فرنسوا بورغا.. مستشرق فرنسي يعارض النظرة الغربية للعالم الإسلامي
تاريخ النشر: 13th, January 2024 GMT
فرنسوا بورغا مستشرق وعالم سياسي فرنسي، ولد عام 1948 في شرق فرنسا، تخصص في دراسة التيارات الإسلامية في العالم العربي والإسلامي. أدار مراكز بحثية كالمعهد الفرنسي للشرق الأدنى، والمعهد الوطني للبحث العلمي.
ترأس برامج بحثية متعددة أبرزها برنامج "حين يفشل الاستبداد في العالم العربي" بمجلس البحوث الأوروبي"، وهو من الأصوات الأكاديمية الغربية القليلة التي امتلكت الجرأة على انتقاد الغرب ونظرته الاستعمارية والاستعلائية للعالم الإسلامي.
ويحمل بورغا العالم الغربي مسؤولية إنتاج التطرف والتشدد بسياساته ودعمه للاستبداد السياسي. ويعتبره محللون امتدادا للباحثين الفرنسيين الكبار من قبيل ماكسيم رودنسون وجاك بيرك.
المولد والنشأةولد فرنسوا بورغا يوم 2 أبريل/نيسان 1948 في مدينة شامبيري بإقليم سافوا شرق فرنسا.
الدراسة والتكويندرس مرحلتي البكالوريوس والماجستير بتخصص القانون في جامعة غرونوبل ثالث أكبر جامعة في فرنسا. حصل عام 1981 على درجة الدكتوراه في القانون والعلوم السياسية بأطروحة حملت عنوان "القرى الاشتراكية للثورة الزراعية الجزائرية: مكانة القانون في التغيير الاجتماعي".
الوظائف والمسؤوليات عمل في بداية مساره المهني أستاذا مساعدا، ودرَّس القانون في جامعة قسنطينة في الجزائر بين عامي 1973 و1980. تم تعيينه بعد حصوله على درجة الدكتوراه باحثا في الهيئة القومية للبحث العلمي عام 1983 في مدينة إكس أون بروفانس بالجنوب الشرقي لفرنسا. انتقل عام 1989 إلى مصر للعمل في المركز الفرنسي للدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية بالقاهرة إلى عام 1993. وفي عام 1997 حط الرحال في اليمن مديرا للمعهد الفرنسي للعلوم الاجتماعية والآثار بصنعاء، وبقي هناك حتى عام 2003. أدار بين عامي 2008 و2013 المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، وتابع عمل فروعه بالأردن وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين. تولى تطوعا منذ 2018 رئاسة المجلس العلمي والإداري للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات/فرع فرنسا. ترأس برنامج البحث الجماعي "عندما تفشل السلطوية في العالم العربي" بتمويل من مجلس البحوث الأوروبي، وهو عضو بالمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية. مدير فخري في المركز الوطني الفرنسي للبحوث العلمية. باحث متقاعد في معهد البحوث والدراسات في العالم العربي والإسلامي. التجربة والمسارلم تكن تجربة تدريسه القانون بجامعة قسنطينة بالجزائر عام 1973 بداية انفتاحه على العالم العربي والإسلامي، فقد سبق له أن تعرف عليه وهو ابن 16 عاما حينما رافق خالته في رحلة حج لمسيحيين فرنسيين إلى القدس.
وحينها التقى صدفة بمدينة أريحا طفلا فلسطينيا، قال له "لقد أخذ اليهود أرضي مني"، الأمر الذي هزَّ كل ما تلقاه عن فلسطين، إذ لم يكن يعرف أن الفلسطينيين سلبت منهم أرضهم.
هذا المعطى الجديد ظل حاضرا في ذهنه، وشكل لاحقا عنصرا في تفسيره وتحليله لظهور الحركات الإسلامية، التي يسميها بعض الباحثين حركات "الإسلام السياسي"، وستزيده رحلاته وإقامته بعدد من الدول العربية ترسخا في مساره المهني والبحثي.
بدأ من مصر باحثا منذ 1989 في المركز الفرنسي للدراسات والوثائق الاقتصادية والقانونية بالقاهرة، وفي اليمن مديرا للمعهد الفرنسي للعلوم الاجتماعية والآثار بصنعاء، ومديرا لفروع المعهد الفرنسي للشرق الأدنى بكل من الأردن وسوريا ولبنان والعراق وفلسطين، فضلا عن أسفاره إلى عدد من الدول العربية مثل تونس والسودان وغيرها، وخلالها اكتشف ما يعتبره "نظرة الغرب التنميطية" للشرق وللمسلمين بشكل عام.
ساعده تعلمه اللغة العربية في كل من تونس ومصر على توسيع اطلاعه على الثقافة العربية والإسلامية، والبحث الميداني واللقاء والحوار مع عدد من قيادات الحركة الإسلامية منهم حسن الترابي الذي وصفه بمؤسس "الإسلام السياسي" في السودان.
يقول بورغا إن الترابي أخبره أنّ "الناس في القرية يسألوننا: هل يمكننا الصلاة بالبنطال؟ فيرفض الصوفيون ذلك، أما نحن فكنا نقول إنها مجرد شكليات"، ويستشهد الباحث الفرنسي بهذا المثال ليؤكد أن فعالية الحركات الإسلامية وشعبيتها منذ الثمانينيات والتسعينيات من القرن الـ20 يعود لتجاوبها وانفتاحها على الحداثة على عكس الحركات الدينية التقليدية، حسب قوله.
مكنته إقامته بالعالم العربي على مدار 23 عاما، وإدارته لبرامج بحثية موّلها المجلس الأوروبي للبحوث، كبرنامج "من الخليج إلى المحيط: بين العنف والعنف المضاد" (2007-2010)، وبرنامج "عندما تفشل السلطوية في العالم العربي" (2013-2017) من الوقوف على حقائق عديدة بالمنطقة العربية والإسلامية، وحقائق عن الحركات الإسلامية وديناميتها الداخلية، تخالف ما يروج له الغرب منذ عقود بإعلامه وعدد من باحثيه.
خلافا للمفكر الفرنسي أوليفييه روي والباحث الفرنسي جيل كيبل، وجان بيير وآلان غابون، الذين فسروا "التطرف الديني" وظهور الحركات الإسلامية عموما، و"المتشددة" و"العنيفة" خصوصا، بالرجوع للنصوص الدينية القرآنية والحديثية والرجوع لتاريخ المذاهب الإسلامية، ورأوا أن المشكل في النصوص وليس في من يتعامل معها ومستواه الفكري والعلمي وظروفه الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك، الأمر الذي كان وراء ظاهرة "الإسلاموفوبيا"، في نظر بورغا.
خلافا لذلك كله، رفض بورغا شيطنة الحركات الإسلامية بالإطلاق، وميّز بين المسلمين و"الإرهابيين"، ولم يضع كل الحركات الإسلامية في سلة واحدة، واعتبر أن الاستعمار والهيمنة والاستبداد السياسي كلها أمور لها دور كبير في نشوء التطرف والتشدد الديني، وأن النظرة الازدواجية للغرب، خاصة فيما يتعلق بحرية التعبير زادت الطين بلة، سواء تعلق الأمر بالاعتداء على الرموز الإسلامية كإحراق المصحف الشريف، أو الاعتداء على الأرض كاحتلال فلسطين.
وقال بورغا واصفا ازدواجية الغرب "يعتدون على القرآن الكريم، إلا أنهم لن يخرجوا أبدا في مظاهرة لإدانة المثليين أو الإسرائيليين، وهو ما يبين ازدواجية المعايير"، ويضيف "إذا تحدثت بـ1% من حرية التعبير تجاه التوراة أو تجاه يهودي، يتم تجريمك على الفور، وتمنع فورا من التصريح لوسائل الإعلام الرسمية".
مواجهة مع العلمانية الفرنسيةعرف فرنسوا بورغا بصراحته ووضوحه عند الحديث عن بلاده وعن الغرب عموما، فقد قال أمام البرلمان الفرنسي إن "المسلم الجيد في نظر الغرب هو الذي ترك الإسلام". واعتبر أن السياسية الرسمية الفرنسية هي السبب في صعود التطرف الديني واليمين المتطرف في فرنسا بعد فشلها في إدماج المهاجرين المسلمين.
وأضاف أن الدولة هي من ترعى "الإسلاموفوبيا التي لا تميز بين المسلمين المعتدلين والمسلمين المتشددين وتضع الجميع في سلة واحدة، مستغلة الجهل والخوف. فالنخبة العلمانية في الجمهورية هي من غذت رسومات بذيئة بصحيفة شارلي إيبدو للاستخفاف بالمسلمين والاستهزاء برموزهم وعقيدتهم، بدعوى حرية التعبير، وبالمقابل تعمل على حظر (التجمع ضد الإسلاموفوبيا في فرنسا)، وتدافع عن العلمانية بشكل انتقائي ضد المسلمين وليس ضد الكاثوليك أو اليهود".
يعتبر بورغا أن الصراع في فرنسا بعد تصاعد عداء العلمانية المتطرفة ضد المسلمين، هو صراع بين أحفاد المستعمَرين وأحفاد المُستعمِرين الذين يرفضون مطالبة أبناء المستعمَرين بحقوقهم، ويشرح ذلك بقوله "فيمكن لعاملة النظافة في فرنسا ارتداء الحجاب دون أي مشكلة، لكن إذا أرادت المرأة ارتداء الحجاب، وتصبح أستاذة جامعية أو محامية، فهنا تتعالى أصوات الدفاع عن العلمانية".
لا يفرق بورغا في ازدواجية المعايير بين يمين فرنسا أو يسارها، متهما الأخير أنه ضد الدين، وليس لديه برامج لمعالجة الإسلاموفوبيا. ويرى أن وسائل الإعلام الفرنسية الكبرى ومنها القنوات التلفزية الإخبارية تصب الزيت على النار، وتسهم في نشر خطاب الكراهية والإسلاموفوبيا.
ويلخص بورغا مشكلة فرنسا في التعامل مع المسلمين، سواء في بلدانهم أو داخلها في كونها تتبنى فهم الأنظمة العربية ورؤيتها للحركة الإسلامية والحراك السياسي والاجتماعي بالعالم العربي والإسلامي، ولا تحترم الشعارات و"القيم الفرنسية" التي تبشر بها، وتفعل كما يفعل الغرب كله، في عدم تحمل المسؤولية ولوم ثقافة ودين الآخر، إذ استباحت القرآن والإسلام بصفته دين "الآخر الأجنبي"، ورفضت حرق الإنجيل أو التوراة.
يهاجمه الإعلام الفرنسي بين الفينة والأخرى، لأنه يخالف السردية السائدة حول التيار الإسلامي وأسباب التطرف الديني، ولأنه يحمّل الغرب المسؤولية في عدم دعم الديمقراطية بالعالم العربي والإسلامي، وفي الدفاع عن الاستبداد لأن انتخابات ديمقراطية نزيهة -في نظره- ستفرز الإسلاميين المنبثقين من مدرسة معتدلة يصفها بورغا بالعلمانية والديمقراطية والمنفتحة على قيم الحداثة.
تهمة معاداة الساميةالإعلام الفرنسي بدوره يعتبر بورغا صديقا ومدافعا عن الإخوان المسلمين، واتهمه عام 2014 بمعاداة السامية لأنه طالب بفصل المجلس التمثيلي للمؤسسات اليهودية في فرنسا عن الدولة، وباستقلال القنوات التلفزيونية الفرنسية عن تأثير إسرائيل. وتكرر الاتهام عام 2018 وأوائل 2019 استنادا لما وصفه بورغا بالأكاذيب وتحميل تغريداته ما لا تحتمل.
وتجدد الهجوم الإعلامي عليه عام 2020 بعد مساندته للمفكر السويسري طارق رمضان أثناء محاكمته بتهم الاغتصاب في فرنسا وسويسرا. وهوجم بورغا أيضا لتوقيعه عريضة تطرح عددا من الأسئلة حول تلك التهم.
واعتبرت صحيفة "ماريان" الأسبوعية الفرنسية، أن ذلك تشكيك في العدالة الفرنسية واتهام للقضاة بالتحامل على رمضان. ولم تتوقف الهجمات الإعلامية عليه واصفة إياه بالمدافع عن الإسلاميين والإخوان، بسبب منهجيته البحثية التي يغرد عبرها خارج السرب ويعارض سردية النخبة العلمانية المتحكمة في فرنسا.
لم ينحن للضغوط وانتقد عدوان الاحتلال الإسرائيلي على غزة بعد عملية "طوفان الأقصى" أكتوبر/تشرين الأول 2023، وانتقد الدعم الغربي الكامل غير المشروط للعدوان.
وتوجهت له سهام الإعلام مرة أخرى في بداية يناير/كانون الثاني 2024 واتهم بـ"تمجيد الإرهاب" بعدما أعلن في تغريدة على موقع إكس (تويتر سابقا) احترامه الكبير لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) وقال إنها تمثل إرادة الشعب الفلسطيني، مؤكدا أنه لا يحترم قادة إسرائيل، وذلك ردا على مقال في صحيفة نيويورك تايمز حول مزاعم اغتصاب وعنف ارتكبها المقاومون في حق الأسرى.
واجه فرنسوا بورغا ضغوطا عديدة في دول عربية وغربية للتأثير على طروحاته، وفي سعي لثنيه عن اللقاء مع رموز سياسية معارضة من الإسلاميين أو اليساريين وغيرهم. كما تعرض لضغوط اللوبي الموالي لإسرائيل في فرنسا، الذي لم تفلح أذرعه الإعلامية في النيل منه باتهاماتها المتعددة، ومنها أنه "يساري إسلامي".
ويبقى فرانسوا بورغا أحد أكبر الدارسين للثقافة العربية والإسلامية من واقع المعايشة والاحتكاك الميداني، وقدّم للغرب رؤية مختلفة للتيارات الإسلامية بمختلف مشاربها عما اعتاده من باحثين اشتغلوا على الجانب النظري والنصوص والجدليات الدينية والمذهبية الإسلامية وتفسيراتها بالعودة إلى التاريخ، ولم يخالطوا العالم العربي والإسلامي ولم ينصتوا إلى نبضه اليومي، وحَكَّموا خلفياتهم الأيديولوجية وما يريده صاحب القرار في الغرب فيما كتبوا، لا الحقائق الموضوعية على الأرض.
عبر مساره البحثي الطويل، أنتج وأشرف على إنجاز عشرات البحوث والدراسات، وألف كتبا مهمة من رحم البحث الميداني، وركز على التيارات الإسلامية بشتى توجهاتها، من انخرط منها في الحياة السياسية ومن قاطعها، سلط فيها الضوء على ديناميتها الداخلية المختلفة، وآرائها وتصوراتها، وكذلك كيفية نظر الغرب وفهمه لها. ومن مؤلفاته:
"الإسلام السياسي.. صوت الجنوب". "الإسلام السياسي في زمن تنظيم القاعدة". "فهم الإسلام السياسي: مسار بحث حول الآخر الإسلامي، 1973- 2016".المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: العالم العربی والإسلامی الحرکات الإسلامیة فی العالم العربی الإسلام السیاسی فرانسوا بورغا فی فرنسا
إقرأ أيضاً:
العالم العربي وزمن انحطاطه الجديد!
ما الذي يمكن قوله عن أمة أرادت من تلقاء نفسها أن تدخل في عصر الانحطاط الجديد، وهي التي لم تستطع بعد الخروج من عصر الانحطاط القديم.
أمة ضلّت طريقها، وتخلّى قادتها عن هويتها، وتاريخها، ووجودها، وثوابتها، وأصالتها، ومستقبلها. أمة لم تعد تميّز بين الذئب والحمل، بين المفترس والأليف، بين القاتل والمقتول، بين الغاصب والمغصوب، وبين العدو والصديق. أمة رماها حكامها في أحضان قتلتها، ومستبدّيها، ومستعبديها، ومستغلّيها.
أمة يقف قادتها إلى جانب قتلة أبنائها دون أن يرفّ لهم جفن، يغازلون بلا حياء مجرمي العصر، وهم يدمّرون أوطانها، ويبيدون أبناءها. أمة تُفترس، وشعوبها تستغيث بزعمائها، وهي تدري أنّ «حماة» الديار والأوطان انقرضوا، وحلّ مكانهم المتسكّعون على أبواب واشنطن وتل أبيب، فيما أضحت الأمة على الساحة مطوّقة، محاصرة، غاب عنها الفرسان وبقيَت وحدها الفرسُ !
أمة تقف على مشهد جديد يتكرّر، فاصل من الزمان، بين ماض غابر، وحاضر مظلم يتجذر، بين جحافل مغول تنشقوا ريح القتر، وقراصنة مارقون أتوا من وراء البحار، مجرمون نهابون شأنهم كالتتار، عبثوا بالديار، واستباحوها، وأوغاد الأمة المغفّلين، يهلّلون للقاتل، يطبّلون، وهم له العون والحرس.
عالم عربيّ يُستباح أمام ناظريهم، من غزة إلى لبنان، وسورية، والسودان، وليبيا، واليمن، والصومال، والآتي أعظم.
غزة تُمزّق، تُقطّع، وشعبها يُذبح، تُنادي «الرجال» القابعين داخل قصورهم، وهم فرحون، مهللون، يتفرّجون على صلبها، ويسمعون أنينها، تنظر إليهم بطرفة عين، وهي تلفظ الأنفاس، تمقتهم، تبصق في وجوههم المحنّطة، دون أن تجد فيهم ذرّة من الضمير والشعور الإنساني.
ليتك يا غزة تعيشين عصر الجاهليّة، لكان أشرف لك من الوضع الذي أنت فيه. عيب الناس في الجاهليّة أنهم لم يدركوا الإله الواحد الخالق قبل الدعوة، ومع ذلك كانت لهم في المقابل صفات الرجولة، والمروءة، والعزة، والكرامة، والاستماتة في صون العرض والشرف، والدفاع بكلّ قوة عن قبائلهم، وحفظ ديارهم، ونجدة مستغيثيهم.
أين الأمة و»رجالها» اليوم، من صفات أبناء الجاهليّة؟! هل صان القيّمون على أوطانها شرف أبنائها، وكرامتهم؟! هل حموا الديار من المغتصبين المعتدين المحتلّين؟! ما الذي فعلوه لك يا غزة لمنع ما قام به مجرمو العصر بحقك، قتلة الأطفال ومجوّعوهم؟! هل كان الجاهليّ ليرضى أن يسكت عن قاتل أخيه، أو أبناء قبيلته؟!
«أعراب» الحاضر، تخلّوا عن أبناء جلدتهم، لكن لماذا يغازلون القتلة، ويستضيفونهم في عقر دارهم حتى يرى العالم كله، مدى الانحطاط الإنسانيّ والأخلاقيّ الذي وصل إليه جاهليّو الأمة اليوم؟! هل حفظ هؤلاء ديار أوطانهم وشعوبهم مثل ما حفظ «الجاهليون» قبائلهم من قبل؟! الجاهلي الحقيقي في الوقت الحاضر، هو الذي فرّط بالأوطان والشعوب والقيم والمبادئ، وشارك في زعزعة العالم العربي، وأمنه القومي، ووحدة شعبه، وتخلّى عن الدفاع عن أرضه، ودياره؟! إنّهم الجاهليّون الجدد الذين فرّطوا بمستقبل الأمة، وتاريخها، وكرامتها، وحياة أبنائها.
لا تعيّروا بعد اليوم الجاهليّة القديمة، فلا عتب عليها، بل عيّروا في هذا الزمن، جاهليّي الأمة الجدد الذين لم يحفظوا العهد ولا الوعد، ولا العرض، ولا الشرف ولا الكرامة، ولا الديار، بعد أن بانوا على حقيقتهم المخزية، وسيرتهم، ومواقفهم المقززة التي سترويها عنهم أجيال وأجيال.
غزة، يا شهيدة الأمة، ألم يسمع حتى الآن «أولياء» الأمر في عالمك العربيّ العجيب، آهات الأمهات، وأنين الجياع وبكاء اليتامى، وصرخات النساء والشيوخ؟! ألم يسمع عديمو الضمير والإنسانيّة، الأطفال يصرخون جوعاً وخوفاً وألماً؟! لم تعد تعنيهم فلسطين، ولا العروبة، ولا الشرف، ولا النخوة ولا الأمة كلها، بعد أن فقدوا كلّ معاني الكرامة والعزة، وسخّروا أنفسهم لقوى الهيمنة والعدوان!
هذا هو الانحطاط الذي يغوص فيه العالم العربي، والذي سيستغرق وقتاً طويلاً، قبل أن تستفيق الشعوب العربية من غيبوبتها، وتستعيد وعيها من جديد. انحطاط لا مثيل له، صنعه الذين ابتُليت بهم الشعوب العربية، وآثروا الخنوع، والانبطاح والسجود لواشنطن، التي يرون فيها ضمان سلطتهم، والملاذ الآمن لهم.
إلى متى سيظلّ الأميركي يُهيمن، يقرّر، يأمر، والإسرائيلي يجتاح، يستبيح، يبطش ويقتل؟!
لم تعُد فلسطين عند هؤلاء، قضية العرب المركزية وإنْ زايدوا، وكذبوا، ونافقوا، وخدعوا شعوبهم بها على مدى عقود طويلة. لقد بان كلّ شيء، ولم يعد خافياً على القاصي والداني، فالأقنعة سقطت عن الوجوه السوداء، التي آثرت أن تهرول باتجاه العدو في تل أبيب، تظرفه، تشجّعه، ترتمي في أحضانه، تعطيه صكاً على بياض، ليفعل ما يشاء، وكيفما يشاء، بدول المنطقة وشعوبها، بعد أن تخلّت عن مبادئ الأمة وحقوقها كلها، حيث لم يعد يعنيها ووجودها وحرية شعوبها وسيادتها!
إنه عصر الانحطاط الجديد الذي دخل ديار العرب من كلّ الجهات… حروب، وثورات، ونزاعات، واقتتالات دموية داخلية، وفتن، وانقسامات، ونعرات دينية وطائفية، وتنظيمات تكفيرية همجية لا حدود لها، ستترك آثارها السلبية، وتداعياتها الخطيرة لعقود طويلة، بعد أن زجّت دول عربية نفسها في الصراعات، ووقفت مع جهة ضدّ أخرى، مما أسفر عن مزيد من الفوضى والاقتتال، وسفك الدماء، وزعزعة الاستقرار !
إنّه عصر انحطاط، يتمّ هذه المرة، ويا للعار، نتيجة القرارات العقيمة، والمواقف المخزية، والسياسات المدمّرة التي لجأ إليها قادة وحكام عرب لهم براعة كافية في الهروب من قضاياهم المصيرية، وخبرة وافية في وأد الأوطان وخنق شعوبها!
كم هو مؤلم الصمت القاتل لقادة تجاه ما يحدث في العالم العربيّ، وكم هو محزن ومؤلم في الصميم، أن نجد الجاهليّة أكثر أصالة، وشرفاً، وإنسانيّة من العديد من «قادة» وسياسيين في العالمين العربي والإسلامي!
إنها صدمة حضارية وأخلاقية نعيشها، حيث تحتاج الشعوب المقهورة في العالمين العربي والإسلامي إلى انتفاضة، ووعي حقيقيّ، وقرارات حاسمة شجاعة، يعيد لها سيادتها، وكرامتها، وحقوقها المشروعة، ومكانتها في العالم.
هل سمع المتخاذلون، المتواطئون، المحنّطون، في العالمين العربي والإسلامي، أصوات العديد من السياسيين، والمسؤولين، والنواب والحقوقيين، والناشطين الأجانب، وهتافات الحناجر الشريفة في الغرب، الذين تأبى إنسانيتهم، ويأبى ضميرهم أن يسكتوا عما يشاهدونه من أبشع جرائم العصر على الإطلاق، وإبادة جماعيّة بحق سكان غزة التي يرتكبها جيش الاحتلال؟!
غزة تحتضر أمام عديمي الشهامة والإنسانية، فيما ضمير غربي يصحو وينتفض، وضمير عربي يغفو ويحتضر.
شتان بين ضمير الأحرار وذلّ العبيد، في عالم عربي يدوّن تاريخه في أحضان واشنطن وتل أبيب…!
*وزير الخارجيّة اللبناني الأسبق