أثير – الإعلامي العربي زاهي وهبي

ما جدوى الكتابة في اللحظات الحرجة والأوقات العصيبة؟ وهل يرتقي الحبر إلى مصاف الدم حين يبذل الناس أرواحهم فداء أرضهم ووطنهم؟ أو حين يهدم الاحتلال البيوت على رؤوس قاطنيها من نساء وأطفال وعجائز؟ أي دور للكلمة حيال هذا الواقع؟ وهل تنفع القصائد والأغنيات؟ في الوقت عينه أليس الصمت نوعاً من التواطئ والخذلان؟ هل نستطيع صمّ آذاننا عن دوي المدافع وهدير الطائرات؟ أليس المقتولون أهلنا وناسنا وبني جلدتنا؟ أليسوا على الأقل نظراءنا في الخلق؟

تعود هذه الأسئلة بقوة كلّما اشتدّت ضراوة القتال وحمي الوطيس.

علماً أن الظلم قائم في الحالة الفلسطينية حتى حين يتراجع دوي المدافع ويصمت هدير الطائرات. الاحتلال واقع يوميّ يعيشه أبناء الأرض المحتلة، والعدوان لا يقتصر على استخدام الآلة العسكرية الجرارة المدعومة بسياسات دولية وإقليمية غير إنسانية وغير أخلاقية. العدوان فعلٌ يوميٌّ يمارسه الاحتلال الإسرائيلي عبر الاستيطان والتمييز العنصري وجدار الفصل والحواجز العسكرية وحملات الاعتقال واستسهال القتل جاعلاً من حياة الفلسطينيين جحيماً دائماً وذلك منذ عقود طويلة
من الزمن.

أما قطاع غزة ورغم انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي منه فإنه واقع تحت حصار ظالم ودائم، لا يستطيع المواطن الفلسطيني فيه التنقل بسهولة ولا السفر، مثلما لا يستطيع الحصول على الغذاء والدواء والكهرباء بشكل طبيعي، دولة الاحتلال تُقطِّر عليه كل شيء، ولو استطاعت لمنعت عنه حتى الهواء، ومتى شاءت تقصف وتدمِّر وتغتال، فضلاً عما يتسبب به الحصار من مشاكل اجتماعية صحية ونفسية إلى جانب الفقر والبطالة وسائر الآفات التي يعمل الاحتلال على مضاعفتها وسط تجاهل دولي فاضح لواحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية.

رغم مرارة هذا الواقع ما يزال البعض يستكثر على الفلسطينيين لجوءهم إلى كل الوسائل الممكنة والمتاحة للتعبير عن رفضهم للاحتلال ومقاومتهم له، واضطرارهم إلى ابتكار أساليب مدهشة في مواجهة البطش الإسرائيلي. والأنكى أن بعض المستلَبين للدعاية الغربية صار يعتبر الانتصار للحق الفلسطيني والكتابة عن المأساة الفلسطينية موضة بالية ودقّة قديمة لا تتماشى مع المعايير الغربية للحرية والعدالة والديمقراطية. علماً أن هذه المعايير سقطت سقوطاً مدوياً مع اندلاع الحرب الأوكرانية حيث مارست الحكومات الغربية ووسائل الإعلام كل ما كانت تستنكره وتستكثره على الفلسطينيين والعرب.

لجأت الحكومات الغربية إلى كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة في سبيل الضغط على روسيا ومحاربتها، استخدمت الإعلام والثقافة والرياضة والمال والاقتصاد وكل ما استطاعت إليه سبيلاً، فيما كانت على مدى عقود تصمّ آذانها وتغمض أعينها وتبتلع ألسنتها إزاء كل ما يتعلق بفلسطين وحق شعبها في الحرية والاستقلال، وأكثر من ذلك كانت تدعونا دائماً لعدم خلط السياسة بالثقافة والرياضة وسواهما كلما رفض مثقف أو رياضي عربي مشاركة إسرائيلي في ندوة أو مباراة. عجباً!

لو كانت الكتابة لا تجدي لما حورِبَ الكتّاب المنحازون للحق الفلسطيني، ولو كانت الموسيقى والأغاني بلا أثر لما عُتِّمَ على الفنانين المنتصرين لهذا الحق، بمن فيهم الفنانون الغربيون الذين تتم مقاطعتهم ومحاربتهم بمجرد أن يعلنوا موقفاً يكشف حقيقة الاحتلال الإسرائيلي ويتضامن مع مظلومية الشعب الفلسطيني.

بلى الكتابة مجدية وضروريّة وملحّة.

يقول محمود درويش بما معناه ليس علينا المفاضلة بين الرصاصة والكلمة. في معارك التحرير والاستقلال كلاهما يكمل الآخر. فالكلمة تحفظ الذاكرة وتحصّن الوعي وتمنع تزييف التاريخ. خطورة الاحتلال الإسرائيلي ليست فقط في كونه غاصباً للجغرافيا بل أيضاً في سعيه الحثيث لاغتصاب التاريخ عبر مزاعمه الباطلة وترهات “أرض الميعاد”. لذا تغدو أهمية الكلمة مضاعفة لجهة فضح الأكاذيب والأحابيل الإسرائيلية، وكشف حقيقة الكيان العنصري والفاشي، والتأكيد على الهوية الحقيقية تاريخاً وجغرافيا باعتبار فلسطين أرضاً عربية محتلة سوف تتحرر لا محال.

لا أملَ لكم عندنا، لا هواء(*)
لا ماءَ ليجري في عروقكم، لا دماء
لا أرض لكم هنا، لا بحر، لا فضاء.
لا بيتَ لكم عندنا
لا ربَّ، لا أنبياء.
لا كتباً عتيقة،
لا ذاكرةً، لا ذكريات،
لا حجرَ لتكتبوا أسماء موتاكم،
أو لتنقشوا تواريخ حروبكم.
لكم صقيعُ المعدن، ولنا نسيمُ البلاد،
لكم هديرُ الخوفِ، ولنا حداء الأمهات.
عودوا حيث جئتم،
لا ليلَ لأحلامنا معاً،
لا شمسَ لنهارَين معاً.
لا أمس لكم هنا،
ولا غدَ أكيداً…
———-
(*) مقتطف من قصيدتي “كيف نجوت”.

المصدر: صحيفة أثير

كلمات دلالية: الاحتلال الإسرائیلی

إقرأ أيضاً:

إبراهيم شقلاوي يكتب: عودة مهندس ازاحة البشير

12 مايو 2025، حطّت طائرة خاصة بمطار بورتسودان تقل الفريق أول صلاح عبد الله قوش، المدير الأسبق لجهاز الأمن والمخابرات السوداني، ذلك بحسب “تقارير صحفية محلية”. قد يبدو هذا الحدث تحرك فردي، لكن القراءة المتعمقة للأحداث في مجملها تُظهر أن الزيارة ليست خارج سياق التحولات الكبرى التي يعيشها السودان، بل تتناغم مع لحظة انتقال مهم في الدولة السودانية، تتشكّل فيها ملامح ما بعد الحرب، وتُرسم فيها خرائط مراكز القوى من جديد.

سواء كان عودته وشيكة أم لا تزال طيّ الكتمان، فإن اسمه لا يغيب عن أحاديث الكواليس ومراكز التأثير. فالرجل الذي يُنظر إليه كالعقل المدبّر لإزاحة البشير في 2019، لم يكن يومًا على هامش العملية السياسية أو الأمنية في البلاد. في هذا المقال نطرح السؤال حول احتمال عودته إلى المشهد، كمفتاح لفهم ما يجري خلف الكواليس من إعادة ترتيب للسلطة وتحالفاتها في لحظة مفصلية من تاريخ البلاد.

قوش الذي يُعد أحد أبرز مهندسي المنظومة الأمنية خلال فترة الرئيس البشير، شغل منصب مدير جهاز الأمن والمخابرات الوطني مرتين، وعُرف بقدراته في إدارة الملفات المعقدة داخلياً وخارجياً، وهو ما أكسبه سمعة كرجل الظل، وأثار حوله جدلاً دائماً بين خصومه ومؤيديه.

يأتي وصول قوش قبل اسبوع من تعيين الدكتور كامل إدريس رسميًا رئيسًا للوزراء “19 مايو 2025، وكالة سونا” وهو حدث يُمثّل انتقالاً سياسيًا ضمن مرحلة ترتيب ما بعد الحرب. لا يُمكن فصل الزيارة عن هذه اللحظة، التي تُمثّل بداية تشكّل السلطة الجديدة، سلطة ما بعد الانقسام، ما بعد التمرد وما بعد الإنتصار.

رغم تقدمه في العمر “68 عامًا” ومعاناته من بعض الأمراض ، لا تزال احتمالية عودة الرجل إلى العمل السياسي أو الأمني قائمة، خاصة في أدوار استشارية أو قيادية لا تتطلب جهداً ميدانياً مباشراً. خبرته في أجهزة المخابرات، وعلاقاته الإقليمية خصوصاً مع مصر والإمارات، ودوره السابق في التنسيق الأمني، تمنحه قدرة على التأثير إذا ما اختير للعودة. كما أن صلاته الدولية، مع دوائر غربية، قد تُوظف لدعم ترتيبات انتقالية أو تحالفات استراتيجية، ما يجعله رقماً صعباً في معادلات السياسة السودانية الراهنة، خاصة في ظل فراغات أمنية وسياسية متزايدة.

كذلك الضغوط الدولية، وعلى رأسها القرار الأمريكي بفرض عقوبات على السودان بزعم استخدام أسلحة كيميائية. وقد اعتبرت الحكومة السودانية هذه الاتهامات محض افتراء، ووصفها بعض المحللين بأنها جزء من خطة مدروسة تهدف إلى تقويض موقف الجيش السوداني والضغط عليه لتقديم تنازلات في مفاوضات محتملة. ووصفوا القرار بانه ثمرة تنسيق أمني بين واشنطن وأبوظبي.

في منطق الأحداث الكلي، لا يظهر اللاعبون المحوريون إلا في المنعطفات، وعادة ما يسبقون التحول بخطوة، لذلك زيارة قوش جاءت قبل إعلان الجيش السوداني السيطرة الكاملة على ولاية الخرطوم، عقب استرداد منطقة الصالحة من مليشيا الدعم السريع 20 مايو 2025 الحدث الذي تتغيرت به المعادلات تمامآ تجاه الحرب. ففي تلك العملية، حصل الجيش على طائرات مسيرة وأنظمة تشويش متقدمة بحسب خالد الاعيسر الناطق باسم الحكومة ، وهو ما كشف دعمًا خارجيًا غير عادي للمليشيا.

وفي ذات السياق، جاءت العملية النوعية في الفاشر، حيث تمكنت وحدات الحرب الإلكترونية التابعة للجيش من إسقاط طائرة مسيرة متقدمة، يعتقد أنها كانت في مهمة سرية لنقل ذخائر ومعدات تقنية. نجاح الجيش في الاستيلاء على محتوى الطائرة دون تدميرها، وفك تشفير المعلومات التي تحملها، شكل اختراقاً استخباراتياً كبيراً، أتاح فهماً أعمق لتحركات المليشيا وشبكات دعمها اللوجستي.

كل هذه التطورات ترسم مشهداً جديداً للحرب: الدولة تحاول تثبيت أركانها وسط ضغوط خارجية. في هذا السياق، تبرز زيارة صلاح قوش، كتحرك محوري قد يشير إلى احتمال انخراط مرتقب لقوش في ترتيبات المرحلة الانتقالية أو ما بعد الحرب، إما بصفته مستشاراً أمنياً أو فاعلاً خلف الكواليس.

في هذا السياق، لا يمكن فصل عودة قوش بخبرته الطويلة في الاستخبارات والعلاقات الدولية عن احتدام الصراع الاستخباراتي. فالرجل، الذي نسّق سابقًا مع أجهزة عالمية مثل الـCIA في ملف مكافحة الإرهاب “نيويورك تايمز، 2008″ ، ربما ظهوره متعلق بصفقة تسعي لها بعض الأطراف. وهكذا دائما يكون ظهور قادة المخابرات عندما تكون الدولة في تقاطع بين الداخل والخارج.

أما في السياق السياسي كما نعلم الساحة السياسية السودانية تُعيد ترتيب أوراقها: شخصيات قديمة تعود، وكتل تتراجع، وتحالفات جديدة تُبنى. في هذا السياق، تظهر عودة قوش كـ”إشارة مفتاحية” إلى تحولات قادمة في طبيعة الدولة بكل مكوناتها العميقة والتي تتشكل وفقا لما ذكرنا سابقًا خصوصًا في أجهزتها الأمنية.

من خلال منطق سنن التاريخ وفقا لعماد الدين خليل، حين نقرأ الأحداث في سلسلة مترابطة، نجد أن لحظة 15 أبريل 2023 كانت ثمرة لتراكمات ومقدمات تحالفت فيها قوى داخلية وخارجية لفرض مشروعها العابر للحدود، هذه القوى منها” قحت” بتحالفها القديم والرباعية الدولية و الدعم السريع خططوا مجتمعين لإختطاف البلاد عبر ترتيبات ميدانية مثل اقتحام مطار مروي “13 أبريل 2023” والاجتماعات الليلية السرية داخل الخرطوم كما أوردتها “الجزيرة مباشر”.

إذن فإن ما يجري اليوم هو نتيجة لترتيبات معقّدة من عوامل داخلية وخارجية، تتفاعل الآن في سياق ما بعد الحرب، فالمشهد السوداني في مآله الآن يتجه نحو مركزية جديدة للسلطة، بعد أن تحطمت المشاريع الانفصالية. في منطق القرآن الكلي الذي يعلي قيمة السنن، نعلم أن الباطل قد يعلو حينًا لكنه لا يستقر. وعندما تبدأ الدولة في استعادة وظائفها الطبيعية: الجيش يحكم الجغرافيا، الحكومة تُعلن، والقانون يُطبق تكون لحظة الحقيقة قد اقتربت.. وكل من شارك في تلك المقدمات يحاول الآن استعادة مواقعه بما في ذلك قوش.

هذا وبحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة فإننا إذا قرأنا الخبر وفق منهج التفسير الكلي للأحداث، نجد أن زيارة صلاح قوش ليست خبرًا عابرًا، بل هو جزء من لوحة شاملة تتحرك فيها الدولة السودانية نحو ما بعد الحرب. منطق الأحداث، وترابط الأسباب، وسياق الزمان والمكان، كلها تشير إلى أن البلاد تدخل في مرحلة “تسوية القوة”، حيث تعود الرموز القديمة، وتُصنع معادلات جديدة. وما قوش إلا شاهدٌ عصر على مرحلة قد طويت وأخرى قد بدأت.
دمتم بخير وعافية.

إبراهيم شقلاوي
الثلاثاء 27 مايو2025م Shglawi55@gmail.com

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • مصر تدين قرار الاحتلال الإسرائيلي بالموافقة على إنشاء ٢٢ مستوطنة جديدة في الضفة الغربية المحتلة
  • الكتابة في زمن الحرب.. هكذا يقاوم مبدعو غزة الموت والجوع
  • اليوم الـ 600 من العدوان الإسرائيلي.. نداء دولي عاجل لوقف جرائم الحرب والإبادة الجماعية في غزة
  • ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في القصف الإسرائيلي على قطاع غزة إلى 64 شهيدًا
  • قائد الثورة: العدوان الإسرائيلي على مطار صنعاء لن يؤثر على موقف اليمن في نصرة الشعب الفلسطيني
  • السيد القائد: كلما استمر العدو الإسرائيلي في إجرامه ضد الشعب الفلسطيني فالمسؤولية على الأمة الإسلامية أكبر
  • إبراهيم شقلاوي يكتب: عودة مهندس ازاحة البشير
  • قوّات الاحتلال الإسرائيلي تعتقل 11 فلسطينيًا وتقوم بعمليات هدم وتخريب واسعة بالضفة الغربية
  • ماكرون: فرنسا تؤيد حل الدولتين لإنهاء الصراع الإسرائيلي الفلسطيني
  • شيخ الأزهر: قضية فلسطين أولوية يجب ألّا تغيب عن الخطاب الإعلامي العربي