اليوم 24:
2025-06-27@05:42:38 GMT

بين المثقف الكلاسيكي والمثقف الديجيتالي

تاريخ النشر: 27th, December 2023 GMT

في السابق كان المثقف ينتمي لبعض الهيئات والفئات المجتمعية : المهندسين والأطباء والمدرسين والباحثين والاقتصاديين والكتاب والفنانين  … كانت مسألة المثقف هي مسألة نخبوية. مع التحول الرقمي وهامش حرية التعبير التي أتاحها العالم الافتراضي أصبحنا أمام طفرة من التفاعلات والنقاشات بين رواد ومستعملي الأنترنيت أفضت إلى مشاعية ثقافية.

فصار الشأن الثقافي في متناول الجميع.

من الضروري التمييز في هذا السياق بين ثلاث مستويات؛ الأول يمكن تسميته بالعالم الافتراضي والذي يقابله العالم الواقعي وهو بمثابة  فضاء عام. والمستوى الثاني هو مستوى تقني نستعمل فيه لفظة رقمي للإحالة مثلا على رقمنة الخدمات العمومية أو  رقمنة الإدارة أو رقمنة المدرسة … والمستوى الثالث وهو المستوى الديجيتالي الذي يرمز الى بصمة الفرد  والشخص في المجال الافتراضي. أفرزت هذه البصمة مثقفاً جديداً يمكن توصيفه بالمثقف الديجيتالي، هدفه التأثير والتفاعل مع قضايا وهموم مجتمعه.  ويبدو أن هذا المثقف مثقف موسوعي يتفاعل ويتفاوض ويتحاور حول جميع المواضيع على اختلاف  أنواعها وطبيعتها دون مراعاة التخصصات والمجالات.

ولهذا التحول تداعيات مباشرة ، فيما قبل كان المثقف يتخصص في مواضيع بعينها، تشكلت من خلالها أنواع أدبية وأصناف علمية ومقاربات في العلوم الاجتماعية والإنسانية. أما في الراهن الافتراضي فيبدو أن هناك نوعين  من المثقفين الديجيتاليين ، مثقف يرمي إلى  التأثير والتفاعل الإيجابي من خلال تداول مواضيع بعينها بالارتكاز على مرجعيات علمية وأكاديمية وكذلك عبر التراكمات التي يمكن للمثقف الديجتالي أن يكون قد قام بترصيدها وتملكها والتمكن منها عبر جسر   التفاعلات والقراءات.

أما عندما يصبح هذا المثقف يدلي بدلوه في جميع الإشكالات الثقافية دون بحث أو تراكم ويكون همه ربحي ومادي أو فقط عاطفي ذاتي، فتأثيره يصير سلبيا  وينتح عنه انزلاق نحو ما صار يطلق عليه مسمى  “التفاهة”.  هذا الانزلاق أدى إلى بزوغ “ثقافة سائلة و”مثقف سائل” و”نخبة عائمة” تتناول الإشكالات والقضايا بمقاربة آنية و”حاضرية”، دون مسائلتها مسائلة متأنية وموضوعية.   يمكن في هذا الصدد اعتبار هذا المنزلق أحد مساوئ العالم الافتراضي الذي أتاح فضاء وهامشا مفتوحا للتعبير لجميع أفراد المجتمع فانتقلت المواضيع المتناولة من مواضيع تمس الشأن العام والمصلحة العامة إلى مواضيع ذات صبغة عاطفية وذاتية ضاربة في الخصوصية والسرديات الفردية.

من هذه الزاوية،  فإن المثقف الديجيتالي الذي يمتلك غالبا قناة وحائطا وحسابا وصفحة افتراضية ليس هدفه المشاركة في رفع مستوى الوعي المجتمعي وتحصين الرأي العام وتثبيت قيم تساعد على تقدم المجتمع وصون قيم العيش المشترك والرابط الاجتماعي والابتعاد عن ثقافة العنف والكراهية، بل يصبح رهينة فعل الإثارة والبوز والحصول على أكبر نسب من المشاهدات والمتابعين . لهذا يمكن استشراف بزوغ ” زوايا جديدة” ب”مريدين جدد” وب”شيوخ جدد” يتشكلون من الفئة الثانية من المثقفين الديجيتاليين.

ومع الانتقال إلى ما يمكن أن نسميه “زمن ما بعد الحقيقة”  فإن الفعل الثقافي صار عرضة للأخبار الزائفة والتي إذا استشرت في الميدان الثقافي قد تؤدي إلى “احتباس ثقافي وقيمي”. وهذا الاحتباس يشجعه المثقف الديجيتالي لاسيما ذاك المثقف الذي يغيب لديه الهم الثقافي والتنويري والتنشئة المجتمعية. وكما أسلفنا الذكر حول بروز زوايا جديدة ومثقف يملك قناة على اليوتيوب ومتابعين يؤمنون بثقافته، صار من الواجب على المثقف الكلاسيكي العودة للساحة والانخراط في العالم الافتراضي الذي أـصبح بمثابة عالم واقعي لأننا اِنتقلنا من مجتمع التواصل الواقعي الى مجتمع الاتصال الرقمي وتحول الأفراد والقراء من أفراد وقراء واقعيين إلى أفراد وقراء افتراضيين.

لهذا يبدو أن على المثقف الكلاسيكي أن يعود ويسترجع وظيفته الأساسية في تصويب الانزلاقات وتنوير المجتمع والمساهمة في التنشئة المجتمعية لأننا صرنا في أزمة ثقافية بصيغة احتباس قيمي وجب ضبطه. في هذا الخضم صار المثقف الكلاسيكي مجبرا  على الانخراط في إشكالات المجتمع الذي أصبح مجتمعا افتراضيا ، وهذا الانتقال يفرض على المثقف الكلاسيكي النزول من برجه العاجي الى البرج الافتراضي.

في المقابل تظل علاقة  المثقف الكلاسيكي بالمثقف الديجيتالي علاقة متوثرة ، فكلاهما يعيش في عالم مختلف عن الآخر. فالأول  يعتبر أن العالم الافتراضي هو عالم دون جدوى وأن التأثير في المجتمع يأتي من خلال ثقافة تعتمد على الكتابة والتدوين في الدعامات الكلاسيكية كالصحف والكتب وأن المواقع الافتراضية ليست فعالة ولا تأثير لها على الدينامية المجتمعية الواقعية.  لهذا فظهورهم في العالم الافتراضي هو ظهور محتشم وناذر.  أما المثقف الديجيتالي فهو دائم الحضور يتوفر على حساب وحائط وصفحة وقناة يتفاعل يوميا ويتفاوض في حينها حول جميع الإشكالات المجتمعية ويعتبر أن دوره أضحى دورا محوريا في الحياة المجتمعية ، مما جعل حضوره وتفاعله ينحو منحى الإدمان الديجتالي والمراقبة المستمرة والملاحظة الآنية. في الضفة المقابلة،  ينتظر المثقف الكلاسيكي حتى يجمع المعطيات ويتفحص الموضوع من جميع الزوايا ليختار المقاربة المناسبة والفعلية لكي ينتج عملا ذا جدة وجدوى. لهذا فغالبية المثقفين الكلاسيكيين يعتبرون أن ما يُنتج في الافتراضي هو سطحي ودون عمق فكري وهو نتاج لتفاعلات عابرة.

في الختام، يبدو ضروريا لفت الانتباه إلى ظهور نوع ثالث من المثقفين يقع بين المثقف الكلاسيكي والمثقف الديجيتالي وهو ما يمكن أن أسميه المثقف الكلاسيكي الديجيتالي وهو ذاك  المثقف الذي يتعامل مع العالم الافتراضي بنفس الاستعداد الشخصي والبرنامج الفكري  الذي ينشط فيه في الدعامات الكلاسيكية.  فيكتب وينشر ويتقاسم ويتشارك تدوينات موضوعية ونصوص علمية  لا يروم من خلالها جمع “اللايكات” أو الربح المادي أو استجداء المتابعين، ولكنه يهدف من خلالها إلى توعية المجتمع الافتراضي وتصويب بعض الأفكار الخاطئة وكذلك العمل على أن يكون العالم الافتراضي عالما يمكن أن يشكل جسرا للتداول والتفاوض حول أفكار وتوجهات وقيم إيجابية تحترم الثقافات والاختلافات والابتعاد عن جعل الفضاء الافتراضي فضاء لخطاب الكراهية وثقافة العنف وسيولة التفاهة والحروب الافتراضية. فهو بهذا  مثقف منخرط من خلال توجهاته ومنظوره  وفلسفته الكلاسيكية في عالم جديد متحول وسائل يعتمد الخواريزمات الرقمية والمشاعية الافتراضية والانعزالية الديجيتالية. وهو بهذا الفعل الثقافي داخل الفضاء الافتراضي يكسر القطيعة بين المثقف الكلاسيكي والمثقف الديجيتالي ويشكل تجاوزا وتحديا جديدا لهذه القطبية الثنائية.

 

 

المصدر: اليوم 24

كلمات دلالية: العالم الافتراضی

إقرأ أيضاً:

مسؤولة أممية: لا يمكن أن نستمر بالوقوف مكتوفي الأيدي تجاه غزة

الثورة نت /..

قالت الممثلة الأممية المعنية بالأطفال والنزاعات المسلحة، فيرجينيا غامبا، إن حجم المعاناة التي يتحملها أطفال قطاع غزة يتحدى كل معيار إنساني.

وأضافت غامبا، في تصريحات صحفية، اليوم الأربعاء، “لا يمكننا أن نستمر في الوقوف مكتوفي الأيدي تجاه غزة”.

وكانت قوات العدو الصهيوني جددت عدوانها على قطاع غزة منذ فجر 18 مارس 2025، بغارات جوية على جميع أنحاء قطاع غزة مما أدى لاستشهاد أكثر من 5833 مواطنًا وإصابة 20198 آخرين، منقلبة على اتفاق لوقف إطلاق النار مع حركة حماس وفصائل المقاومة استمر نحو 60 يوماً من إبرامه بوساطة مصرية قطرية.

وبدعم أمريكي، يرتكب “جيش” العدو الصهيوني منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023 إبادة جماعية بغزة خلفت أكثر من 184 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود.

مقالات مشابهة

  • الكرملين: لا يمكن تطبيق أطروحة السلام على روسيا بالقوة
  • الحلزون البركاني كائن بحري حديدي لا يمكن تدميره
  • 10 أيام فقط لإنجاز فيلم سينمائي كامل.. الإنتاج الافتراضي يكسر حاجز الزمن
  • مسؤولة أممية: لا يمكن أن نقف مكتوفي الأيدي حيال الفظائع المرتكبة ضد الأطفال في العالم
  • مسؤولة أممية: لا يمكن أن نستمر بالوقوف مكتوفي الأيدي تجاه غزة
  • ياسين: ما يجري في قطاع الاتصالات لا يمكن السكوت عنه
  • بعد إعلان ترامب نهاية الحرب.. كيف يمكن أن تُغير 14 قنبلة الشرق الأوسط؟
  • كيف يمكن محاسبة مجرمي سوريا؟ درس من فرانكفورت
  • ترامب: يمكن للصين مواصلة شراء النفط الإيراني
  • ترامب يخفّف العقوبات: يمكن للصين مواصلة شراء النفط الإيراني