لجريدة عمان:
2025-12-12@20:57:34 GMT

مصايرُ الشعوب مَزْلقُ الساسة

تاريخ النشر: 26th, November 2023 GMT

يحاول المرء النأي بنفسه عن كل متعلقات السياسة ومعطياتها، وما ذلك إلا لكونه غير معني بها أصلا ومُكتَفٍ بما يشغله من واقعه اليومي ومسؤولياته الاجتماعية، أو لإدراكه المعرفي التراكمي بأن النأي عنها أسلم لعقله، وأصلح لتحقق سلامه النفسي من كل ما تحتويه السياسة من متناقضات وصراعات وقسوة، لكن هل يمكننا النجاة من السياسة حقا؟ أما زال المسرح السياسي حلبة للمتنافسين على النفوذ والسلطة كما يعرفها «هانز مورغنتاو» في كتابه «السياسة بين الأمم» قائلا: «السياسة صراع من أجل القوة والسيطرة».

حقيقة يودُّ أحدنا لو أنه أدرك ذلك السلام العظيم المبتغى ونأى بنفسه عن ذلك الصراع وتلك الحلبة، لكن الواقع الحالي يحيلنا إلى حقيقة يصعب نكرانها تماما كما يصعب تبنيها ألا وهي أن السياسة أصبحت بتوأمتها وعالمَ الأعمال المحرك الرئيس لكل ما نعيش وما نعاني أو حتى ما نأمل، وليس الارتباط بينهما (أعني السياسة والأعمال) وليد الحاضر، بل هو قديم جدا، وهو ما يقتضيه المنطق إن أصبحت السياسة صراعا لأجل النفوذ والسلطة فإن الأعمال والمال طريق الوصول لتلك الغاية بتضمنها أقوى المؤثرات المادية للوصول إلى ذلك الهدف، لا سيما في قدرة آلة المال على تهميش وإقصاء كل وعي أو إدراك لنظريات أخلاقيات العمل السياسي التي تلوكُها المنظمات القانونية لأكثر من عقدين من الزمن، أو أسس التنافس النزيه في عالم الأعمال.

وما هذه المقالة إلا عبور على تساؤلات ذهنية حول السياسة ومبررات تعاطيها، ثم من يملك الحق في ذلك التعاطي، خصوصا إن لم يسعَ بشخصه لأي نفوذ أو سلطة، فهل نملك نحن الحق في ذلك التعاطي؟ ثم من نحن؟ المواطن العادي المشغول بصراعاته الواقعية مع المعيشة والحياة، أم الكاتب المسؤول عن تحريك وعي الشعوب، أم الأكاديمي المفترض مشاركته في وضع وتأسيس وتنمية وعي الشعوب وتغيير مسارات الساسة لصالح الإنسان وتنمية البلدان؟ أم المهنيون المختصون من أطباء ومهندسين واقتصاديين وموظفي قطاعات حكومية أو مؤسسات خاصة بحرفهم المختلفة ومعارفهم المتنوعة، وهم طبقة لا يمكن إلا أن يعول عليها في تأسيس وتنمية الوعي كما يعول عليها في بناء الدول؟

نتصل مجددا بالسياسة ومعطياتها في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات مع ما نعيش من قضية قديمة معاصرة وصراع طويل مستمر، لا مع دولة احتلال وحسب بل مع نفوذ استعماري مهما تلوّن، وسلطة اقتصادية مهما تقنّعت، ومن بغيتنا للوصول إلى جواب نتساءل أيضا: هل تغير مشهد صراع الساسة المتنفذين (ماليا) على حلبة تقوم على جثث القتلى من الشعوب المنكوبة، وقوت الناس اليومي، ومصاير الدول الأضعف اقتصاديا أو عسكريا؟ وهل هذّبت كل المنظمات العالمية حقوقيا وإنسانيا - تلك التي تدعي أخلاقيات عليا ومواثيق إنسانية وعمل متصل دون كلل أو ملل مع كل ما تستنزف من أموال وجهود- من وحشية صراع السلطة والنفوذ، هل استطاعت بكل عدتها وعتادها حماية الإنسان حيثما كان مما ظنناه أبعد من أن يكون محل نقاش بين أروقتها اليوم بعد قرون من السعي لذلك وهو العنصريات المدمرة، والتصفيات العرقية، وسحق الشعوب بأكملها بعيدا عن تصفية الأفراد منافسين أو معارضين هنا وهناك بطرق مقنّعة، وعمليات استخباراتية عليا يمكنها النجاة متى ما صنعت الغطاء المناسب لجرائمها ومخالفاتها.

صارت الجريمة أكبر من أن تخفى، والوعي أوسع من أن يتم تشتيته حين أفْسدَ الإعلامُ الرقميّ (صنعوه ليكون أداة لهم لينقلب سحرهم على ساحره) ما بني في غرف المفاوضات المادية، وتبادل المصالح طويلة المدى، كل ما أسس على افتراضين رئيسين؛ تسطيح الوعي الشعبي العالمي بجملة من القضايا كالانتصار للمثلية، أو الوعيد من معاداة السامية، تحت مظلة الحرية وحمايتها معتقدا وسلوكا، ثم افتراض السيطرة على آلة الإعلام لترويج ما يخدم المتفق عليه من مصالح الشركاء.

ومع تهاوي هذين الافتراضين في صدمة دول العالم بما قدم لهم من مصادر متاحة للوصول للحقيقة جعلت كل هذه الشعوب المتعطشة لتبني قضية ذات قيمة تجعل من فلسطين قضيتها، وتتوحد الآراء لنصرة الإنسان على حساب المصالح القائمة على ترويج القتل وتسويق التسليح، خصوصا مع تحديات الواقع الاقتصادي التي قلصت حجم خسارة الأفراد وعظمت حجم خسارات المؤسسات والشركات، ولكن هذا التصادم وهذا الوعي أسلمنا لحقيقة أخرى أن ادعاءات الموضوعية وحرية التعبير ما هي إلا علك وخدعة يراد بهما إسكات الأضعف اقتصاديا، يدلنا على ذلك ما أثبت من إخراس للكثير من الأصوات حتى تحت قباب أعرق الدول الأوروبية تنظيرا لحقوق الإنسان وحرية التعبير، وليس ذلك فحسب، إذ أن كتم الأصوات وعقاب الناطق لم يقف عند أولئك المواطنين العاديين أو الكتاب في الصحف المهمشة، بل تجاوز كل ذلك ليشمل البرلمانيين في المجالس العالمية، والكتاب في صحف عالمية، والأكاديميين في جامعات غربية طالما تباهت بسقف الحرية وحماية حق التعبير عن الرأي، بل إنها تجاوزت كل ذلك لتنسحب حتى على القلة الذين ظننا أنهم بما يملكون من ثروة سيملكون رأيهم الحق غير المنحاز لطرف ما طمعا في نيل مال أو نفوذ لما بلغوا من سقف الثروات ونفوذ المال، إلا أن ساقية المال والنفوذ جرفتهم كذلك إما طمعا في الآتي أو حرصا على الحاضر، وهو ما صرّح به بعض الرافضين الذين اختاروا الانتصار لمنصة الحقيقة كما فعل إيلون ماسك مؤكدا عدم اهتمامه بخسارته من المال أو السلطة في تصريحه مؤخرا.

متى يملك الإنسان رأيه في هذا العالم المادي إن لم يملكه مع تعميق وعيه وبناء مداركه؟ أو حتى مع بناء ثروة يعتقد معها أنه ضمن أمان رأيه وفضاء كلماته كأقل حق ممكن؟ ثم هل يمكن أن نبحث بعد كل هذا الواقع عن نزاهة السياسة وأخلاقياتها بعيدا عن تساؤل مصطفى صادق الرافعي الذي لم يعش ربع ما نعيشه حين قال: « أيستطيع الرجل أن يكون سياسيا إلا إذا كان كاذبا في أقواله وأفعاله؟ يبطن خلاف ما يظهر، ويظهر خلاف ما يبطن، ويبتسم في موطن البكاء، ويبكي في موطن الابتسام؟» أم يجدر بنا تبنيها معه حتى مع النادر من أمثلة النزاهة في هذا العالم الاستهلاكي المرعب، لنعود في ختام هذه المقالة مع هروب محمد عبده في كتابه «الإسلام والنصرانية والعلم والمدنية» في تطيره وتعوّذه حتى من مشتقات الكلمة وتجلياتها: « إن السياسة تضطهد الفكر والدين.. أعوذ بالله من السياسة ومن معنى السياسة، ومن كل حرف يلفظ من كلمة سياسة، ومن كل خيال يخطر ببالي من السياسة، ومن كل أرض تذكر فيها السياسة، ومن ساس ويسوس، وسائس ومسوس».

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

السيسي يستقبل حفتر.. حين تُعيد الجغرافيا تشكيل السياسة وتختبر القاهرة بوصلتها في الغرب

في مساء شتوي بارد من ديسمبر 2025، كانت القاهرة تشبه مدينة تستعد لقراءة فصل جديد من خرائط الإقليم. لم يكن استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي للمشير خليفة حفتر في قصر الاتحادية مجرد لقاء عابر على صفحات البروتوكول، بل كان أشبه بفتح غرفة الخرائط على مصراعيها، حيث تتقاطع خطوط الحدود مع مصالح الأمن القومي، وتتجاور حسابات البحر مع حسابات الصحراء. لحظة تحمل رائحة السياسة الثقيلة، وتقول إن الجغرافيا ما زالت أقوى من كل خطابات النوايا.

القاهرة، التي تعتبر ليبيا امتدادًا مباشرًا لنَفَسها الغربي، كانت ترسل رسالة لا تحتاج إلى دبلوماسية: لا فراغ استراتيجي عند حدود مصر، ولا سماح بتحويل ليبيا إلى ساحة مفتوحة للمرتزقة وألعاب القوى الإقليمية. البيان الرسمي، وإن جاء هادئًا، أعاد التأكيد على وحدة ليبيا وخروج القوى الأجنبية وضرورة الذهاب إلى انتخابات شاملة، لكنه أخفى بين السطور ملامح رؤية مصرية أكثر حسمًا: حماية مصالحها، منع تهديد حدودها، وتحصين المتوسط من أي محاولة لإعادة رسم خرائطه دون حضور القاهرة.

في عمق المشهد، بدا اللقاء كأنه تثبيت لوزن شرق ليبيا في معادلات المرحلة المقبلة، وتعزيز لقدرة هذا التيار على الإمساك بخيوط التفاوض. لكنه في الوقت ذاته كشف إدراكًا مصريًا بأن القوة بلا سياسة تتحول إلى عبء، وأن ليبيا لا تحتاج طرفًا ينتصر بل دولة تستعيد تماسكها. فكل فراغ هناك يعني فوضى هنا، وكل انزلاق في الشرق أو الغرب ينعكس على القاهرة مباشرة، سواء عبر الحدود الرملية أو عبر البحر المتوسط.

أما ملف الهجرة غير الشرعية فكان حاضرًا كظل لا يفارق الساحل الليبي، أي استقرار في الشرق سيحد من قدرة شبكات التهريب، ويمنح مصر مساحة أوضح لملاحقة خطوط التسلل، بينما أي انفجار سياسي سيحوّل البحر إلى ممر مفتوح للهاربين والفوضى معًا.

لذا بدا واضحًا أن ضبط الحدود البحرية والبرية لم يعد مسألة أمنية فقط، بل جزءًا من سياج استراتيجي يحمي الداخل المصري من ارتدادات الفوضى الليبية.

ومع ذلك، كان على القاهرة أن تتحرك بوعي تجاه مفارقات المشهد: ألا تتحول ليبيا إلى رقعة صراع بين محاور خارجية، وألا يُبنى النفوذ المصري على تحالف أحادي يُهمل المكونات الليبية الأخرى، وألا تجرّها معارك المتوسط إلى مواجهات جانبية مع لاعبين إقليميين يبحثون عن موطئ قدم في شرق البحر.

في المجموع، بدا استقبال السيسي لحفتر إعلانًا بأن مصر عادت لاعبًا مباشرًا في رسم مستقبل غربها، لا مراقبًا يتحسّس النتائج. لكنه إعلان يحمّل القاهرة مسؤولية شاقة: تثبيت الحدود، ضبط المتوسط، متابعة الداخل الليبي، ومراقبة ما يجري في السودان الممتد أثره حتى طرابلس وطبرق في آن واحد.

ولكي تحتفظ هذه الخطوة بزخمها، يصبح من الضروري التوازن بين ثلاثة مسارات:

ربط الدعم العسكري بمسار سياسي واضح يضمن انتخابات شاملة.

تشديد الرقابة على الحدود والبحر لوقف شبكات التهريب والهجرة.

تفعيل دبلوماسية إقليمية متوازنة تمنع الاشتعال في شرق المتوسط وتُبقي ليبيا خارج دوائر الحروب بالوكالة.

البعد الاستخباراتي، ما وراء الصور والتصريحات.

قد يبدو اللقاء سياسيًا في ظاهره، لكنه في عمقه يحمل إشارات استخباراتية واضحة:القاهرة تُعيد بناء شبكة تنسيق ميداني مع شرق ليبيا تشمل مراقبة الحدود، تبادل معلومات عن الميليشيات والمقاتلين الأجانب، ومسارات تهريب السلاح والبشر.

هناك اهتمام مصري برسم “خريطة مصادر التهديد” داخل ليبيا، من مواقع المرتزقة إلى ممرات الصحراء وصولًا إلى الموانئ التي يمكن أن تتحول إلى نقاط انطلاق للهجرة غير الشرعية.

المعلومات المتداولة تشير إلى رغبة مصر في امتلاك صورة كاملة عن التحركات الإقليمية في ليبيا: التمويل، السلاح، القيادات الجديدة، وتغيّر الولاءات القبلية.

كما تسعى القاهرة إلى ضمان ألا يتحول الساحل الليبي الشرقي إلى نقطة نفوذ لقوى قد تغيّر موازين المتوسط، سواء في الطاقة أو الحدود البحرية أو قواعد النفوذ العسكري.

إنها قراءة استخباراتية تقول إن ليبيا ليست مجرد جار، بل لوحة أمنية مفتوحة، وأي ضباب عليها يعني ظلامًا على حدود مصر.

(محمد سعد عبد اللطيف «كاتب وباحث في الجيوسياسية والصراعات الدولية»).

اقرأ أيضاًمحامٍ لدى «الجنائية الدولية»: قائد الجنجويد الأسبق علي كوشيب ارتكب جرائم وفظائع في السودان

خالد الترجمان: الخطوط الحمراء المصرية بين سرت والجفرة منعت التوغّل نحو الحقول والموانئ النفطية

مقالات مشابهة

  • حجرُ الأحزاب في بركة السياسة
  • التعليم العالي إطلاق السياسة الوطنية للابتكار المستدام لجعل مصر مركزًا إقليميًا للابتكار
  • تطبيقات جديدة تحوّل الحروب إلى سلع.. ومصير الشعوب إلى مقامرة رقمية
  • بين السياسة والدهاء.. أسرار علي ماهر باشا في إدارة مصر
  • عبدالفتاح باشا يحيى إبراهيم.. بين السياسة والوفاء لمصر
  • كواليس مثيرة| كيف يتم تقسيم سوريا وفق خرائط دولية؟
  • بعد عقد من التأجيل..فيتو السياسة والطائفة يهدد ملف تفرغ الجامعة اللبنانية!
  • قصة الثعلب والديك في السياسة!
  • غزّة.. بين مطر الشتاء ووعد السماء
  • السيسي يستقبل حفتر.. حين تُعيد الجغرافيا تشكيل السياسة وتختبر القاهرة بوصلتها في الغرب