نقد أدبي: «فومبي» بين التاريخ والتخييل وتعدد الذوات الساردة
تاريخ النشر: 24th, January 2024 GMT
بين التاريخ والتخييل وتوظيف تقنيات السرد الحديث، قدمت لنا الشاعرة الروائية بدرية البدري روايتها «فومبي» التي تمكنت من أن تستدعي التاريخ وتؤرخ الرواية حتى نعيش أحداثها التي وقعت في «الكونغو» الإفريقية والحواضر الأوروبية إبّان حكم ليوبولد الثاني في بلجيكا.
الرواية تفتح أبواب رحلتها لتطأ الفواعل السردية أقدامها على المسارح الزمكانية حتى تنسج الأحداث عبر سرود منفصلة ومتمازجة في آنٍ واحدٍ تكمل بعضها البعض في سيرورة تأخذ صعودًا ونزولًا لما تختلج في نفوس الشخصيات من نوازع وآمال وتقابلات مع الآخر.
«وقررت أن أحصل على مستعمرتي الخاصة بطريقتي الخاصة بعد أن تأكدت أن المستعمرات لا تشترى بل تؤخذ بالقوة فإن عُدمت القوة عليك بالحيلة.. والاستمتاع برؤية الأراضي المنبسطة بامتدادها اللانهائي وتأمل صناديق الذهب والألماس المتهادية فوق رؤوس العبيد كنجوم تحرس عتمة الليل بينما أكون أنا القمر الوحيد الشارق في تلك البقعة» (فومبي ص 32).
وما تتميز به الرواية هو منح فضاءات للذوات الساردة على عرصات السرد فها هي «ستانلي» الشخصية الطموحة التي تسعى لتخلق مجدا لها من خلال الخداع والكذب والتزلف إلى مراكز السلطة -ولو أنها تشطبها عند الحصاد- وقبل أن تطأ أقدامها مجاهيل إفريقيا تلوك ببعض أسئلة في حديثها مع النفس:
«هل هي البلاد التي يعيش فيها ذوو القدم الواحدة والرؤوس الثلاثة؟ أو تلك التي يأكل سكانها لحوم بعضهم البعض؟ لماذا لايرجع أغلب من يسافرون إليها.....» ( فومبي ص35). تبدو الأسئلة تعبيرا لما تجهله الذات حيال الآخر ولكنها في الواقع تحمل في عمقها تصورا لا إنسانيا تجاه الإفريقي/ الآخر وتمهد لبشاعة الفعل الأسطوري بحق سكان إفريقيا (حسب تصور الذوات الساردة الكولونيالية). ولكن لقاء ستانلي مع ليفنجستون؛ الشخصية الأوروبية السمحة التي عشقت حمل نبراس الهداية بصدق واحتكت بالشخصيات الإفريقية وجالستها على موائد النور والمودة، تحطم التفوق والقداسة عن الآخر في محاولة لفك الخطاب الاستعماري وذاك حين تسرد موقف ليفنجستون مع الأسد في الأدغال:
«أخبرني أيضا عن حادثة أخرى كاد أن يفقد فيها حياته عندما هاجمه أسد ضخم ورفعه في الهواء من يده العاض عليها ولولا أن مبالو -رفيقه الإفريقي الذي كان يصحبه –أطلق الرصاص على الأسد لكان التهمه......» (فومبي ص 42).
وفي عرض صورة عن الأنا أمام الآخر تأتي شخصية «بينغا» التي تمثل كأخواتها سكان القرى تلك الثنائية كما أنها تعد من الشخصيات المحورية بفعلها اللفظي والدلالي، حيث جمعت هذه الشخصية بين ألوان الثقافة المحلية وأثواب حضارة الآخر ليكون حصاد هذا الاحتكاك «شخصية هجينة» تعيش حالة من الضياع بين الهوية المستلبة والحاضر الممزَّق بين فَكي الاستعمار وانشطار ثورات أرضها التحررية بهمجية العدوان الغاشم فتركن إلى وحدتها ترنو إلى أسنة النيران ودخانها علّ نجمة تسطع فتهتدي بها إلى خفة روحها وتحليقها في سماء الحرية:
«اليد التي كانت تطلق السهام لتصطاد الظباء أصبحت تطلق الحبر لتكتب الحروف بعد أن تعلمت الكتابة باللغة التي يتحدثون بها هنا كما تعلمت التحدث باللغة ذاتها رغم أني كنت أظلّ صامتًا غير معني بالأحاديث الدائرة حولي...تمسكت بالسارية والموج يضربني لعلي أتمكن من مقابلة الشيطان وجها لوجه أو أذهب إليه في عمق المحيط وأنتقم لكل أحبتي الذين رحلوا على أيد أعوانه الذين بعثهم إلى غابتنا المسالمة.....» (فومبي ص 238). فنلمس فيها عداوة دفينة تجاه الآخر وتفاعلا لا يرتقى إلى الحوار البناء والتلاقح. قد دأبت النزعة الكولونيالية أن تجرد الآخر من ثقافته وموروثه وتأتي بتصورات مسبقة عنه -الخَمُول ومقطِّع أوصال البشر- ولكن رواية «فومبي» خالفت هذه النزعة ومنحت للشخصيات الإفريقية دورها في العملية السردية والخطاب وبالأحرى شخّصت الآخر لتأخذ موقعها في المربع السيميائي كاشفة عن أهوائها وتفاصيل ملامحها وأزماتها. وهكذا استطاعت رواية «فومبي» أن تعرض لقرائها جدلية «المستَعمِر والمستعمَر» والثنائيات الضدية: القوي /الضعيف، الأسود/الأبيض، فحولة الذكر/انكسارات الأنثی و.... وأصواتا تختلف رؤيتها حيال الاستعمار بين من يكشف عن عوراته ومثالبه وتلفظه جملة وتفصيلا ومن يعده فعلا شرعيا ليُخرج العباد من الظلمات إلى النور ولكن قد يتعثّر المنقذ المحرِّر في رحلته الإنسانية المزعومة ويقع في شراك الأطماع فيعكر صفوةَ الفعل الاستعماري !!
«فومبي» سـتنال مكانتها المرموقة بين سرديات ما بعد الكولونيالية عربيًا وعالميًا بنكهتها الأنثوية العربية العمانية حيث تكشف عن إحاطة وإلمام الشاعرة الروائية بدرية البدرية بالتاريخ وحذافيره وبتقنيات السرد الحديث وتوظيفها ببراعة في المبنى والمتن السرديين وعن لغة مرهفة متوهجة تُشوّق ولا تُملّ.
الدكتور سيد علي مفتخر زاده باحث ومترجم إيراني
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
التراث هوية..هل يمكن التملُّص منها؟
من البديهي أن ما وصل إليه البشر من نتاج معرفي (إنساني أو تجريبي) ما هو إلا تراكم خلّفه الناس -وما زالوا-؛ إذ من الطبيعي ألا يُنجِزَ كلَّ التجارب ونتائجها فردٌ بذاته، ولا يُحمَد -ما وصلنا إليه من رخاء وسهولة عيشٍ- إلا تلك التجارب المتراكمة التي تضفي على الرخاء رخاء فوقه، وعلى اليسرِ يسرا عليه.
وعند الرجوع إلى التجارب المتراكمة من آبائنا -آباءِ كلِّ البشرِ- فليس كلها مما نعيش منه رخاء أو حتى فكرة ملهِمَة؛ إلا أن كل تلك التجارب -بشكل مباشر أو غير مباشر- ساهمت في تشكيل ما وصلنا إليه من وعي؛ فضلا عن مساهمتها في جعل الوعي ذلك عيشا سهلا، ولا تزال السهولة تتراكم بمرور الوقت ومرورنا.
عند إلقاء نظرة عامّة على موقف الناس من التراث؛ يتبادر إلى الذهن حالان متضادَّان: (الآخذ له كلَّه)، و(المهمل له بما حَمَل واشتَمَل)، ولا يخفى عليك ما لأخذِ الأمور بحدّية من نتائج مذمومة... فالآخذ للتراث كلِّه لا يسلم من مغبّة الوقوع في وهم أنَّ ذلك التراث بكلِّيَته يصلح له الآن؛ فيصطدم بواقعه اصطداما غير محمود العواقب، ويعيش فصاما يجعله «لا هو نال من التراث جمالَه، ولا من الواقع يسرَه».
أما المهمِل للتراث بما حمل واشتمل، فغالبا ما يعيش حالةَ غُربةٍ في الهوية، يرجو من أصل غيره ليحتويه، وجذر -لذاك الغير- ينبت منه، كمن يبحث عن ظله عند غيره؛ فاستحالة أن تختار بطنا يلدك، تماما كاستحالة التنكر لتراثك وتجربة آبائك؛ فواقعك الكائن فيه بما خلَّفه لك من تراث لا سبيل منه سبيلا حسنا ذا فائدة إلا بأخذك المفيد منه، وردك الفاسد إليه، ولا تتعجّل في ردِّ -ما تظنه فاسدا- فقد يكون ذا نفع لسابقك بظروفه هو، وظروفك لا تسمح به؛ فتمهل.
وواقع الحال أن تمظهرات رؤية الناس للتراث في واقعنا العربي الإسلامي قد تظهر في أمرين -ظاهرهما متصل إلا أنني فصلتهما تسهيلا لقراءة الوضع- هما: الأول (تربية النشء)، والثاني (التنظير الفكري)، فتربية النشء مرجعها الخلفية الفكرية لأبويه أو لمحيطه القريب؛ فعند تنشئة الصغير على ثقافة لا تتصل بواقعه المتراكم وجذوره البعيدة، فإنه يصطدم عندما يكبر بأنه لا استمسك بأصله، ولا الآخر قَبِل به في هويته التي استوردها منه؛ فيعيش حالة من اللهث بما عند الآخر والجري وراءه، وحال النشء المتربي في بيئة تجعل من الموروث مقدَّسا كله، لا مساس فيه ولا نقد، يكون ردة فعل لاحقة كون الواقع يصدمه بأن تلك القداسة لا تصمد، بل ويمكن نقضها.
أما ما يتعلق بالتنظير الفكري؛ فإن أمر الناس فيه يتطابق في الضدين، إما بالأخذ للتراث كله أو إسقاطه كلّه، وهنا أود الحديث أكثر عمَّن تكون له نظرة الإهمال والإسقاط للتراث، ويراه عبئا ينبغي التخلّص منه، بل يراه مانعا لأَنْ يتقدَّم، وهذا النوع يعيش وهما لبرهة -طويلة أو قصيرة- لا يصحو منه إلا ببيان أن الآخر لا يقبلك إلا إن كنت من بني جلدته ولونه، بل الآخر يتطلَّع -والعالم كله اليوم- إلى ما هو مختلف وذو خصوصية، وهذا ليس مبررا لترجع إلى تراثك، بل ذلك دافع ما من أحد الدوافع، والدافع الأهم أنك لن تجد مكانك في هذا العالم -فردا كنت أو جمعا- إلا بالبناء على جذرك، والانطلاق من أصلك؛ بالاستفادة منه والبناء إلى ما انتهى إليه، هذا بدون أدنى شك مع استفادتك من الآخرين لكن شريطة ألا تتماهى معهم.
اختلاف الناس وتباين رؤاهم (ولذلك خلقهم ولا يزالون مختلفين)، هو الثراء للبشرية، وهو سر التدافع الذي به تتقدم البشرية للوصول إلى عيش أكثر رخاءً واستقرارا؛ فما من دين أو مذهب أو اتجاه ما إلا وُجِدَت فيه خلافات من أتباعه بل وحتى من مؤسسيه، وعند تأملنا -بنظرة شاملة- في ذلك لا نجد إلا الثراء في ذلك الاختلاف الذي يشكل توازنا؛ لئلا يطغى طرف على آخر (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).