الحيوان وعلوم الكهرباء.. علاقة معقدة عمادها الإيحاء والإلهام
تاريخ النشر: 25th, December 2023 GMT
قد يكون من البديهي القول إن التصاميم الهندسية للمركبات والطائرات تُستوحى تقنياً من أشكال الطيور والحيوانات، وإن شركات كبرى مثل إيرباص وبوينغ توظف تقنيات تحاكي الطبيعة في صناعتها لرؤوس وأجنحة وذيول الطائرات.
لكن من غريبِ القول أن ينطبق مثل ذلك على علوم الكهرباء والطاقة، فكيف يمكن أن تحاكي الطبيعة توليد الكهرباء، وما علاقة أجساد الحيوانات وسلوكياتها بعلوم صرفة يدخل فيها تعقيدات الفولتات والتيارات وغيرها، ومن أيّ طبيعة استلهم العلماء أفكارهم ومعلوماتهم؟
الحديث فيه تفصيل، وقبل البدء، نُعرّج على ثعبان البحر الكهربائي (أو مسدس الأمازون) أحد مخلوقات الله المعجزة، التي ألهمت الفيزيائي "أليكساندرو فولتا" لإنشاء أول بطارية تخزين في التاريخ، وبفضلها نملك اليوم البطاريات.
وعند تتمة الحديث عن إنتاج الكهرباء عند حيوانات المياه، فهناك فرس البحر وأبو سيف وأسماك القرش وعدد من ثعابين المياه؛ فالثعابين لديها قدرات كهربائية هائلة، إذ تمتلك خلايا كهربائية داخل أجسادها، وعند تشريحها تظهر في أعمدة مكدسة ومتوازية هي في الحقيقة خلايا معدلة إما من العضلات أو وصلات عصبية. الأمر لا يخلو من تعقيد، أعلم ذلك.
أما زملاء وزميلات ثعابين المياه مثل القرش؛ فإحدى علاقاته مع الكهرباء في إنتاج الأيونات. ولمزيد من التوضيح، فإنه في عملية التنفس تُنضح الإلكترونات من أفواه وخياشيم الأسماك، فالقرش مثلا لديه مستشعرات ومجسات هائلة يستطيع بها أن يدرك ما يدور في محيطه عبر استشعار الأيونات المنتَجة من الكائنات حوله، وبهذه الطريقة يصل إلى مبتغاه.
ليست الأجساد والتشريح هي الملهمة وحدها، فسلوكيات الحيوانات عبارة عن علوم غاية في الدقة ألهمت علماء الكهرباء، فحولوها بعد دراسات مستفيضة إلى خوارزميات (الخوارزمية: مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية والمتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما).
نعود إلى سلوك الحيوانات، ونبدأ بالأسماك، حيث حوّل العلماء سلوكها إلى خوارزميات استُخدمت في تحسين أنظمة الكهرباء بمختلف أجزائها ووظائفها. فهذا الحوت الأزرق على سبيل المثال الذي يغوص أسفل فريسته ويطلق موجات كثيفة من فقاعات الهواء تتشكل على شكل يشبه الشبكة؛ ففي سلوك الحوت فإن هذه الفقاعات تسهل الاصطياد وبالتالي وجبة أسهل وكمية أكبر من الأسماك.
أما عند الكهربائيين فإن ما يقوم به أمير البحر هذا علم من العلوم التي يمكن أن تُستثمر في أنظمة القدرة، وبالفعل صمموا خوارزميات تعمل على اكتشاف الأخطاء أو مستويات الفولتية أو القدرة في شبكات الطاقة، وعند حدوث خلل ما تتدخل الأنظمة مباشرة فيتم تقليل الأخطاء، وبالتالي تكون وجبة توليد الكهرباء هذه أكثر دقة وأقل خسائر، تماماً مثل الحوت الذي اصطاد فريسته بأسهل طريقة وأقل أخطاء.
وفي الحديث عن الخوارزميات التي استلهمها الكهربائيون من سلوكيات الحيوانات في تحسين أنظمة القدرة لديهم، تبرز عندنا خوارزمية الذئاب الرمادية، فهذه الذئاب لديها طريقة فريدة في اتخاذ القرارات، فلا قرار في الصيد دون الرجوع إلى التسلسل الهرمي للقيادة، هكذا يتصرف قطيع الذئاب الذي يقتضي تنفيذ صيده الالتزام بثلاث خطوات رئيسية: البحث عن فريسة، وتطويقها، ومن ثم مهاجمتها.. هذا النظام الهرمي المنطقي في معالجة المواقف استُلهم في حل قضايا عدة، فهو مفيد في بيئة من العوائق والأهداف غير المعروفة، وبالتالي يكون المنطق في معالجة السبب هو الأجدى باتخاذ قرارات صائبة.
كذلك الحال بالنسبة للحيوانات الأخرى، فهناك خوارزميات كثيرة مثل: خوارزمية خلايا النحل، خوارزمية الخفافيش، خوارزمية اليرقات، إضافة إلى خوارزميات كثيرة عن الأنواع المختلفة للطيور والافاعي والزواحف.
أما النمل فقصة أخرى، فهذا الحيوان "الصغير" لديه قدرات هائلة وعجيبة استلهمها العلماء في صناعة الربوتات؛ فبعد أن صمموا روبوتات تعمل على حصد الأعشاب الضارة في المزارع، واجهوا مشكلة أن تلك الروبوتات تصدم بالحشائش الكثيفة وبالتالي لا تستطيع إنجاز مهامها، وهنا جاء الإلهام من النمل القادر على التعلم من البيئة عبر نظام حسي وعصبي معقد، فصمم العلماء شبكة عصبية اصطناعية تحاكي أسلوب النمل وتسمح بتحليل الصور وتذكر الطرق المثلى للانتقال بين هذه البيئات المعقدة.
ولا تزال التجارب في هذه الحقول تتطور، فاستلهام مختلف العلوم من الطبيعة لم يتوقف ولن ينتهي، وهو من الإعجاز الموجود في أسرار الخلق، فتبارك الله أحسن الخالقين.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
علي جمعة: السيرة النبوية هي التطبيق العملي المعصوم للقرآن
أكد الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي الديار المصرية الأسبق، أن السيرة النبوية الشريفة تمثل مصدرًا مستقلًا عن الكتاب والسنة، وهي بمثابة التطبيق العملي المعصوم من النبي المعصوم ﷺ للقرآن الكريم، مشيرًا إلى أن المسلم المعاصر إذا أراد النجاة وسط أمواج الحياة المتلاطمة، فإن عليه أن يقرأ السيرة العطرة لا للتبرك فقط، بل لفهم الواقع وتعلم كيف يسبح فيه.
وقال عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف ومفتي الديار المصرية الأسبق، خلال بودكاست "مع نور الدين"، المذاع على قناة الناس، اليوم الخميس: "المعرفة شيء، وتطبيق المعرفة في الواقع شيء آخر، فالواقع معقد، متداخل، متطور أحيانًا ومتدهور أحيانًا أخرى، الواقع يشمل عالم الأشخاص، وعالم الأشياء، وعالم الأحداث، وعالم الأفكار، والسيرة النبوية تعطينا هذا البُعد العملي... كيف نتعامل مع كل ذلك، القرآن يعطينا المبادئ الكلية، أما السيرة فهي التي تعلّمنا كيف نتحرك بها على الأرض".
وأضاف أن السيرة النبوية ليست فقط تسجيلًا لأقوال وأفعال النبي ﷺ، كما تفعل السنة، بل هي نقل دقيق لعلاقاته المتنوعة مع غير المسلمين، وأهله، وأصحابه، وكيف كان في بيعه وشرائه، وجلوسه وسمته، حركته وسكونه، في الحرب والسلم، قائلاً:
"هي النموذج الكامل للبشرية، لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، والسيرة تكشف هذا النموذج في أبهى صوره".
وأوضح أن السيرة تقدم لنا علاقة النبي ﷺ مع عالم الأشياء، والأشخاص، والأفكار، والأحداث، وهو أمر لا تنقله السنة بالمعنى الضيق، بل تلتقطه السيرة بكل أبعاده الإنسانية والاجتماعية والكونية، لتجعلنا نعرف أين كان النبي، ومع من، وفي أي حال، وهي بذلك توازي أدوات أصول الفقه الأربعة: الزمان، المكان، الأشخاص، والأحوال.
وتابع الدكتور علي جمعة: "أدرك العلماء المسلمون أهمية السيرة، وأن هناك أمورًا تتعلق بما حول رسول الله وليست به ﷺ، فلا تدخل تحت مصطلح السنة، ولكنهم رأوا ضرورة تتبعها، من كان من أعمامه؟ من كان من أخواله؟ مع أنه ﷺ لم يكن له أخوال لأن السيدة آمنة كانت وحيدة لا أخ لها ولا أخت، ما شكل البيئة التي عاش فيها؟ من كان الحاكم في الحبشة آنذاك؟ ما كانت علاقته بالنجاشي؟ وما شكل الدولة وقتها؟".
وأردف: "السيرة النبوية علم شامل ينقل لنا الواقع الذي كان فيه رسول الله ﷺ، لتعلمنا كيف نتعامل مع أمواج الحياة، لا ونحن على البر، بل ونحن في البحر... كيف نتحرك لنطفو، لا لنغوص ولا نغرق. هذه هي السيرة، وهي مفتاح النجاة في الدنيا، ونبراس الهداية في الآخرة".
https://www.youtube.com/watch?v=mrjCFRLc888