتَّى يتكيَّفَ الأطفال مع معطيات الواقع الجديد، ذلك أنَّ الاهتمام بمنصَّات التواصل الاجتماعي والتقنيَّة اليوم تجاوز مبدأ مزاجيَّة الاختيار وتعدَّى ذاتيَّة الرغبات، وفرض نَفْسَه بقوَّة على واقع الأجيال، وتفاصيل حياتهم ومواقفهم كونهم يعايشون تجلِّيات التقنيَّة في البيت والشارع، بل أصبحت مسألة الدخول في هذه المنصَّات وفتح حسابات فيها خيار القوَّة للعيش في عالَم سريع التغيير، وأصبحت مسألة الرقابة في شكلها التقليدي المعتاد ـ رغم توافر البرامج والأدوات التي تتيح للأهل مراقبة استخدام أبنائهم للهواتف الذكيَّة أو الحواسيب المحمولة وإعادة توجيهها بالشكل الذي يضْمَن المحافظة على قِيَمهم ومبادئهم وأخلاقهم، إلَّا أنَّ مسألة تحقيق ذلك على أرض الواقع، وانتزاع الهواتف من أيدي الأطفال، وفرض سُلطة الوالديَّة في القرار، أصبح ليس من السهولة بمكان، في ظلِّ شيوع انتشارها بَيْنَ الأطفال في عمر مبكِّر، وفي ظلِّ تنازل بعض الأُسر عن مسؤوليَّتها في هذا الشَّأن، لِيضعَ الوالدين أمام معركة مصيريَّة مع الأبناء بما تولِّده من جدال وصراع وأخذٍ وردٍّ قَدْ يتجاوز كُلَّ أشكال الحوار ويتعالى فوق منابر الاحترام والتقدير والثِّقة.


عَلَيْه فإنَّ تأكيد دَوْر الرقابة الوالديَّة يحتاج إلى تثبيت لقواعدها في منظومة البناء الفكري، والقوانين ذات العلاقة، وإعادة هندسة التربية الوالديَّة والتنشئة الأُسريَّة وتعميق حضورها في حياة الناشئة، وتقوية مسار الضبط الاجتماعي الوالدي الذي يستهدف ترسيخ التربية الوقائيَّة التي تحافظ على سلامة الأجيال فكريًّا ونفْسيًّا وجسديًّا من أن تعترضَ التقنيَّة طريق قوتهم وسلامة عقيدتهم ونهضة مبادئهم وسُمو تفكيرهم؛ ذلك أنَّ مفهوم الرقابة ذاته يخضع في ظلِّ هذه التجاذبات والضبابيَّة في المفهوم وطريقة تطبيقه على الواقع الافتراضي، لكثير من الاعتبارات، ويواجه حالة من عدم الثبات في المعايير، إذ ما نوع الرقابة الذي يضْمَن حماية الأطفال من استخدام هذه المنصَّات؟ وهل هي رقابة صارمة تمنع الأطفال من الاستفادة من التقنيَّة أو التجوُّل في المنصَّات؟ وهل سيصمد الوالدان والأهل على تحقيق ذلك في ظلِّ التراكمات والظروف التي باتت تقرأ المشهد الأُسري؟ وهل سيجد الأهل خيارات بديلة لأبنائهم في التقنيَّة ذاتها يُمكِن أن تقدِّمَ للأطفال مشاهد جميلة ومشرِقة تُعِيد إنتاج حياة الطفولة؟ إذا ما علِمنا أنَّنا في مُجتمعاتنا العربيَّة مستهلكون من الدرجة الأولى للتقنيَّة، إذ قَدْ لا نمتلك المحتوى الإلكتروني المثري الموَجِّه للطفولة، وإن امتلكنا جزءًا مِنْه فإنَّ عمليَّات التغيير المتسارعة لهيكلة المحتوى وضبط مفرداته باتتْ يتحكَّم بها صنَّاع التقنيَّة ذاتهم أكثر من مستخدميها، كما أنَّ استهلاك التقنيَّة والصورة القاتمة التي ما زالت حاضرة لدى الطفولة حَوْلَها، والتفسيرات المرتجلة أو سوء استخدام الكبار للتقنيَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة باتَتْ يعكس حالة من عدم الاستيعاب أو تحجيم التقنيَّة والمنصَّات في إطارها الضيِّق الذي لا يتجاوز مستوى الترفيه حتَّى وصل لحدِّ الإدمان وارتفعت نسبة الفاقد التعليمي لدى الأطفال بسبب الاستخدام غير المقنَّن للتقنيَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة.
ومع النقص الحاصل في المحتوى الإعلامي والتثقيفي والترفيهي والتوجيهي الموَجَّه للأطفال، سواء في جانب الكمِّ والمحتوى، وقلَّة البرامج المبتكرة، وتكراريَّة ما هو موجود مِنْها على مستوى القنوات الإعلاميَّة التقليديَّة والمنصَّات الاجتماعيَّة التي تعاني اليوم من غياب المحتوى المتخصص الذي يتناسب مع الحالة الوطنيَّة ويجسِّد خصوصيَّة الشخصيَّة العُمانيَّة وتستحضر المُكوِّن النَّفْسي والفكري والعاطفي للطفولة العُمانيَّة، والتي يُمكِن أن تعطيَ الوالدَيْنِ مساحة واسعة من الخيارات والفرص في عمليَّة الاحتواء والرقابة والضبطيَّة في ظلِّ ما يُمكِن أن تؤسِّسَه في الطفولة من فرص الوعي وبناء القدرات وخلق الاستعدادات وتقريب الصورة العامَّة وتجديد مساحة الحوار مع الذَّات والآخر؛ إلَّا أنَّ ذلك لا يُبرِّر غياب الرقابة الوالديَّة أو تحجيمها أو التنازل عَنْها، أو سلبها من واقع الأبناء بأيِّ حجَّة أو وسيلة كانت؛ ما يعني أنَّ الرقابة والمتابعة الوالديَّة يجِبُ أن تكُونَ حاضرة في سبيل الحفاظ على درجة استحقاقات الطفولة من التقنيَّة في عالَم متغيِّر؛ ذلك أنَّ عدم إتقانها لها، في ظلِّ دخول مسار التعليم عن بُعد والمدمج الذي بدأ يأخذ طريقه التشريعي والتنظيمي في هيكلة التعليم المدرسي وبرامج التعلُّم اليوميَّة في بيئة الصَّف الدراسي، يُمثِّل خروجًا عن المسار الذي يجِبُ أن يسلكَه التعليم في سلطنة عُمان، ويحافظَ من خلاله على مسارات التكامل في شخصيَّة الناشئة، ويضْمنَ فيه حقّ الأطفال في استخدام التقنيَّة كجزء من عالَمهم، وأنَّ استخدام هذا الحقِّ يأتي في إطار من التقنين والمتابعة والمراجعة، بما لا يشوِّه كيان الطفولة، ولا يتعدَّى على براءتها وأخلاقها وفطرتها السليمة، ولا يستنزف طاقاتها وأفكارها؛ بل أن يكُونَ لوجودها في هذا العالَم الافتراضي قِيمة مضافة، ومساحة للتأمل والتفكير خارج الصندوق، وفَهْم مسارات التحوُّل التي يعيشونها، ودَوْرهم في إثبات بصمة حضور لهم في إعادة إنتاج عالَمهم الذي باتَتْ تتدخل فيه أيادي الكبار.
وبالتَّالي كيف يُمكِن إيجاد تناغم اجتماعي في مسألة دخول الأطفال في هذه المنصَّات أو استخدامهم للهاتف، هذا الأمْرُ يُبقي الحضور الوالدي الحلقة الأقوى في هذه المعادلة، وتصبح تهيئة الوالدَيْنِ والأُسرة لقَبول التعامل مع معطيات الواقع الافتراضي وتجلِّياته في شخصيَّة الأبناء ضرورة تضعهم أمام مسؤوليَّة التعامل معه بمهنيَّة كجزء من مسؤوليَّتهم الأبويَّة، ما يزيدهم ذلك شغفًا في البحث والاطِّلاع والتعلُّم وكسب الخبرة والمعرفة لِيكُونَ تعاطيهم معه مبنيًّا على كفاءة في الدَّوْر وفاعليَّة في الممارسة؛ وفي المقابل فإنَّ التكاتف المُجتمعي في خلق روح اجتماعيَّة تفاعليَّة في إيجاد قواعد وفرص مسارات متَّفق عَلَيْها سوف يُعزِّز من فرص الحوار الاجتماعي مع الأبناء في بناء سلوك اجتماعي يقتنع به الجميع، ويفتح المجال لخيارات أوسع تتاح فيها الحريَّة المضبوطة في استخدام الهاتف والدخول في هذه المنصَّات؛ وأهمِّية تناغم السلوك الاجتماعي في التعامل في مفهوم الرقابة الأبويَّة على الأطفال في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي التي ينبغي أن تأخذَ منحى الاعتدال والتقارب في السلوك المستخدم مع الأبناء بحيث يعمل المُجتمع على صياغة محدِّداتها وفَهْم مقاصدها، وأن تتجاوزَ المسألة حدود الممارسة الفرديَّة، إلى عقد اجتماعي وميثاق أخلاقي، يستشعر فيه الجميع مسؤوليَّة الإبقاء على خيوط التواصل ممتدَّة، ومساحات الثقة قائمة وهواجس الشعور بَيْنَ الطرفَيْنِ حاضرة، وفرص الحوار التي تحافظ على كيان الأُسرة مستمرَّة، لِتتَّجهَ إلى تبنِّي نماذج تطبيقيَّة على شكل برامج تدريب محاكية للواقع تضع الأطفال أمام مواقف محدَّدة، وتراهن على قدراتهم في ظروف وأحداث مختلفة، بالإضافة إلى قناعة الوالدَيْنِ بطبيعة الدَّوْر الذي عَلَيْهم ممارسته في هذا الجانب وهو دَوْر ينبغي أن يتَّسمَ بالاستدامة والحوار والتصحيح والتناغم وتعزيز حضور الوالدَيْنِ في اهتمامات أبنائهم ومشاركتهم فيها، بمعنى أن لا يقتصرَ الدَّوْر على مجرَّد التوعية والتثقيف، بل أيضًا عَبْرَ الملاحظة المباشرة والحضور المستمرِّ مع الأبناء في أثناء استخدام هذه المنصَّات ومدِّ جسور الثقة والصراحة معهم، وأن يتبنَّى الوالدانِ مسارات قائمة على وحدة التأثير ومنهج التكامل في أساليب توجيه الأبناء بحيث تتَّفق وجهات نظرهم في التعاطي مع الحالة، ووضع إجراءات تصحيحيَّة تعبِّر عن رضاهم بأيِّ تأثير سلبي لهذه المنصَّات على سلوك الطفل أو شخصيَّته.
وعَلَيْه فإنَّ التعامل مع الموضوع يستدعي اليوم بناء ثقافة مُجتمعيَّة متوازنة في استخدام الأبناء للتقنيَّة، وهي ثقافة قائمة على مبادئ الوقاية والأمان السلامة واستنطاق القِيَم، بالشكل الذي يضْمَن امتلاك الأطفال للموجِّهات الأخلاقيَّة والقِيَميَّة والدينيَّة والمُجتمعيَّة التي تمنع من التغرير بهم، أو امتلاكهم الحصانة التعليميَّة والأخلاقيَّة التي تؤصِّل فيهم نقد المعرفة وتصحيح الواقع الافتراضي وامتلاك الحجج والبراهين التي تمنع الهشاشة الفكريَّة من التأثير فيهم، سواء من حيث تعرُّضهم للابتزاز الإلكتروني وما يتبعها من سلوكيَّات غير أخلاقيَّة وتهديدات بفضح الطفل أو الشَّاب ونشر صوَره، الأمْرُ الذي استدعى إيجاد تشريعات وأنظمة عمل وإجراءات وقائيَّة واضحة ودقيقة في التعامل مع مسألة الابتزاز الإلكتروني أو من خلال البرامج التثقيفيَّة والتوعويَّة التي تقوم بها وتوَجَّه لمختلف شرائح المُجتمع والتي أخذت أساليب عدَّة كالتوعية المباشرة واللقاءات والزيارات للمدارس والمؤسَّسات والأُسر، أو عَبْرَ المنشورات والتعريفات والرسائل التحذيريَّة النَّصيَّة القصيرة أو غيرها، إلَّا أنَّ ذلك لا يُمكِن أن يتحقَّقَ إلَّا عَبْرَ تمكين الأطفال من امتلاك الأدوات والآليَّات التي ترفع من سقف تعاطيهم مع المخاطر أو التشويهات الحاصلة في المنصَّات الاجتماعيَّة، بما يؤصِّل فيهم الوعي بالنتائج المترتبة على الدخول في هذه المنصَّات.
أخيرًا، فإنَّ ما باتَتْ تُفصح عَنْه محتويات هذه المنصَّات الاجتماعيَّة من انحرافات فكريَّة، وتغرير بالأبناء في قضايا الشذوذ والإلحاد والمثليَّة والنسويَّة وإدخال الأطفال في دوَّامات وأفكار ارتجاليَّة خارج عالَمهم البريء، ونيَّاتهم الصادقة، يؤكِّد الحاجة إلى تبنِّي سياسات وطنيَّة في تعزيز مسار الرقابة الوالديَّة، وترسيخ ضرورات الضبط الأُسري والاجتماعي، والمزيد من الاحتواء والبناء الفكري للأبناء الذي يصنع فيهم قوَّة المواجهة، ويبقى إعادة هندسة سلوك الكبار، والظهور الجريء غير اللائق للمرأة في هذه المنصَّات، وحالة التهافت على استهلاك مستحدثات هذه التقنيَّات والمنصَّات، والتي يوهم بها الأطفال من مستخدمي هذه المنصَّات في قدرتها على ـ إحداث التغيير في حياتهم، وقلب موازين العيش لدَيْهم، بحالة السرور التي تدخلهم، والحياة الجميلة التي سيعيشونها بفعل استخدام هذه التقنيَّة والفرص الماليَّة المتحقِّقة لهم، والتي باتَتْ تسترق من فِقه الأطفال وقناعاتهم روح البساطة التي يعيشونها، وما يُمكِن أن يؤصِّلَه ذلك في قناعات وأذهان الأطفال من تشوُّهات في الصورة، وتصدُّعات في النسيج الاجتماعي، واختلالات في الأفكار والقناعات الذَّاتيَّة للفرد.

د.رجب بن علي العويسي
Rajab.2020@hotmail.com

المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: ات الاجتماعی الأطفال فی مع الأبناء التعامل مع الأطفال من فی استخدام الوالد ی ن ة التی

إقرأ أيضاً:

هل تنجح هجمة أوروبا على إسرائيل في وقف الحرب؟

"يسعدني أن هناك اليوم عددًا متزايدًا من الأميركيين الذين سيفهمون ما فعلت، وربما يرونه أكثر الأفعال عقلانية"، هكذا عقّب إلياس رودريغيز على عملية إطلاق النار التي نفذها ضد موظفي السفارة "الإسرائيلية" في الولايات المتحدة، والتي يرى الكثيرون أنها أتت في سياق رأي عام غربي يتصاعد في رفضه حرب الإبادة، ويترافق مع مواقف رسمية أوروبية ضاغطة على "إسرائيل" مؤخرًا.

مواقف مستجدة

شهدت الأسابيع الماضية تصعيدًا ملحوظًا في خطاب ومواقف أوروبية ضد "إسرائيل" على خلفية استمرار عدوانها على غزة وبشكل أكثر دقة بسبب منعها دخول المساعدات للقطاع على مدى ما يقرب من ثلاثة أشهر.

فقد أصدر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ورئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، ورئيس الوزراء الكندي مارك كارني بيانًا مشتركًا هددوا فيه بعدم الوقوف "مكتوفي الأيدي" إزاء ما عدّوه "أفعالًا مشينة" ترتكبها حكومة نتنياهو، ملوّحين باتخاذ "إجراءات عقابية ملموسة" ضدها، إذ لم توقف العملية العسكرية وتسمح بإدخال المساعدات فورًا وبكميات كافية.

كما طالبها وزراء خارجية 22 دولة، في مقدمتها ألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وكندا، وأستراليا، "بالسماح بدخول المساعدات بشكل كامل وفوري" تحت إشراف الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية، في رفض علني ومباشر الآليةَ التي اقترحتها بالتعاون مع واشنطن.

إعلان

كما وصف وزير خارجية بريطانيا الحصار المفروض على غزة بأنه "غير أخلاقي ولا يمكن تبريره"، معلنًا تعليق مفاوضات اتفاقية التجارة الحرّة مع "إسرائيل"، وفرض عقوبات على منظّمات ومستوطنين متورّطين بالعنف في الضفة الغربية.

وفي تصعيد أوروبي غير مسبوق، بدأ وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي مناقشة دعوات قدّمتها عدة دول لتعليق اتّفاقية الشراكة بين الاتحاد و"إسرائيل"، في ظلّ أحاديث عن دعم أغلبية الأعضاء.

كما أكّد ماكرون أن "كل الخيارات مطروحة" للضغط على "إسرائيل" لوقف الحرب وإدخال المساعدات، مع التلويح بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. ووصف رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز "إسرائيل" بـ "دولة الإبادة"، رافضًا التعامل التجاري معها.

قبل ذلك، كانت ست دول أوروبية، هي أيرلندا، وإسبانيا، وسلوفينيا، ولوكسمبورغ، والنرويج، وآيسلندا، قد أصدرت بيانًا مشتركًا عدّت فيه مساعي "إسرائيل" لتهجير سكان غزة "ترحيلًا قسريًا، وجريمة بموجب القانون الدولي"، منتقدة تعمّد منع دخول المساعدات.

على الجانب الآخر من الأطلسي، تواترت تصريحات أميركية بأن ترامب "يريد وقف الحرب"، في خلاف شبه علني مع نتنياهو، كما أجّل وزير الدفاع الأميركي زيارة كانت مقررة لـ "إسرائيل"، وأكد أكثر من مصدر أميركي أن إدارة ترامب مستمرة في تواصلها المباشر مع حركة حماس، رغم اعتراض نتنياهو، فضلًا عن خلافات علنية بين الجانبين بخصوص المفاوضات الأميركية – الإيرانية وطريقة التعامل مع الحوثيين.

يضاف كل ذلك إلى الحركة الطلابية في الجامعات الأميركية التي ما زالت عالية السقف ضد الحرب، وضد ترهيب الطلاب المتضامنين مع الفلسطينيين.

ويرى الكثيرون أن العملية التي نفذها رودريغيز تأتي في سياق الرأي العام الغاضب من استمرار الإبادة والتجويع، لا سيما أنها أتت من شخص غير عربي أو مسلم، فضلًا عن تعليمه وثقافته واطّلاعه على القضية الفلسطينية وحرب الإبادة بكامل تفاصيلها، وحديثه الملموس عن "المسؤولية الإنسانية"، و"تواطؤ الحكومة الأميركية"، واستمرار دعمها حكومة الاحتلال.

إعلان الدوافع

لا يمكن النظر للمواقف الأوروبية على أنها مواقف مبدئية مع الفلسطينيين وقضيتهم، فقد تبنّت معظم هذه الدول سردية الاحتلال بخصوص هجوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وأيدت ما أسمته "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها". بيد أن أكثرَ من سنة ونصفٍ من حرب الإبادة المستمرة، قد راكمَ عدة دوافع وأسباب ساهمت في بلورة الموقف الأوروبي – الغربي المستجد.

في المقام الأول، ليست حرب الإبادة مما يمكن تأييده، تحديدًا بشكل علني ورسمي، لا سيما بعد أن تحوّلت منذ أشهرها الأولى إلى إبادة وحصار وتجويع للمدنيين، ثم تواترت التصريحات الرسمية، ولا سيما من وزير المالية سموتريتش، بضرورة إعادة احتلال القطاع وتفريغه من سكانه.

هنا، تتبدّى رغبة أوروبية بالتنصّل من حرب الإبادة وتبعاتها، ولا سيما في البعد الإنساني، وبشكل أكثر دقة بخصوص قتل الأطفال واستهداف المدنيين بشكل مكثف ومتكرر ومقصود. حيث أكدت وزارة الصحة العالمية أن غزة تواجه "إحدى أسوأ أزمات الجوع عالميًا"، مما يتسبب بوفاة عشرات الأطفال بسبب "الحرمان المتعمّد من الغذاء".

ينطلق ذلك من رغبة أوروبية في تأكيد "المنطلق الأخلاقي" في النظر للقضايا، وكذلك استشعار المسؤولية الأوروبية عن أفعال "إسرائيل" التي نُظر لها لعقود على أنها ممثلة الغرب المتحضر في قلب الشرق الأوسط، فضلًا عن الحقائق التاريخية بخصوص دور أوروبا في إنشائها بالأساس.

إضافة إلى ذلك، يتابع القادة الأوروبيون التغير الكبير في الرأي العام في بلادهم من "إسرائيل" والقضية الفلسطينية، ولا سيما بين الأجيال الجديدة، وهو ما يخشون ارتداده عليهم بشكل سلبي، وخصوصًا في الاستحقاقات الانتخابية، وقد كانت الانتخابات البريطانية العام الفائت مثالًا حيًا على ذلك.

وكمثال يمكن تعميمه بدرجة أو أخرى، فقد أوضح استطلاع للرأي أُجري في يونيو/ حزيران من العام الفائت، أن 54% من الشباب البريطاني (18-24 عامًا) يرون أن "إسرائيل لا ينبغي أن توجد"، بينما رأى نصفهم أنها هي المسؤولة عن الحرب وليس الفلسطينيين.

إعلان

كما أن الاعتداءات "الإسرائيلية" في مجمل المنطقة، في لبنان رغم وقف اتفاق إطلاق النار، وضد سوريا دون أي خطر منها، والتهديد المتكرر لإيران واليمن، تعمّق عدم الاستقرار في المنطقة، وبالتالي تسير عكس اتجاه السياسات الأوروبية وعلى النقيض من مصالحها. ولعل حادثة إطلاق النار على دبلوماسيين أوروبيين وعرب في جنين يظهر إلى أي مدى فقدت "إسرائيل" عقلها.

وأخيرًا، قد تكون المواقف الأوروبية في جزء منها مناكفة أو ردًا ضمنيًا على سياسات الرئيس الأميركي غير المرضية بالنسبة لها، ولا سيما ما يتعلق بالحرب الروسية – الأوكرانية والعقوبات الاقتصادية.

أي تأثير؟

السؤال الأكثر إلحاحًا الآن هو إلى أي مدى يمكن أن تؤثر المواقف الأوروبية والغربية الأخيرة على استمرار الحرب.

بالنظر إلى توجهات حكومة الاحتلال، والدعم الأميركي المستمر، والمواقف الإقليمية الرسمية، والوضع الميداني في غزة، لا يمكن انتظار تأثير أوروبي مباشر يؤدي لوقف الحرب. لكن ذلك لا يعني أن الخطوات الأوروبية بلا أثر بالمطلق.

فقي المقام الأول، ثمة موقف عابر للدول يكاد يشمل معظم أعضاء الاتحاد الأوروبي ومعهم بريطانيا، برفض استمرار الحرب وضرورة إدخال المساعدات، وهي الدول الأكثر دعمًا لـ"إسرائيل" تقليديًا. يعني ذلك أن الأخيرة تفقد بشكل ملحوظ رصيدها الداعم لها في الغرب ليس فقط على صعيد النخب والشعوب، ولكن أيضًا على الصعيد الرسمي.

كما أنّ الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأكبر لدولة الاحتلال، وبالتّالي فإن مضيّه في مسار تعليق اتفاقية الشراكة وغيرها من العقوبات الاقتصادية المحتملة، قد تكون له آثار سلبية وربما كارثية على اقتصاد الحرب في "إسرائيل" المتراجع أصلًا.

من جهة ثالثة، فإن تواتر المواقف الدولية الضاغطة على نتنياهو وحكومته يشكل دعمًا كبيرًا وتحفيزًا للمعارضة الداخلية ضد نتنياهو على الصعيدين؛ الشعبي والسياسي، وهو ما لاحت بعض إشاراته في الأيام القليلة الأخيرة.

إعلان

فقد حذر رئيس الحزب الديمقراطي "الإسرائيلي" يائير غولان من تحول "إسرائيل" إلى دولة منبوذة دوليًا لأنها "تقاتل المدنيين، وتقتل الأطفال كهواية، وتعمل على ترحيل السكان".

وقال رئيس الوزراء السابق إيهود باراك إن الهدف الحقيقي لما أسماه "حرب الأشرار" هو "ضمان بقاء نتنياهو، لا أمن إسرائيل"، داعيًا إلى الإطاحة به. كما دعا رئيس الوزراء السابق إيهود أولمرت إلى سحب الجيش من غزة وإنهاء الحرب، طالبًا "مساندة المجتمع الدولي للتخلص من بن غفير وسموتريتش ونتنياهو".

في المحصلة، فإن المواقف الأوروبية والغربية الأخيرة تشكّل ضغطًا كبيرًا على نتنياهو وحكومته، خارجيًا وداخليًا، وهو ما يمكن أن يساهم مع عوامل أخرى إضافية في وقف الحرب مستقبلًا. بينما قد يكون تأثيرها المباشر والسريع المتوقع هو السماح بإدخال المزيد من المساعدات للقطاع استجابة للضغوط كما حصل مؤخرًا.

وتبقى الحرب الحالية الخالية من أي أهداف عسكرية وبرنامج سياسي لما بعدها عبئًا على الأطراف الداعمة للاحتلال، ويبقى ملف الأسرى عامل ضغط إضافي في المدى المنظور، ما يعزز إمكانية وقف الحرب لاحقًا إذا ما توفرت عوامل ضغط إضافية.

وهنا تتبدى مسؤولية منظومة العمل العربي والإسلامي الرسمي، بشكل مباشر، وكذلك من خلال العلاقات مع الإدارة الأميركية التي أثبتت مرارًا أن ترامب قابل لتغيير المواقف وحسم القرارات إذا توفّرَ ما يقنعه و/ أو يغريه.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • توجيه 150 إنذارًا لمبان مخالفة للاشتراطات في الظهران
  • الفلاحي: صواريخ الحوثي تربك إسرائيل وتؤشر لتحول إستراتيجي في قدراتها
  • هل على نتنياهو أن يخشى من جيل الأطفال الذي شهد الإبادة؟
  • من صنعاء إلى تل أبيب.. العمق الإسرائيلي في مرمى صواريخ الحوثيين
  • ألمانيا وحلفاؤها يطلقون يد أوكرانيا في ضرب العمق الروسي.. ماذا بعد؟
  • من صنعاء إلى تل أبيب.. العمق الإسرائيلي تحت مرمى صواريخ الحوثيين
  • توجيه من الأوقاف السورية لخطباء المساجد .. ماذا تضمن؟
  • هل تنجح هجمة أوروبا على إسرائيل في وقف الحرب؟
  • ما الذي يفعله فينا عجزنا تجاه أطفال غزة؟
  • بالصور: بيت الصحافة يختتم دورة "الكتابة الإبداعية للمنصات الرقمية"