مرفأ قراءة... محمد صابر عرب المؤرخ الرصين

(1)

تأخر تعرفي المعرفي والتاريخي على مدونة أعمال المؤرخ والأكاديمي الرصين القدير الدكتور محمد صابر عرب سنوات طويلة، فلم أكن أعرف قبل توليه مناصبه الرسمية الكبرى ما قدم من إنجازات تأليفية مهمة على صعيد التاريخ المصري الحديث أو تاريخ بعض بلدان الخليج العربية وخاصة عمان والإمارات (يشغل الدكتور صابر عرب كرسي الأستاذية تخصص تاريخ العرب الحديث بجامعة الأزهر).

تولى الدكتور صابر عرب مسؤولية دار الكتب والوثائق القومية المصرية في يناير من العام 2005 عقب فترة شهدت عدم استقرار في تولي مسؤولية الدار، فخلال ما يقرب من 10 أعوام (1996-2005) تقريبًا، تعاقب على رئاسة دار الكتب 5 مسؤولين، وكلهم من أعلام الفكر والثقافة في مصر، لكن قِصر المدة واختلاف الرؤى والأفكار جعلت من الصعب أن تكون هناك إنجازات كلية شاملة وممتدة على المدى البعيد.

ولعل هذه الفكرة، فكرة الاستقرار والثبات في الرؤى والتوجهات والسير بخطى واثقة تجاه تحقيق هذه الرؤى على أرض الواقع، كان عاملًا أساسيًا من عوامل نجاح وبروز الدكتور صابر عرب خلال السنوات الخمس التي تولى فيها المسؤولية وهو ما كان له أكبر الأثر في إعطاء دار الكتب والوثائق القومية دفعة ووثبة كبيرة ظهر أثرها جليا واتضحت ملامحها عقب توليه مسؤولية الدار، وظهرت بشكل جلي في الإنجازات والتجديدات التي طالت دار الكتب والوثائق القومية، وأعادت إليها شبابها وبهاءها المفقود.

كانت هذه التجارب الناجحة في الإدارة الثقافية هي الدافع الأبرز لتوليه مهام وزارة الثقافة المصرية في أربع حكومات مختلفة عقب2011، وكان فيها كلها مثالا للمسؤول المدرك لحجم التحديات وتوتر المشهد في ظرف تاريخي دقيق وعصيب مرت به مصر بل العالم العربي كله من المحيط إلى الخليج.

كانت المسؤوليات الثقافية الكبرى هي النافذة الأولى التي تعرفت من خلالها على المسؤول الثقافي البارز، والمتحدث اللبق، والمثقف الأزهري المستنير، الذي يملك رؤية نهضوية عارفة وشاملة وقارئة لمجريات التاريخ المصري والعربي في العصر الحديث.

(2)

كانت هذه مجرد إطلالة سريعة، كلية، وانطباعًا عامًا مباشرًا، كان حاكمُها علاقة العمل الصحفي، والمتابعة الصحفية والقراءة العامة، لكنني أزعم أنه خلال السنوات الخمس الماضية، توثقت الصلة المعرفية والإنسانية المباشرة بيني وبين الدكتور صابر عرب، من خلال اللقاء المباشر عدّة مرات، التقينا خلالها في مناسبات ثقافية مختلفة، أو من خلال القراءة المتبادلة؛ بمعنى أنني عاودتُ قراءة أعمال المؤرخ والأكاديمي صابر عرب، ليس للتعرف عليه هذه المرة، إنما للتعلم منه والإفادة مما قدمه، فكريا وثقافيا وتاريخيا، ضمن انشغالاتي بقراءة تاريخ مصر الثقافي، في المائتي سنة الأخيرة.

فيما أسعدني هو وشرفني بمتابعته الدقيقة لكل ما أكتب تقريبًا على صفحات جريدة (الشروق) أو جريدة (الاتحاد) الإماراتية أو مجلة (أكتوبر)، أو هنا في مساحتي الأحب والأرحب في (مرفأ قراءة)، ودائما ما أجد منه لفتاتٍ تشجيعية غاية في الرقة والذكاء و"اللماحية"؛ لأنها لا تصدر إلا عن شخص يقرأ بوعي وتركيز ودقة.

لن يتسع المقام هنا لعرض قراءة تحليلية مستفيضة لكل ما كتب الدكتور صابر فهذا يفيض عن غاية هذه المساحة؛ لكني سأكتفي فقط بمجرد إيراد نماذج وأمثلة على بعض اختياراته الدالة في الكتابة التاريخية، وهي تُفصح فيما تفصح، عن همّ ثقافي وطني وقومي شامل، كما تبين هذه الاختيارات عن وعي مستنير واع مدرك لحاجات اللحظة الراهنة وضرورة مواجهة مشكلاتنا المزمنة بشجاعة وإرادة متحدية.

وقد كانتِ المقالاتُ التي نشرها متفرقة، ثم جمعها فصولًا مترابطة في كتابه «قضايا لها تاريخ»، إحياء لتقليد كاد أن يندثر أو هو بالفعل في عدادِ المندثر، أقصد نشر المقالات التثقيفية الواعية المدركة لحاجاتنا المعرفية والفكرية والثقافية الراهنة كل في مجاله؛ فيكتب المؤرخ بوعيه ومادته ومنهجيته، يخاطب قارئه العام المباشر عبر قضايا منتقاة ولغة سهلة بسيطة بعيدة عن التقعر، والإغراق في الغموض والالتواء، لغة تمكن منها صاحبها ثقافة وإجادة وكتابة للدرجة التي يستطيع أن يعبر بها ويفصح عنها من غير عسر ولا التواء ولا تعقيد (وبالمناسبة الدكتور صابر عرب من المثقفين الكبار المهمومين بقضايا لغتنا العربية ومشكلاتها المعاصرة في ظل التحديات الرهيبة التي تواجهها على كل الأصعدة؛ ولكن هذا حديث آخر ليست هذه مناسبته).

في كتابه «قضايا تاريخية» (الصادر عن الدار المصرية اللبنانية) لفتني بشدة بعضُ المقالات التي كتبها الدكتور صابر عرب عن شخصياتٍ نهضوية أو أكاديمية في تاريخنا الثقافي المعاصر، أو عن كتبٍ ذات قيمة تاريخية معتبرة أو إشارات لماحة وذكية إلى أحداث مفصلية في تاريخنا المعاصر، وكما يقولون فإن اختيار المرء قطعة من عقله،

وبالتأكيد كان اختيارُ شخصياتٍ بعينها للكتابة عنها مثل "ابن عربي"، أو "إسرائيل وليفنسون"، أو "حسن توفيق العدل"، يحمل دلالاته الآنية والراهنة. أو استدعاء كتبٍ مثّلت قيمة فكرية ونهضوية في لحظة تاريخية مفصلية فيتصدى الدكتور صابر عرب للتقديم بين يدي طبعاتها الجديدة، وإضاءة محتواها المعرفي والدافع الفكري والذاتي لاستدعائها كما لو كان يوجه رسائل مشفرة تحمل مفاتيح فكها وحلها وقراءتها بين ثنايا السطور!

في ضوء هذا الإطار العام يمكن فهم واستيعاب الغاية من استدعاء كتب مثل: «حرية الفكر في الإسلام»، أو «المجددون في الإسلام» للشيخ عبد المتعال الصعيدي، أو كتاب «الأمير أحمد فؤاد ونشأة الجامعة المصرية» لأحمد عبد الفتاح بدير، أو كتاب محمد روحي الخالدي (الانقلاب العثماني وتركيا الفتاة)، ومثله كتاب «رحلة حسن أفندي توفيق العدل»... إلخ.

(3)

ليس هذا محض استعراض لعناوين كتب، كيفما اتفق، أبدًا، الأمر يتجاوز هذا بكثير، يحكمه هم ثقافي ونهضوي، ورغبة عارمة في بعث القيم الإيجابية في تراثنا القريب، قيم التفكير والعقلانية، والاستنارة، والرغبة في التحرر من إسار التقليد والجمود.. هذه النزعة الطموح تظهر بجلاء في كل حرف كتبه الدكتور صابر عرب في هذه المقالات أو الفصول، ستجد من بين العناوين: "التاريخ والمستقبل"، "المسكوت عنه في تاريخنا"، "الخروج من التاريخ"، "الهوية والتقدم"، "العرب وتحديات المستقبل"، "عصر من التسامح"، "عن الاستبداد".. إلخ.

وهي كلها تشي برغبة عارمة في مقاربة مفاتيح التقدم والبحث عن المستقبل، إن قراءة التاريخ وفهم الحاضر هي كلها لوازم البحث عن المستقبل والإعداد له والتحضير لتخطي أبوابه واجتياز عتباته.

ظللتُ فترة طويلة أفتقد كتابة جريئة ونزيهة عن شخصية أكاديمية مؤثرة هي شخصية "إسرائيل وليفنسون" الذي حصل على درجتي الماجستير والدكتوراة من الجامعة المصرية بإشراف طه حسين، ولقد طبعت الرسالتان في كتابين مرجعيين مهمين كان أشهرهما «تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام» الذي صدر عن لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1927، ثم صدر له كتابان آخران مهمان هما «تاريخ اللغات السامية» الذي صدر عن اللجنة نفسها عام 1929، ثم كتاب «موسى بن ميمون» الذي أصدرت دار الجديد اللبنانية طبعة مصورة منه ضمن سلسلتها (طبق الأصل).

عن هذه الشخصية، كتب الدكتور صابر مقالًا رائعًا بعنوان «من ذاكرة الثقافة المصرية.. إسرائيل ولفنسون»، وللأمانة والتاريخ، فقد كانت سعادتي وإعجابي بهذا المقال كبيرة جدا للدرجة التي جعلتني أبحث عن كتب الرجل المتاحة وأقرأها وأقرأ عنها، وكأن الدكتور صابر عرب نجح تمامًا في تفعيل القيمة التي من أجلها كتب المقال، ومن أجلها ناقش طه حسين إسرائيل ولفنسون، ومن أجلها نشرت لجنة التأليف والترجمة والنشر إنتاج هذا الباحث اليهودي.

أقصد قيمة إعلاء المعرفة، واحترام الآخر واحترام الاختلاف معه، ومناقشة الحجج بالحجج، والرأي بالرأي، والدليل بالدليل، قيمة احترام العقل والعلم والبحث العلمي الحر النزيه، في وقتٍ كانت الجامعة المصرية تناقش طالبًا يهوديًا بإشراف أستاذ بقيمة طه حسين، وشيخ أزهري مستنير بقيمة عبد الوهاب النجار، ثم يطبع هذا الكتاب ويتداول في الأوساط المصرية، بل يُحتفى به وبالنقاش العلمي مع ما يطرحه من فرضيات ونتائج!

لعلني اجتهدتُ في كشف القيمة التي آمن بها الدكتور صابر عرب، وأومن بها معه، ولعلها هي القيمة الكبرى التي نكافح ونناضل جميعًا من أجلها الآن؛ من أجل الحاضر والمستقبل.

إيهاب الملاح.. كاتب وناقد مصري، وباحث في التراث الثقافي.

المصدر: لجريدة عمان