الدكتور عوض سليمية يجادل الجنرال فيكتور فرنر في كتابه الحرب العالمية الثالثة (الخوف الكبير)، ان كلمة حرب في مفهومها اليوم تتضمن شكلا مختلفاً عن اشكال الحرب التقليدية التي سادت في السابق، وان المذابح الناتجة عن الحروب الحديثة لا تقتصر فقط على القتلى من جنود الطرفين او شعبيهما، بل بتعدى ذلك التاثير ليشمل اراضي وشعوب اخرى لا تشترك في الصراع بشكل مباشر.

ولاول مرة في تاريخ الحروب تشكل التاثيرات المنعكسة مأساة كبيرة ومعاناة لمن هم خارج دائرة الصراع (ص:21). ضمن هذا السياق، يمكن اعتبار العام 2022، نقطة انعطاف تاريخية في مسار السلام الداعي الى الحرب بين القوى العظمى، وكانت اولى تأثيراته المباشرة هي، تصدر النشاط الدبلوماسي غير المعهود للدول العظمى للمشهد السياسي العام، في مسعى لاستمالة و/أو إستقطاب اكبر عدد ممكن من الدول والكيانات للانحياز لروايته، أو العمل على تحييد البعض الاخر منها عن محور الصراع في حال العجز عن الاستمالة. رافق هذا النشاط المكثف ابتعاد ملحوظ للاقطاب المتصارعة عن منصة الامم المتحدة، باعتبارها المظلة الجامعة المفترضة لممثلي شعوب الارض في حفظ الامن والسلام الدوليين، بالمقابل، ظهرت الاحلاف والتكتلات العالمية القائمة على المصالح والاهداف المشتركة، والايديولوجيا المتقاربة على المسرح الدولي. من ناحية، يمكن إدراج التجميد المتعمد لمهام الامم المتحدة ومجلس الامن الدوليين في سياقين، الاول: عجز قوى الغرب الجماعي عن تشكيل جبهة عالمية، تطلق عليهم واشنطن عادةً مصطلح “المجتمع الدولي” لمساندتها ضد روسيا– على غرار تلك التي شكلتها واشنطن ضد (افغانستان، العراق، ليبيا، صربيا، سوريا، ايران…)، وفشلها في إنتزاع موقف دولي جماعي يسمح لواشنطن بقيادة تحالف دولي عسكري ضد روسيا تحت غطاء اممي، او على الاقل يمنح واشنطن ضوء اخضر لفرض حصار دولي على موسكو لاخضاعها، بزعم احتلالها لاراضي دولة عضو في الجمعية العامة. وبالتالي إستحتقت هذه المنظمة التجميد. السياق الاخر: قناعة قيادة الكرملين ان الاتصالات المباشرة مع قيادات الدول وبرلماناتها بالاضافة الى القيادات الجماهيرية، على قاعدة المنفعة المتبادلة والمصالح المشتركة، توفر نتائج افضل مقارنة بالنقاش في قاعات الامم المتحدة ومجلس الامن. إنطلاقاً من هذه القناعات، دفعت الدبلوماسية الرسمية لكلا الطرفين المتنازعين (روسيا والغرب) الى إستخدام القوة الناعمة لتعزيز تحالفاتهما، وانطلقت جيوش الدبلوماسية تجوب مراكز صنع القرار عبر العالم في نشاطات محمومة ما إن تتوقف حتى تبدأ من جديد، وباتت المؤتمرات والقمم واللقاءات الدبلوماسية تطفو على السطح، ولا يخلو يوم-او يكاد، الا وتطالعنا فيه وكالات الانباء عن تنظيم، لقاءات، مؤتمرات، إجتماعات..، لحلفاء وشركاء دوليين، بهدف التباحث أو تطوير خطط إنمائية، امنية، اقتصادية، عسكرية، أو رصد مزيد من الموازنات الدفاعية، أو إعلان مواقف سياسية من خصوم سياسيين وأمنيين مفترضين. او مناقشة تطورات المواقف على الساحة الدولية…الخ. الى درجة انه اصبح من الطبيعي ان يجري اكثر من لقاء او قمة لتجمعات او تكتلات دولية هامة في الوقت نفسه. وعلى الرغم من اختلاف اسباب ودواعي تنظيم هذه الاجتماعات والقمم الدولية، الا انها تنتهي بــإصدار بيانات تصل بريد الاطراف المعنية دون ان تخلو من تهديدات مُغلفة او تحديات يمكن ان يفهمها كل طرف بشكل واضح. على مدى الاسبوع الممتد من 10-14 تموز يوليو فقط، عُقدت على الاقل ثلاث قمم عالمية علنية: كانت اولاها، الحوار الاستراتيجي الذي ضم وفد وزراء خارجية مجلس التعاون الخليجي مع زعيم الدبلوماسية الروسية سيرجي لافروف في موسكو. تلاها انعقاد قمة دول حلف شمال الاطلسي “الناتو” في فيلنيوس/لتوانيا، وجاءت بالتزامن مع اجتماع وزراء خارجية رابطة دول جنوب شرق آسيا “آسيان” في اندونيسيا، اعقبه عقد اجتماع وزاري لتكتل “آسيان 3+” الذي يجمع دول آسيان مع اليابان وكوريا الجنوبية والصين، وتبعه اجتماع ثالث لوزراء خارجية “قمة شرق آسيا” التي تضم 18 دولة بمشاركة واشنطن وبكين وموسكو. في الوقت نفسه، تجري التحضيرات على قدم وساق لاجتماع دول البريكس في جمهورية جنوب افريقيا الشهر المقبل، للبحث من بين امور اخرى، في تطوير العلاقات والمصالح المشتركة، ومناقشة اعتماد اعضاء جدد الى المجموعة من بينها الجزائر. بينما يتطلع جميع المشاركون الممثلون لحكوماتهم وشعوبهم في اللقاءات والمؤتمرات والقمم المنعقدة في موسكو وإندونيسيا وجنوب افريقيا، للتركيز على ضرورة الحديث عن السلام، وأولوية نشر واستتباب الامن وتثبيت حالة الاستقرار العالمي، الى جانب تفعيل ادوات التنمية المستدامة والاستثمار في الموارد الطبيعية خدمة للبشرية وتقدمها ورخائها. الى جانب التغيرات المناخية، وفقاً لنص بياناتهم. نجد ان بيانات حكومات حلف الناتو تسير في الاتجاه المعاكس تماماً لرغبات غالبية شعوب الارض. على سبيل المثال، حمل بيان إجتماع فيلنيوس الاخير على جناحيه بين واشنطن وبروكسل، عبارات الحرص الشديد على استمرارية اشتعال الحرب في اوكرانيا، ليس فقط عبر ضمان الامدادات العسكرية والامنية والاقتصادية لكييف، بما فيها القنابل العنقودية المحرمة دولياً وطائرات الــ F16 القادرة على حمل رؤوس نووية قريباً. بل ذهب الاعلان الى مستوى توتيري اخر محوره انشاء مجلس (اقل من تحالف) “اوكرانيا-الناتو”. الى جانب، استمرار الضغط على انقره للموافقة على انضمام السويد الى عضوية الحلف، بعد نجاح الاخير في اقناع فنلندا للانضمام لصفوفه في شهر ابريل الماضي. على الجانب الاخر من الكرة الارضية، تنشط واشنطن على تهيئة الظروف وإنشاء مزيداً من الهياكل لاشعال منطقة حرب جديدة، ليس فقط عبر تأسيس هيكل الاوكوس، والذي يضم كل من (استراليا وبريطانيا الى جانب الولايات المتحدة) في منطقة المحيطين الهندي والهادي. بل من خلال إعلان جديد لوزير الخارجية الامريكي انتوني بلينكن على هامش اجتماع الاسيان في اندونيسيا، بأن واشنطن وحلفاؤها (اليابان وكوريا الجنوبية) متحدون في الردع، وسيعملون على صد أي عدوان تنفذه كوريا الشمالية، بالاضافة الى ذلك، اعلنت واشنطن عن نيتها افتتاح مكتب تمثيلي لحلف الناتو على الاراضي اليابانية- سيكون اول منشأة للناتو في المنطقة، بالتزامن مع استمرار تحويل تايوان الى قاعدة عسكرية امريكية موجهة نحو الصين، والدفع بالغواصة “يو اس اس ميشيغان” الأميركية العاملة بالطاقة النووية إلى مدينة بوسان الساحلية في كوريا الجنوبية لمراقبة تحركات جارتها الشمالية. غياب لغة السلام عن تصريحات قادة الغرب الجماعي وبياناتهم، تؤكد ان واشنطن عازمة على استمرار اشعال الحروب في العالم، وأنها عثرت أخيراً على دولة أو مجموعة دول غير اوكرانيا، جاهزة للمقامرة وتدمير مقدراتها ومواردها وفقدان سيادتها واستقلالها، خدمة لمصالح النخب الغربية، ولوبيات مجمع الصناعات العسكرية في واشنطن. وزيادةً في التصعيد القائم في خليج تايوان وبحر الصين الجنوبي، اعتبر بيان قمة فيلنيوس أن تعميق الشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا ومحاولاتهما المشتركة يهدف الى تقويض النظام الدولي القائم على القواعد، وتتعارض مع قيم ومبادئ ومصالح اعضاء الحلف. وهو الامر الذي دفع الخارجية الصينية الى اصدار بيان تحذيري موازي، مفاده “ان طموحات كتلة الناتو في التوسع والهيمنة واضحة، ووضعها كتحالف نووي لن يؤدي الا الى تفاقم الازمات والتوترات الاقليمية، وان هذه الاعمال ستقابل “برد حازم من بكين.” وفي اطار البحث عن المصالح الحيوية سواء في إطار تحالفات او في سياق منفرد، عادت انقرة من جديد للطرق على ابواب الاتحاد الاوروبي، في الوقت نفسه، تنفرد -انطلاقا من موقعها الجغرافي وموقفها شبه المحايد من الازمة الروسية الاوكرانية، في محادثات وإجتماعات شائكة بين موسكو وكييف لتمديد اتفاقية صفقة الحبوب وخاصة القمح، والتي يذهب 40% من شحناتها الى الدول الاوروبية، ولا يصل منها الا 3% فقط الى الدول النامية والفقيرة. الامر الذي دفع الرئيس بوتين للتهديد بعدم تجديد صفقة الحبوب للمرة الثالثة، بسبب تجزئة الغرب لبنود الصفقة، وتجاهله احتياجات الدول الفقيرة في إمدادات الحبوب، وغياب دور فعال للامم المتحدة في انفاذ كافة بنودها والوفاء بتعهداتها. في هذا المشهد المعقد، تتضخم أعداد الرسائل اليومية الواردة الى بريد الامم المتحدة الممتلئة بالاسئلة، والتي على ما يبدو لا تجد لها طريقاً للاجابه من قبل الامين العام السيد انتونيو جوتيريش، والذي بات يقف امام المرآة لتأكيد وجود منظمته على قيد الحياة فقط، فهي غائبة عن تصحيح السرد، وضرورة تعديل المسار وقطع الطريق امام لغة المؤامرة، والنهوض باولويات عملها وواجباتها في ضرورة توفير الامن والاستقرار عبر العالم، وفي المقدمة منها الامن الغذائي للفقراء، ووقف سياسات تدفيع الثمن لشعوب العالم الفقيرة والنامية، ممن هم خارج دائرة الصراع المستمر، بسبب رفض حكوماتهم الانضمام للتحالفات المنحازة. ولسان حالهم يقول: ماذا تفيدنا شرائح تايوان الاليكترونية وتسونامي القمم والمؤتمرات اذا غاب القمح الروسي والاوكراني عن اسواقنا. باحث في العلاقات الدولية مدير وحدة الابحاث والدراسات  الدولية زميل ابحاث ما بعد الدكتوراة مدرسة العلاقات الدولية  SOIS جامعة اوتارا ماليزيا University Utara Malaysia UUM

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: الامم المتحدة الى جانب

إقرأ أيضاً:

ماذا سيحدث إذا خرجت واشنطن من الشرق الأوسط؟

تنص إستراتيجية الأمن القومي لإدارة ترامب على أن الولايات المتحدة تسعى إلى شرق أوسط لا يكون ملاذا آمنا أو بيئة خصبة للمتطرفين، ولا يخضع لسيطرة أي قوة معادية للولايات المتحدة، ويساهم في استقرار سوق الطاقة العالمي.

وتتوافق هذه الأولويات مع أولويات الإدارات السابقة، ويُعد الإرهاب ورفاهية إسرائيل والنفط، الأسباب الرئيسية لاهتمام الولايات المتحدة بالشرق الأوسط.

وخدمة لهذه المصالح، تُنفق الولايات المتحدة عشرات المليارات من الدولارات سنويا في محاولة لإدارة شؤون المنطقة. وقد أثارت هذه السياسة الخارجية الممتدة انتقادات داخلية متكررة، لا سيما من تيارات محافظة تطالب بتركيز الإنفاق على الداخل الأميركي، وتعتبر أن الدعم غير المشروط لبعض الحلفاء الإقليميين لا ينسجم مع مبدأ "أميركا أولا".
وفي أحد أكثر التقديرات دقة لتوفير التكاليف، يخلص يوجين غولز إلى أن التخلي عن مهمة الشرق الأوسط، سيضيف إلى خزينة الولايات المتحدة ما يتراوح بين 65 و70 مليار دولار سنويا.

وبحسب تقديرات جاستن لوجان ـ في المؤسسة البحثية الأميركية defense priorities ـ فإن هذه السياسات مكلفة ومحيرة، لأن المنطقة نظريا منطقة نائية إستراتيجيا، ويشكل ناتجها المحلي الإجمالي 3.3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، مقارنة بـ32.5% في نصف الكرة الغربي، و25% في كل من أوروبا وشرق آسيا.

ويتراوح عدد سكان الشرق الأوسط بين 3.5 و5% من إجمالي سكان العالم، وحتى لو سيطرت دولة واحدة ـ أو غزت ـ منطقة بتلك الموارد الاقتصادية والبشرية، فلن تشكل تهديدا عسكريا خطيرا للولايات المتحدة.
يقول لوجان: "إن الاعتقاد بأن المنطقة ذات أهمية كبيرة للأمن القومي الأميركي، اعتمد على نظريات غامضة حول اقتصادات الطاقة، وتوازن القوى الإقليمي، وتهديد الإرهاب".

بعد مخطط ترامب لوقف إطلاق النار في غزة، في نهاية سبتمبر/أيلول 2025، قال ويل والدورف، الأستاذ بجامعة ويك فورست، في defense one: تُعطي واشنطن الشرق الأوسط أكثر مما ينبغي، ولا ينبغي لها الآن أن تُعطي أكثر من ذلك لتهدئة الإحباطات بشأن اتفاق غزة، أو على نطاق أوسع لمحاولة إيجاد حل دائم وتحولي للمنطقة المضطربة، وهو ما يبدو أنه طموح ترامب الأكبر. بدلا من التدخل بشكل أعمق في الشرق الأوسط، على واشنطن أن تتراجع الآن.

إعلان

ويرى أنه لم يعد المحركان الإستراتيجيان الرئيسيان للانخراط الأميركي العميق في الشرق الأوسط، على مدى العقود الخمسة الماضية ـ النفط والإرهاب ـ يشكلان تحديين إستراتيجيين رئيسيين، حيث أصبحت الولايات المتحدة الآن مُصدّرا صافيا للنفط، مما يعني أنها لم تعد تعتمد على الوقود الأحفوري في المنطقة، ومع هزيمة تنظيم الدولة عام 2019 والضعف العام لتنظيم القاعدة بشكل كبير، يمكن للجهات الفاعلة المحلية التعامل مع التهديد الإرهابي في معظمه.

ويعتقد قطاع ليس بالقليل من المعلقين الأميركيين المؤثرين، أن الحروب الأميركية الباهظة وغير الحاسمة في الشرق الأوسط الكبير لم تُسفر عن سلام ولا استقرار.

وبالنظر إلى هذه التجارب، وخاصة الأخيرة، بلغ الرأي العام الأميركي ضد ما يصفه الكثيرون بـ"الحروب التي لا نهاية لها" ذروته، وبالتالي أصبح القادة السياسيون من كلا الحزبين أكثر تقبلا لدعوات الانسحاب التي طُرحت لعقود طويلة.

الدبلوماسي الأميركي الراحل مارتن إنديك ـ (توفي 25 يوليو/تموز 2024) والذي شغل منصب سفير الولايات المتحدة في إسرائيل مرتين، والعضو في جماعة الضغط اليهودية في الولايات المتحدة إيباك- يعتقد في مقاله المنشور في صحيفة وول ستريت جورنال، أن الأهداف التي حددتها الولايات المتحدة في حقبة الحرب الباردة لم تعد ذات صلة بالوقت الحاضر.

مشيرا ـ على سبيل المثال ـ إلى أن اعتماد الولايات المتحدة على نفط الشرق الأوسط قد بلغ نهايته، مؤكدا أن إسرائيل قد حققت مستوى من القدرة على ضمان أمنها.
ويشدد إنديك على أنه لا يتعين أن تكون كل من القضية الفلسطينية وسوريا من اهتمامات الولايات المتحدة بعد الآن.

ويجادل بأنه بعد التضحية الكبيرة بأرواح الأميركيين، وإهدار موارد وجهود جبارة في مساعٍ مضللة، أسفرت في النهاية عن ضرر أكثر من نفع، من الضروري للولايات المتحدة أن تسعى إلى إيجاد وسيلة لتخليص نفسها من دوامة الحروب الصليبية والانسحابات المكلفة والمحبطة.

ويصادف هذا الرأي هوى لدى آخرين ممن يشاركونه وجهات نظر مماثلة. فهم يفترضون أن الشرق الأوسط لم يعد يحظى بأهمية قصوى بالنسبة للولايات المتحدة، وأن الاقتصاد الأميركي لم يعد يعتمد على النفط العربي.

أشار بول وولفويتز ـ أحد مهندسي الغزو الأميركي للعراق ـ ذات مرة، إلى أن تحوله من التركيز على الشرق الأوسط إلى العمل على شرق آسيا، كان أشبه بـ"الخروج من غرفة خانقة إلى ضوء الشمس والهواء النقي

حتى بين أقلية متناقصة في واشنطن، ممن يواصلون التأكيد على أهمية الشرق الأوسط، فإن احتمال استمرار النزاعات العربية، والصراعات العربية الإسرائيلية، والمناطق التي تعاني من الصراعات مثل لبنان وسوريا، وليبيا، والعراق، يثير النفور والتردد.

ويكافح العديد من المحللين السياسيين والباحثين الآن لفهم الغرض من الوجود الأميركي في الشرق الأوسط، كما يقول سيدات لاجينر في modern diplomacy.

لقد سلّط هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وما تلاه من العدوان الوحشي على غزة، الضوء على حدود النفوذ الأميركي، وتنامي جرأة القوى الإقليمية.

وفي الوقت الذي كانت تُعيد فيه واشنطن ضبط حضورها في الشرق الأوسط، كانت شبكة معقدة من التحالفات والمنافسات المحلية تعيد تشكيل المشهد السياسي.

ولذا، فقد بات من بين أهم الأسئلة المتداولة داخل أروقة مؤسسات صناعة القوة في الولايات المتحدة الأميركية، هو سؤال اليوم التالي لخروج واشنطن المتوقع والتدريجي و"النظيف" من "أوحال" الشرق الأوسط، على حد وصف البعض.

إعلان

وفي السياق، لم تكن تُخفي إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن رغبتها في إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط. وصرح وزير الخارجية أنتوني بلينكن في مقابلة أُجريت معه ـ قبل توليه منصبه ـ بأنه يتصور أن رئاسة بايدن ستُقلل التدخل في المنطقة لا أن تزيده.

وعلى مدى العقود القليلة الماضية، أشارت إدارة أميركية تلو الأخرى إلى خطط كبيرة لسياسة خارجية جديدة تركز على "التوجه نحو آسيا"، الذي أصبح ممكنا بفضل "الانسحاب" من الشرق الأوسط.

ومع كل إدارة جديدة، فسرت حكومات الشرق الأوسط ومحللوها الحزبيون في واشنطن كل خطوة أميركية في المنطقة بأنها دليلٌ على انسحاب جارٍ بالفعل، وردّوا على مثل هذه الجهود "المزعومة" بانتقادات غاضبة ومثيرة للقلق وحتى عاطفية، ووصفوا كل خطوة بأنها "تخلٍّ" عن الأصدقاء، يبرر توسيع العلاقات بين حكومات الشرق الأوسط، والصين، أو روسيا كتحوط رجعي طبيعي، على حد تعبير سارة ليا ويتسون.

هذا "الخروج" المحتمل سيُعد انعطافا مُزلزلا قد يشجّ ما استقرت عليه الجغرافيا السياسية العالمية الصلبة التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، ويضع العالم أمام حزمة من التساؤلات القلقة بشأن الأمن الإقليمي، وحل النزاعات، وظهور تجليات القوى الناهضة الجديدة في منطقة تُعد من الناحية الإستراتيجية الأخطر في العالم.

ولا يزال الجدل قائما حول ما إذا كان تقليص التدخل الأميركي سيؤدي إلى استقرار أكبر أم تقلبات متزايدة.

ويرى المتفائلون أن القوى المحلية قد تجد حلولا أكثر استدامة للصراعات الإقليمية دون تدخل خارجي، بينما يخشى المتشككون من احتمال حدوث فراغ في السلطة، وتزايد المنافسة بين الجهات الفاعلة الإقليمية.
ولكن الواضح هو أن المنطقة تدخل مرحلة جديدة، حيث يُعاد النظر جذريا في أنماط النفوذ والتحالفات التقليدية.

ويتجاوز هذا التحول في النظام الشرق أوسطي مجرد سياسات القوة؛ إنه يمثل تحولا جوهريا في كيفية تصور وإدارة الأمن الإقليمي، والتنمية الاقتصادية، والعلاقات الدبلوماسية.

ومع تبلور هذا النظام الجديد، ستحدد قدرة الجهات الفاعلة الإقليمية على تطوير آليات فعالة لحل النزاعات والتنمية التعاونية ما إذا كان الشرق الأوسط، في ظل تراجع النفوذ الأميركي، سيصبح أكثر استقرارا أم أكثر تقلبا، وذلك بحسب توقعات تقرير لـ Jordan Times نشرته على منصتها الإلكترونية.

ولطالما برر الباحثون الموضوعيون المنطق الأميركي بعسكرة الشرق الأوسط، وكثيرا ما دافعوا عنه، ونفوا عنه أن يكون بدافع الجشع أو بالدوافع الأيديولوجية المسيحية أو حتى بافتراضات إمبريالية، ووصفوا تلك "الدوافع المزعومة" بـ"الخرافة".

ولطالما تمزقت السياسة الأميركية بين دافعين متعارضين: الحاجة إلى حماية المصالح الأميركية الدائمة من جهة، والرغبة في تجنب مشاكل المنطقة التي لا تنتهي من جهة أخرى.

وقد أشار بول وولفويتز- أحد مهندسي الغزو الأميركي للعراق ـ ذات مرة، إلى أن تحوله من التركيز على الشرق الأوسط إلى العمل على شرق آسيا، كان أشبه بـ"الخروج من غرفة خانقة إلى ضوء الشمس والهواء النقي".
وباستعارة هذا التشبيه، لطالما رغب المسؤولون الأميركيون في السير نحو ضوء الشمس مع إدراكهم أنهم لا يستطيعون الهروب تماما من الظلام، على حد وصف هال براندز في مؤسسة هوفر للأبحاث.

ثمة رؤى تؤكد أن "سردية الانسحاب" تم الترويج لها عن عمد كأداة اختبار لنوايا القوى الدولية الحالمة في إزاحة الولايات المتحدة عن مناطق نفوذها التقليدية؛ إذ تمنح واشنطن فرصة إستراتيجية لاستكشاف سلوك الوافدين الجدد مثل الصين في المنطقة، في ضوء الشعور المتصور بالغياب الأميركي.

وفي حين أن القيادة الصينية مترددة في الخروج من منطقة الراحة الخاصة بها، فإن صناع القرار الأميركيين يرغبون في معرفة المزيد عن النوايا والقدرات الحقيقية لبكين، وخاصة إذا ما كانوا سيواجهون مياه الشرق الأوسط الغادرة.

إعلان

لكن على الرغم من المكاسب الإستراتيجية الناتجة عن الترويج ـ الذي يعتبره البعض "ترويجا ناجحا" ـ لرواية الانسحاب، فإن الحقائق على الأرض تُفنّد هذه الأسطورة.
إذ تحافظ الولايات المتحدة على هيمنتها في مبيعات الأسلحة، حيث تبلغ 54% من المبيعات العالمية، وتستحوذ على حصة كبيرة (78%) من واردات الأسلحة لبعض الدول في المنطقة، كما يقول بوراك المالي، الباحث في TRT World في إسطنبول.

ويبقى أن نشير ـ هنا ـ إلى أن تقارير رصينة تطابقت في إضاءة أزمة الثقة بالنفس التي واجهتها الولايات المتحدة في هذه المنطقة المضطربة والهشة أمنيا، عقب انتكاساتها في العراق، وأفغانستان.

وتوصي ـ تلك التقارير ـ بأن لا تكرر واشنطن أخطاء تجاربها السابقة في هذين البلدين، بل أن تتعاطى مع المنطقة بمراجعة التجارب، وإخضاع الإخفاقات للفحص والتأمل.

وفي السياق، ينقل سيدات لاجينر عن كتاب الوهم الكبير لستيفن سيمون، جزءا من شروحه بشأن أسباب تكبد أميركا خسائر في الشرق الأوسط على مدى أربعة عقود.
ويحدد العامل الحاسم في عدم فهم الأميركيين للمنطقة، مشددا على أنه إذا كانت واشنطن ترغب في ضمان النجاح في الشرق الأوسط، فيتعين عليها أن تتخلى عن فرض سياساتها أحادية الجانب، وأن تعطي الأولوية بدلا من ذلك للاستماع إلى حلفائها في المنطقة.

إذ تبقى مسلمة على رأس مسلمات وثوابت أية قوة حالمة في اعتلاء قمة القوى ذات الكلمة المسموعة في العالم.

ونظرا للأهمية الجيوستراتيجية والثقافية التي تجسدها، فلن يكون من المبالغة التأكيد على أن الهيمنة العالمية طويلة الأمد، وإحكام السيطرة على عجلة قيادة العالم، غاية لا يمكن إنجازها لأي قوة تفشل في ممارسة الهيمنة على منطقة الشرق الأوسط في الأمد البعيد.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • مصر تعلن ترشيح الدكتور أشرف صبحي وزير لرئاسة اللجنة الحكومية الدولية للتربية البدنية والرياضة باليونسكو
  • ترشيح الدكتور أشرف صبحي لرئاسة اللجنة الحكومية الدولية للتربية البدنية والرياضة
  • أمنستي ورايتس ووتش تناشدان الدول الأطراف حماية الجنائية الدولية ومواجهة واشنطن
  • روتو في واشنطن لدعم اتفاق السلام بين الكونغو ورواندا
  • مادورو: واشنطن تريد السيطرة على نفط فنزويلا
  • زيلينسكي: تحدثت مع الأمين العام لحلف الناتو والكثير من الأمور قد تتغير في الأيام المقبلة
  • المحكمة الجنائية الدولية.. من تحقيق العدالة إلى أداة لتنفيذ السياسيات الغربية
  • صراع المياه المشتعلة بين واشنطن وبكين
  • ماذا سيحدث إذا خرجت واشنطن من الشرق الأوسط؟
  • جبالي ببرلمان المتوسط: قمة شرم الشيخ الدولية للسلام تضع أساسًا لتحقيق السلام العادل والدائم في الشرق الأوسط